د.أمل الأسدي ||
⭕ مشاهد الطفولة في القرآن الكريم:
إن القرآن الكريم وهو الدستور الإلهي والرسالة الخاتِمة التي أراد بها الله تنظيم حياة الإنسان والمحافظة علی حقوقه،وإلزامه بواجباته تجاه الآخر وتجاه البيئة التي يعيش فيها،لم يغفل عن رعاية حقوق الطفل بالشكل الذي يضمن له أن ينشأ نشأةً نفسية وجسدية سليمة،فقد أكد وشدد علی رعاية اليتيم وإنصافه والعناية الفائقة به وذلك في قوله تعالی:((فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ)) . فلفظة اليتيم تُطلق علی الصغار الذين لم يبلغوا الحلم،واليتم هو: الانفراد،واليتيم هو الذي فقد أباه. وقد حرص القرآن الكريم علی حماية أموال اليتامی والمحافظة عليها الی حين بلوغهم سن الرشد كما في قوله تعالی:((وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا ۚ ...)) .
ولم يهتم القرآن الكريم بتأمين الجانب الاقتصادي لليتيم وحسب،بل أكد علی مراعاة حالته النفسية،فاليتيم قد تؤذيه الكلمة العابرة،أو النظرة القاسية،أوالنبرة الغليظة،فهو فضلا عن طفولته التي تقتضي رقته ونعومته ورهافته،هو يتيم مفتقد للكف الحانية التي تحن عليه وترعاه وتكفيه صعوبة الحياة وقسوتها.
ومن مشاهد الطفولة الأخری في القرآن الكريم،مشهد النبي موسی(ع) وهو المشهد الأكثر وثاقة بموضوعنا؛لأنه يبين استهداف الطغاة للطفولة،ففرعون بجبروته وسطوته قد أرقته الطفولة،وراح يقتل كل طفل وليد،إلی أن وصل الدور الی النبي موسی(ع)فنجاه الله من كيد فرعون وبطريقة غريبة،إذ أمر أمه أن تلقيه في اليم،وبالفعل استجابت الأم الی الوحي ورمت وليدها في الماء ليتلقطه فرعون وجنوده،وحين همّ بقتله تدخلت السيدة المؤمنة(آسيا بنت مزاحم) وخلصته من يد الفرعون الظالم كما في قوله تعالی:((وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)).
إذن في قوانين الطواغيـ.ت لايتم التفريق بين الصغار والكبار،الرجال والنساء،الكهول والشيبة،فللسلطة لذة وللحكم سطوة تخرج الحاكم من آدميته وإنسانيته،ليتحول الی مخلوق متوحش،فيسفك الدماء من أجل السلطة.
⭕ الطفولة بين النهج الأموي والنهج البعـثي
إن التأريخ قدم لنا نماذج خالدة في الحق،صارت مفهومات جارية لها مصاديق في كل عصر ومصر،ومثلما قدم لنا نماذج مثلت الحق وخطه،قدم لنا نماذج مثلت الباطل بأبشع صوره وأفظعها،بقيت علامة تأريخية تدل علی خروج الإنسان عن آدميته وعن مفهوم الخليفة الذي أعده الله له،وقد بينا آنفا كيف استهدف فرعون الأطفال بالقتل والتنكيل،ولكن الأنموذج الأبرز في خط الشر والباطل هو يزيد بن معاوية،الذي مثل سياسة الحكم الأموي المتسلط المستبد،ففي سبيل السلطة والتأمر علی الناس واستعبادهم داس علی كل شيء،علی الدين والشريعة،علی أهل البيت والصحابة،علی حرمة الكعبة ومكانتها؛لذا خلد اسمه في سجلات المجرمين المعتدين،فقد سلط جيشا مدججا مسلحا ضد ابن بنت رسول الله الأعظم وأهل بيته،ويفترض أن عدوه ـ وبحسب وجهة نظره- هو الإمام الحسين الذي رفض مبايعته قائلا قولته الخالدة(ومثلي لايابيع مثلك) إلا أنه عدّ أهل بيت الرسول(عيال الإمام ونساءه) عدوا له أيضا !!
فقتلُ الإمام وأهل بيته وأسر النساء كان هدفا يسعی اليه جيش الأمويين التزاما بتوجيهات الخليفة القاتل!!
ولايمكن لأي بشرٍ سوي، يخفق بين ضلوعه قلبٌ أن يتصور مدی إجرام الخط الأموي،فحين بكی الطفل الرضيع(عبد الله) عطشا وجوعا،رفعه الإمام الحسين أمام الجيش مستعطفا قلوبهم عسی أن يجودوا عليه بشربة ماء قائلا:[ياقوم قد قتلتم شيعتي وأهل بيتي،وقد بقی هذا الطفل يتلظی عطشا فاسقوه شربةً من الماء). إلا أنهم أجابوه بسهم ذبحه وهو في يد والده!! فأي إجـ.رام هذا؟ وأي انتهاك؟ وأي جرأة؟ وإلی أي صنف من المخلوقات ينتمي هولاء؟!!!
فقد نهت الشريعة الإسلامية عن قتل الأطفال لأي سبب من الأسباب،فحرم الإسلام وأد البنات ونهی الرسول الأعظم عن التعرض للأطفال أو قتلهم،إلا أن يزيد قد ورث سياسة أبيه الذي قـ.تل أطفال المسلمين في الأنبار وعلی يد عامله(بسر بن أرطأة)،وعلی هذا النهج سار الابن وعماله لكن بصورة أبشع فقد خوفوا أطفال بيت النبي،وأسّروهم،ونكلوا بهم،وعرضوهم الی شتی أنواع العنف والتجويع،فيكفي أنهم كانوا ينظرون لرؤوس الآباء والأعمام مرفوعة فوق الرماح.
فالنهح الأموي نهج سلطوي أوجد لسياسته فقها يبرر له سلوكه الظالم الغاشم،ظاهره إسلامي تحت مسميات إسلامية،وواقعه التطبيقي لايمت الی الاسلام بصلة، فالخليفة ملك وقديس يأمر فيطاع!!!
ولعل من أبرز تمظهرات النهج الأموي في زمننا،هو النهج البعثي،فهو يعتمد علی أساسيات الحكم الأموي،فلاحرمة لمسجد ولا مكانة لإمام،ولا رحمة بطفلٍ،ولا رأفة بامرأةٍ أو شيخ كبير،ولا رادع له ولاحاكم يحكمه ولانص يلزمه!!
لقد تعرضت الطفولة في العراق المعاصر الی صورٍ أمويةٍ فظيعةٍ علی يد النظام البعثي،تارة عن طريق تسويق أفكار الكراهية والحقد تجاه الآخر، وتارة عن طريق اغتيال مفهوم الطفولة وزقها بالعسكرة والسلاح والمحاربة،فينشأ الطفل منزوع البراءة والتربية السليمة،مليئا بالحقد والعنف!!
وتارة أخری تعرضت الطفولة للاغتيال عن طريق زج الأطفال علی مختلف أعمارهم في السجون.وتعذيبهم أمام أهلهم وذويهم كي يعترف الأهل بما هو مطلوب!!
وكذلك تعرض الطفل العراقي الی التهجير القسري،إذ كانت العوائل تُنقل الی الحدود،وتُترك في العراء،في البرد القارس وفي الحر اللاهب!! وكثير من الأطفال قد قضوا وهم علی الحدود!!
إن أعظم العلاقات الإنسانية التي ذكرها القرآن الكريم هي علاقة الأبناء بالوالدين،فقد أحاطها الله بهالة قدسية،ووصفها بطريقة حيرت العقول كما في قوله تعالی((وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)) . إلا أن النظام البعـ.ثي ركز علی تحطيم هذه الهالة،وبالأخص علاقة الأبناء بآبائهم،ففي المدارس وفي الإعلام وفي الفرق الحزبية يجري الخطاب الی أن الأب هو (صـ.دام) وأنه هو الواجب الطاعة،وأن كل الأطفال هم جنود للقائد،ويجب أن يكونوا مستعدين للقتال ضد أي مخلوق إذا أمر القائد،ففي المدرسة وأثناء تحية العلم يوم الخميس،يردد الأطفال نشيد الأب وهو:
ـ عندي بابا اثنين اثنين
واحد بالجبهة يقاتل
والثاني صدام حسين
ـ ناهيك عن الهوسات الشعبية التي يتم تلقينها للأطفال:
يمتة يجي بابا الحلو ملفلف بتابوته
هو نحطه بالگبر وانه اركب التيوتا
وهي هوسة شعبية مأخوذة من أغنية(هسة يجي بابا البطل)التي تغنيها الطفلة بيداء عبد الرحمن،وهي من كلمات:زامل سعيد فتاح
هسه يجي بابا البطل متخيل الدبابه
هسه يجي مثل الصبح فتح بوجه احبابه
....
يا بابا هلا هلا يابابا
كتلي اجي وبيدك نصر وتصوغه ليه گلاده
وبيدك جبت وجه النهار المنتصر
سالم الاب المنتصر فرح كلوب اولاده
وباجر اقدمه لعمو صدام البطل
ونكوله بابا من اجه بسلاحه ضل وعتاده
ونكوله بابا على العهد رشاشه واعي زناده
يا بابا هلا هلا يابابا
ـ وكذلك نشيد أنا جندي عربي:
أنا جندي عربي ...
بندقيتي في يدي...
أحمي فيها وطني ...
من شرور المعتدي
طيق طيق طاق
هكذا تم عسكرة الطفولة،وتغذية الطفل بكل مفردات العنف ورفض الآخر،وتربيته تربية لا إسلامية،تربية أموية قومية طائفـ.ية قبلية،فالنهج البعثـ.ي هو الوريث الشرعي للنهج الأموي،وقد ذكر الفنان خالد جبر في برنامج (عن إنسان) علی قناة آسيا،حادثة عجيبة تدل علی مدی الوحشية التي كان يتبعها النظام البعثي،فيذكر أنه في يوم من الأيام قد زاره رجل عسكري يصحب طفلين،فقال له: صور الطفلين وسلهم عن هوايتهم وعن أمانيهم المستقبلية،والرئيس يقول: تُبث الحلقة يوم الجمعة القادمة،يقول الفنان:وحين سألت الطفل الأول:ماذا تحب أن تصنع في المستقبل؟ فأجابني الطفل: أقتـ.ل أبوية
وسألت الطفل الثاني أيضا فأجابني :أقتـ.ل أبوية
يقول:فتعجبت وذهلت،لكن الرجل العسكري قال لي: لاتتدخل وصورهم!!
وحين انتهی التصوير استفهمت عن الأمر،فتبين أن الطفلين كانا مع مجموعة من الأطفال في لقاء مع صـ.دام حسين،فكرم أبناء الشهداء بمجموعة كبيرة من الهدايا،ولكن هذين الطفلين لم يحصلا علی الهدايا؛لأن والديهما أحياء!! فقال الطفلان لصدام: نتمنی نقتل آباءنا حتی يصيرون شهداء حتی تنطينا هدايا".
هكذا تم بناء جيل مشوه،مورست عليه أقصی درجات العنف،طفولة اللاطفولة،وبراءة متشحة بالزيتوني القاتم!!
فتهشيم القيم السماوية الجميلة،والعلاقات الأسرية،وإماتة السلمية في نفوس الأطفال،يعد سلوكا إجـ.راميا ضد أحباب الله الأطفال.
ــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha