الشيخ القاضي محمد كنعان
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبيينا محمد وآله الطيبين الطاهرين واصحابه الأخيار المنتجبين ومن تبعهم بإحسان إلى قيام يوم الدين.
أعظم الله لكم الأجر بمصاب سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سؤال يطرحه كثيرون ومن حقهم أن يطرحوه ومفاده لماذا لم يخرج الإمام الحسين عليه السلام في عهد معاوية طالما أن الظروف التي حتمت عليه الخروجه هي نفسها؟؟ خاصة إذا لاحظنا أن شرعية الخروج كانت قائمة بدليل أن الحسين عليه السلام نفسه قال ذلك لمعاوية في كتاب له إليه.
وفي الجواب يحسن بنا أن ننقل نتفاً من ذلك الكتاب قبل أن نلج في عميق الإجابة على هكذا سؤال: "فقد ذكر نص الكتاب كل من صاحب أعيان الشيعة السيد الأمين وابن قتيبة في الإمامة والسياسة ونصه التالي: "أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور أنت لي عنها راغب وأنا بغيرها عندك جدير فإن الحسنات لا يهدي إليها ولا يسدد إليها إلا الله تعالى. وأما ما ذكرت أنه رقي إليك عني فإنما رقاه إليك الملاقون المشاوؤن بالنميم المفرقون بين الجمع وكذب الغاوون ما أردت لك حرباً ولا عليك خلافاً وإني لأخشى الله في ترك ذلك منك ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين الملحدين حزب الظلمة وأولياء الشياطين ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستفظعون البدع ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا يخافون في الله لومة لائم؟ ثم قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعدما أعطيتهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة ألا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم جرأة على الله واستخفافاً بعهده أولست قاتل ابن الحمق صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العبد الصالح فقتلته بعدما آمنته. أولست المدعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد بن ثقيف؟ فزعمت أنه ابن أبيك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر فتركت سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبعت هواك بغير هدى من الله ثم سلطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ويسمل عيونهم ويصلبهم على جذوع النخل كأنك لست من هذه الأمة وليسوا منك. أولست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية أنهم على دين علي صلوات الله عليه فكتبت إليه أن اقتل كل من كان على دين علي فقتلهم ومثل بهم بأمرك ودين علي هو دين ابن عمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك وبه جلست مجلسك الذي أنت فيه وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ولدينك ولأمة محمد واتق شق عصا هذه الأمة وأن تردهم إلى فتنة وإني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها ولا أعظم نظراً لنفسي ولديني ولأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أن أجاهدك وقلت فيما قلت إن أنكرك تنكرني وإن أكدك تكدني فكد ما بدا لك فإني أرجو أن لا يضرني كيدك وأن لا يكون على أحد أضر منه على نفسك لأنك قد ركبت جهلك وتحرصت على نقض عهدك ولعمري ما وفيت بشرط ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والإيمان والعهود والمواثيق ولم تفعل ذلك إلا لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقنا وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنة وقتلك أولياءه على التهم ونفيك أولياءه من دورهم إلى دور الغربة".
إن المتأمل في حنايا هذا الكتاب العظيم الذي يعد بجد من أهم الوثائق التي أضاءت تلك الحقبة من التاريخ. فقد بين فيه عليه السلام كل ما أراد الآخرون إخفاءه فهو يظهر نقض معاوية للعهد والميثاق الذي أبرمه مع الإمام الحسن عليه السلام بقتله المؤمنين وتنكيله بهم وتهجيرهم محدداً أصل الصراع وقطب رحاه وهو حب أهل البيت عليهم السلام ومعرفة حقهم والولاء لهم، مبيناً أن القتل وانتهاك الحرمات لم يكن عن شبهة أو وشاية بل كان عن سابق تصور وتصميم وعن مخطط مدروس عنوانه الإنقضاض على مبادئ الإسلام السامية ليحل محلها قانون الإستئثار والمصالح الشخصية لأن ادعاء مثل زياد لأبيه إنما هو النقيض للحكم الشرعي. وما تعمد الحسين عليه السلام أن يعدد هذه المثالب إلا ليكرس عدم شرعية معاوية في الحكم حتى ولو انتزع الصلح انتزاعاً من قبل فإن مخالفته الشريعة والدين يزيدان في فقدانه لتلك الشرعية لكن أهم ما ورد في الكتاب أنه يصرح عليه السلام بأن جهاد معاوية على تصرفاته وآثامه واجب شرعي وهنا سدد الإمام ضربته الرائعة بأن جعل توقيت ذلك الجهاد بيده وتفعيله تحت سيطرته لأن جهاداً لا يكون بتوقيته المناسب لا يؤتي ثماره وأكله المرجوة فقد يكون الأداء عسكرياً غير مشفوع بمظلة عقلائية موضوعية تؤمن له الفعالية والفلاح وبالاً على أصحابه وسلاحاً ذا حدين. فقد كان الإمام الحسين يخمر النفوس لتقبل خروجه لا لأجل نصرته تكثير عديده بل لأجل أن يؤتي خروجه ثمار إخراج الأمة من حالة خدرها ونومها. وبدأ أول ما بدأ بأن كرّس عدم شرعية ما يجري فإن كان الناس ممن يعتقدون بإمامته فيجب عليهم اتباعه في ما يقوله ويرشدهم إليه وإن كان الناس ممن يرونه واحداً من أهل الحل والعقد بل وعظيمهم فإن ما أرشد إليه دل على أن أهل الحل والعقد لا يرضون بمعاوية وأمثاله حاكماً يحظى بشرعية ولكنه عليه السلام أبقى المسلمين في حال من التحفز بانتظار الساعة التي يحددها فقد رد على سليمان بن صرد الخزاعي حين سأله الخروج بقوله: ليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته ما دام معاوية حياً فإنها بيعة كنت والله لها كارهاً فإن هلك معاوية نظرنا ونظرتم ورأينا ورأيتم. ما هي إذن العقبة التي يشكلها معاوية وزمانه. هذا ما سنتحدث به إن شاء الله.
وما زلنا في أجواء السؤال الذي عالجنا قسماً من الإجابة عليه سابقاً وهو لماذا لم يتم خروج الحسين عليه السلام في زمن معاوية طالما أن النظام الحاكم هو نفسه والأسباب هي نفسها، وكنا قد أسلفنا أن الإمام عليه السلام في إحدى كتبه إلى معاوية كرس وبالأرقام والأمثلة نقض معاوية للعهد والميثاق واستحلاله الدم والمال الحرام والوقوف في مواجهة خط أهل البيت عليهم السلام مما جعله فاقداً للشرعية مجدداً واقصد أنه أعاد للأذهان ما حاول معاوية تعميته وهو أنه لم يكن أبداً ذا شرعية في حركته السياسية أو على مستوى سلطته التنفيذية.
ولو خرج الحسين عليه السلام في زمانه لاستشهد كما حصل بعد ذلك لكن لم يكن لاستشهاده ذلك الدوي لعدة أسباب منها أن معاوية كان حريصاً على إسباغ لبوس ديني شرعي على تصرفاته ولو من قبيل شراء الوضاعين للأحاديث أو استمالة وعاظ السلاطين أو تجميع عارضي البضائع الدينية لإضفاء تلك المسحة التي ترضي الأكثرية من البسطاء فضلاً عن تطويقهم من نواحٍ أخرى بالترهيب تارة والترغيب أخرى. فلو قام الحسين عليه السلام لوجد معاوية وأعوانه ما يجيبون به الناس من قبيل اتهامه بأنه كان طالب سلطة أو خارجاً عن القانون ولما كان لقتله آنذاك أي استنكار في أوساط المجتمعات الإسلامية لأن معاوية بالتحديد كان يملك أكثر من وسيلة تعمية على الأهداف الأساسية التي يضحي من أجلها الحسين عليه السلام. ومن جهة أخرى فإن عهداً وميثاقاً قد وقع بين الحسن عليه السلام ومعاوية، وصحيح أن معاوية لم يفِ بأي بند من بنود الصلح لكن الناس بطبيعتها التي تميل الدعة والمهادنة كانت سترى أن الحسين قد تمرد بشكل غير مشروع فقد نقل السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء والشيخ المفيد في الإرشاد أنه لما مات الحسن بن علي عليه السلام تحركت الشيعة بالعراق وكتبوا إلى الحسين في خلع معاوية والبيعة له فامتنع عليهم وذكر أن بينه وبين معاوية عهداً وعقداً ولا يجوز له نقضه حتى تمضي المدة فإذا مات معاوية نظر في ذلك، إذن فإن أي قيام لن يكون مضمون النتائج أقصد بالنتائج هنا غير المكسب العسكري قطعاً بل ما حققه الحسين عليه السلام بعد ذلك، وقد أطبقت كلمة المؤرخين على أن صبر الحسين أثمر في نهاية المطاف إذ ما لبث معاوية أن هلك وكان هناك انقلاب في أفكار الناس تجاه الحكم، ولعل فيما قاله طه حسين في هذا الصدد كفاية حيث أنقل نصه بهذا الخصوص: ((ومات معاوية حين مات وكثير من الناس وعامة أهل العراق بنوع خاص يرون بغض بين أمية وحب أهل البيت لأنفسهم ديناً)).
ويحسن هنا أن نشير إلى وضوح الرؤية بشكل ساطع فلم يعط الحسين عليه السلام أي شرعية للبيعة التي أخذها معاوية لولده يزيد في حياته حتى بلغ به الأمر أن يحرم بني هاشم من أعطياتهم حتى يبايع الحسين ومع ذلك لم يفعل بل فند للتاريخ مزايا شخصية يزيد في كتابه لمعاوية الذي يقول فيه: ((وفهمت ما ذكرت عن يزيد في اكتماله وسياسته لأمة محمد، تريد أن توهم الناس في يزيد كأنك تصف محجوباً أو تنعت غائباً أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص. وقد دل يزيد من نفسه على موضع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ فيه من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السبق لأترابهن والقيان ذوات المعازف وضرب الملاهي تجده باصراً ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقي الله من وزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه فوالله ما برحت تقدح باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم، حتى ملأت الأسقية وما بينك وبين الموت إلا غمضة)) ثم ما لبث عليه السلام أن جاهر برأيه عندما لم يكن بد من المجاهرة فقد كتب معاوية إلى الوليد بن عتبة واليه على المدينة يقول له)) أما بعد فخذ حسيناً وعبد الله بن عمر وابن الزبير بالبيعة أخذاً ليس فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام)).
فدعا الوليد الحسين عليه السلام فأجابه قائلاً: مثلي لا يبايع سراً ولا يجتزئ بها مني سراً فإذا خرجت للناس ودعوتهم للبيعة ودعوتنا معهم كان الأمر واحداً فانبرى مروان بن الحكم قائلاً للوليد: لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ولكن احبسه فإن بايع وإلا فاضرب عنقه، فصاح بالحسين عليه السلام: ويلي عليك يا بن الزرقاء، أنت تأمر بضرب عنقي كذبت ولؤمت ثم أقبل على الوليد وأطلق شرارة مشروعه التاريخي بقوله: أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا يختم ويزيد فاسق فاجر شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق والفجور ومثلي لا يبايع مثله. لقد أوضح عليه السلام الخط الدقيق الفاصل بين أن ترضخ الأمة للحكم الظالم مع علمها بأنه ظالم وبين أن ترضخ وهي ترى أنه حكم شرعي لا يجوز الإنقضاض عليه.
أيها الأخوة إن أدنى تبصر في مواقف الحسين عليه السلام من خلال تسلسلها يدرك عميق ما كان يرمي الله لذلك كله آثر أن تتخمر الظروف ويتوالى فشل الجهاز الحاكم ويكثر الناقمون عليه، وكانت الفرصة التاريخية التي تمثلت بشخص يزيد على رأس السلطة مع ما كانت تستبطنه شخصيته من تهور وسطحية وبعد عن الحذر والحيطة والتروي، وهو ما ظهر جلياً في معالجته الفاضحة لنهضة الحسين عليه السلام وفي استباحته المدينة المنورة بعد ذلك وفي محاصرته مكة وضرب الكعبة المشرفة بالمجانيق. هذا هو الحاكم الذي تنمو في فترة حكمه بذرة الإصلاح التي دسها الولي ابن الأولياء أبو عبد الله الحسين في تراب وجدان الأمة وعميق دفائن تراثها.
...................
https://telegram.me/buratha