عادل الجبوري ||
تحتاج الجولة الاوربية الاخيرة لرئيس مجلس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، الى اكثر من قراءة دقيقة ومعمقة تأخذ بنظر الاعتبار ظروف العراق والتحديات الداخلية والخارجية التي يواجهها على مختلف الصعد والمستويات في هذا الوقت بالذات، وكذلك طبيعة المشهد العالمي ودلالات الصراع والتنافس الدائر بين القوى الرئيسية المشكلة له، فضلا عن ذلك، اهمية وضرورة تعدد البدائل والخيارات بالنسبة لبغداد وهي تراجع سياساتها الخارجية، وربما تبحث عن مسالك ومسارات تخرجها من شرنقة الارتهان لطرف معين، بكل ما لذلك الارتهان من تبعات وتداعيات واثار سلبية على مديات مختلفة وبجوانب ومجالات متنوعة.
جاءت جولة الكاظمي الاوربية الاخيرة التي شملت كل من باريس وبرلين ولندن، في مفصل زمني حساس، ارتباطا بتحديات جائحة كورونا والازمة الاقتصادية الخانقة التي القت بظلالها الثقيلة على المشهد العراقي العام، الى جانب تعقيدات العلاقة مع الولايات المتحدة الاميركية، التي هي في واقع الامر تمثل حصيلة تراكم الكثير من الاخطاء والسلبيات والتجاوزات طيلة مايقارب العقدين من الزمن.
ما تريده بغداد من باريس وبرلين ولندن، وعواصم اوربية اخرى وان كانت اقل اهمية وتأثيرا من العواصم الثلاث الانفة الذكر، الى تعزيز حضورها الاقتصادي والاستثماري في العراق بما يساهم في تحقيق الازدهار والتنمية ويقلص مساحات النظام الاقتصادي المعتمد على النفط اساسا، لصالح تنويع مصادر الدخل الوطني، وبالتالي توفير قدرة اكبر على التعاطي مع اسوأ الخيارات والاحتمالات.
الملفت ان العديد من التقارير الرسمية وغير الرسمية تشير الى ارقام متواضعة جدا عن حجم المبادلات التجارية بين العراق من جهة والدول الاوربية الرئيسية من جهة اخرى، بحيث انها لاتمثل شيئا في قبال حجم المبادلات التجارية بين العراق ودول مثل ايران وتركيا والصين، ناهيك عن ان شركات النفط الاوربية العاملة في العراق لاتشكل ثقلا كبيرا امام مثيلاتها الاميركية والصينية.
ولايختلف الامر كثيرا في مجالات التسليح والتدريب العسكري، اذ لم تحدث انتقالات وتحولات مهمة وملموسة في هذا المجال، بحيث تكون كافية لاخراج العراق من دائرة الاعتماد والتعويل الكبير على الولايات المتحدة الاميركية، وتحقيق توازن نسبي يجنبه الخضوع لسياسات ومصالح وحسابات طرف واحد، صحيح ان منظومات سلاح جوية وبرية من مناشيء غير اميركية ساهمت في تعزيز قددرة وموقف الجيش العراقي في حربه ضد تنظيم داعش الارهابي، من صيف عام 2014 وما بعده، بيد ان ذلك لم يك كافيا لتحقيق التوازن النسبي المطلوب.
ولعل الحكومات العراقية السابقة، التفتت الى حقيقة ضعف العلاقات العراقية-الاوربية، الا انها اما لم تكن تمتلك الارادة الكافية لمعالجة ذلك الضعف، او ان ظروف البلد وضغوطات واشنطن حالت دون السير بهذا الاتجاه.
واذا كان التساؤل المطروح اليوم هو، هل ان الكاظمي سينجح فيما اخفق فيه غيره؟.. ففي واقع الامر لاترتبط القضية بشخص الكاظمي تحديدا، وانما بطييعة الظروف المحيطة والاستحقاقات الملحة، في حال اخذنا بنظر الاعتبار ان جولة الكاظمي الاوربية ليست الاولى من نوعها لرئيس وزراء عراقي، فقبله قام علاوي والجعفري والمالكي والعبادي وعبد المهدي بجولات مماثلة، اسفرت عن ابرام اتفاقيات وتوقيع مذكرات تفاهم بمجالات سياسية واقتصادية وامنية وثقافية.
ربما مستجدات الوقائع والاحداث على الصعيد العالمي وطبيعة التنافس بين القوى المؤثرة والفاعلة والتحديات الضاغطة,فضلا عن الآفاق والفرص الاستراتيجية التي يمكن أن تتوفر في العراق على المديين المتوسط والبعيد, من شأنها أن تحفز الاوربيين وغيرهم على التوجه والانجذاب نحو العراق, بنفس قدر توجهه واندفاعه إليهم, وهذا يصدق على قوى أخرى, مثل روسيا والصين والهند وغيرها,ومثلما ينظر كل طرف الى العراق من زاوية معينه, فأن الاخير يتعاطى مع الآخرين بذات المبدأ.
ولعل الزيارات المتواصلة والمتتابعة من قبل كبار الشخصيات والوفود من دول أوروبية مختلفة الى العراق, والتي كان أبرزها زيارة الرئيس الفرنسي ايمانوئيل ماكرون مطلع شهر ايلول-سبتمبر الماضي, عكست جانبا من الاهتمام والتوجه الاوربي حيال العراق والمنطقة, في ذات الوقت الذي رأى البعض في ذلك الحراك نوعا من السعي إلى البحث عن مواطيء قدم ونفوذ في مساحات قلقة ومرتبكة بسبب التواجد الأميركي الأحادي فيها، لاسيما في ظل سعي حثيث ومتواصل من واشنطن للاحتفاظ بكل ادوات ومقومات النفوذ والقوة والهيمنة وابقاء الاخرين تابعين لها، تحت عناوين مختلفة مثل حلف شمال الاطلسي(الناتو)، والتحالف الدولي لمحاربة الارهاب.
لاشك ان تجربة العراق مع الاحتلال والتواجد الاميركي افرزت اخطاء وسلبيات، بل لانبالغ اذا قلنا، خلفت ماسي وكوارث وويلات، بسبب سياسات ارتجالية من جانب، ومصلحية من جانب اخر، كان احد ابطالها الحاكم المدني الاميركي على العراق بول بريمر(2003-2004). وهذه النتيجة المؤلمة توصل اليها الكثير من الساسة واصحاب القرار، وهو ما جعل البعض منهم يطرح فكرة البحث عن خيارات وبدائل سياسية وامنية واقتصادية عن واشنطن، وبالتالي بناء شبكة علاقات واسعة من خلال سياسة خارجية فعالة ونشطة، تقوم على اساس المصالح المتبادلة دون الارتهان والخضوع والقبول بالامر الواقع.
رؤساء الحكومات العراقية السابقة، وخصوصا حيدر العبادي وعادل عبد المهدي خطوا خطوات جيدة في هذا المجال، بيد ان الظروف والتحديات المحيطة لم تتح ترجمة تلك الخطوات عمليا على الارض، كما هو الحال بالنسبة للاتفاقية الاستراتيجية بين العراق والصين، ولعل الامر يبدو مختلفا الى حد ما مع الكاظمي، وهذا ما ينبغي استثماره وتوظيفه بأقصى قدر ممكن بعيدا عن الحسابات والمصالح الضيقة، اذ ان سياسة الانفتاح المدروسة والمخطط لها بشكل جيد، يمكن ان تساهم في تقليل الاثار السلبية للازمات الاقتصادية، وتوفر بدائل اخرى للدخل الوطني، وتقلص من مساحات الشد السياسي الداخلي وتوفر الارضيات المناسبة لتعزيز السيادة الوطنية.
وبما ان اوربا، سواء كتكتل سياسي واقتصادي كبير ومؤثر، او كدول متفاوتة في امكانياتها وقدراتها، تعد جزءا من مشهد عام تتداخل وتتشابك فيه المصالح والحسابات، فأن على رئيس الوزراء العراقي التوجه فيما بعد الى الصين ليفعل الاتفاقية الاستراتيجية معها، ويشجع على تعزيز تواجدها وحضورها الايجابي في العراق، والتوجه الى روسيا، حتى يعيد احياء اتفاقيات عسكرية ابرمت معها في اوقات سابقة، بيد ان تنفيذ جزء كبيرمنها قد تعثر وتلكأ لاسباب غير واضحة، فضلا عن تفعيل علاقات بغداد وموسكو في المجالات غير العسكرية.
بعبارة اخرى، اهمية وضرورة تحقيق المزيد من الانفتاح على اوربا لايلغي اهمية وضرورة فعل ذات الشيء في ميادين ومساحات اخرى.
ـــــــــــ
https://telegram.me/buratha