د.أمل الأسدي ||
فرشت عبايتها ونامت
ومن شافت الخطار گامت
إذا كنت تهوی التجوال في الكاظمية؛ فتعال معنا لنعود الی خمسينياتها، لنمر من بيت السيد عيسی الحصري الموسوي في القطانة، ونری آثار الحناء الرطبة علی جدرانه، ونشم رائحتها، ونستمع إلی أحد المارة وهو يضرب بكفه جدار البيت ويقول: دخيل بختكم!! دخيل جدكم!!
ويتمتم بدعواته ويمضي، ومن هذا البيت جاءت
" العلوية مريم" ابنة السيد مهدي، ابن السيد أحمد، ابن السيد عيسی، ومن هذا البيت انتقلت إلی بيت زوجها" جاسم محمد الأسدي" في الكرادة.
وفي الستينيات لم تكن الأمُّ كما هي الآن في أكثر الأحيان، كانت لصيقةً ببيتها وزوجها وأولادها حدّ الأنفاس، فلا فيسبوك ولا فضائيات ولابرامج تحرضها علی ترك بيتها، والترفع عن خدمة زوجها وأولادها!! كانت الأم تستلذ الحياة المنزلية، وتهوی(لمة الأهل) ولم يكن في معجمها مفردات الملل، والمن، والضجر، والتكبر، والكراهية، والمنفعة، والمادة...الخ
وفي بغداد، وكرادتها الأنيقة، كانت البيوت عامرةً بقصص المحبة والاحترام، فمنذ الفجر تفوح رائحة الچاي المهيل والحطب، لتجتذب القلوب، وتبدأ حكايات الشمس المشرقة مع الجيران، وعند عتبة بيت الحاج جاسم الشيخ محمد الأسدي، يجتمع الأحبة ليستمعوا إلی قصصه الحكيمة، وليستمتعوا بـ(استكان الچاي) ومنظر(القوري الفرفوري) والجمر، ثم ينصرف الجميع لأعمالهم قُبيل الساعة الثامنة، وتدخل السيدة النخلة(العلوية مريم) لتبدأ عملها المنزلي الذي تحبه، وبينما ينشغل البنات وزوجة الابن بأعمالهن حتی تفوح رائحة النظافة، وتشرق صورة البساطة المنظمة بدقة!! بينما يحدث ذلك؛ تكون العلوية قد عجنت العجين، وطبخت، وسينضج طعامها قريبا، ورائحة البامية والتمن العنبر ملأت الغرف!!
وها هو العجين قد اختمر، وستخبزه الآن في تنورها الطيني، وتخبز معه محبتها وضحكتها، لتقدمها ساخنة لأولادها وزوجها!!
خبزت ونزلت ووجها الأبيض قد تشرّب بحمرةٍ ساحرة، ومع تعبها مازالت الابتسامة تعلو وجهها!! جلست ومدّدت رجليها وأخذت تجمع الخبز، وتتحدث إلی بناتها وتوصيهن:" يمة من أموت گولن:
فرشت عبايتها ونامت
ومن شافت الخطار گامت
وگولن: لاعلموني علی الگليل
ولاركبوا جدر الصغير
آنه مدللة ورباة خيّر
ومع كلمة " اسم الله عليچ، عمرچ طويل يمة" رُفع أذان الظهر، واقترب موعد عودة(حجي جاسم) من الحسينية... وما إن وصل حتی أسرعت العلوية لتسكب الطعام بنفسها، ولابد أن يكون أول ماعون له، وأفضل قطع اللحم وأكبرها له! هكذا تصنع العلوية في كل يوم، محبة واحتراما لرب الأسرة!!
جلسوا جميعا لتناول الطعام ، الذي بدا شهيا أكثر مع صوت الأب الحنون وكلامه الجميل، وحكمه الفريدة، ومثل كل يوم، يخرج الأب قطع اللحم ويضعها أمام زوجة ابنه وبناته، ومهما قالوا له: كل أنت فأطباقنا فيها أيضا، لايسمع ولايرضی، فسعادته فيما يفعل!!
مع هذه اللمة وفي هذه الظهرية، يخدر الچاي، وتفوح رائحته، ويفوح معها عبقُ زمنٍ نقيٍّ، كله وجوه رحيمة!!
فالسلام علی أهلنا وطيبتهم، وفطرتهم ومحبتهم!
والسلام علی تلك الظهرية المليئة برضا الله وطاعته، المليئة بالأدب والذوق والحنان.
ــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha