عادل الموسوي
ما أبهى تلك اللحية البيضاء الكثة الطويلة، وتلك العمامة السوداء كأنها السماء مطوية.. ثنايا اللؤلؤ.. شفاه الياقوت تنبس بالحكمة رحمة نازلة تبث الأمل والروح في شعب سَئِمَت منه المحن.
طال أمد المأساة في الزمن الغابر المسمى -حقداً- ب"زمن الخير"، ودب في أنفسنا من اليأس الشيء الكثير، فرددنا همساً: "الى متى يبقى البعير على التل".
قلنا-ساخرين-: لابأس باليأس.
لم نتخيل كيف ستنتهي حروبنا الكثيرة: الشمال، والثمانية أعوام، والخليج، والحصار، وحرب الطاغوت مضافاً لها الحرب على الإرهاب.
ولكن جميع ذلك قد إنتهى وقد شارفت فسحة الأجل على الإنتهاء أيضاً.
وربما عيل الصبر لكن " فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا " و "لن يغلب عسراً يسرين".
لذا يبقى الأمل في الإنتصار في الحرب ضد الفساد قائماً ببركة تلك الشيبة الحكيمة المباركة.
أكدت المرجعية الدينية -مراراً وتكراراً- أن لا بديل عن سلوك مسار التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الإقتراع بإنتخابات حرة ونزيهة.
ومراراً وتكراراً بينت إن مسار الحكم قد حاد عن الصواب ولابد من تصحيحه تفادياً للوقوع في مهالك الحكم "الدكتاتوري".
ومراراً وتكراراً أكدت على ضرورة الإصلاح ومحاربة الفساد ووصفته بالمعركة التي لاتقل ضراوة عن معركة الإرهاب.
كانت ملامح النصر في معركة الإرهاب واضحة المعالم ملموسة النتائح، تتحرر فيها المدينة تلو الأخرى إبتداءً من "جرف الصخر" وإنتهاءً ب"الموصل".
فهل للمعركة الوطنية المصيرية ضد الفساد التي يخوضها الشعب العراقي اليوم بعضاً من ملامح النصر؟
أولاً: النجاح الفعلي الذي تحقق على مستوى القبول والتأبيد:
كانت بداية الحراك مشوشة، إحتجاجات مجهولة الأهداف، مشتتة المطالب، شبهات حول محركاتها، أعمال عنف وإعتداءات وتخريب وتصفية حسابات وفوضى عارمة، محاولات للقمع من جهة سميت ب"الطرف الثالث"، وبعد الفشل محاولات مستمرة للتشويش والتشويه باتت مكشوفة.
إختلفت الآراء والأهواء في تأييد الإحتجاجات او شجبها تبعاً للرواسخ في الذهن والرواسب في الفكر والإنحيازات والنوايا، وتعددت كذلك الأقوال في من حرك موجتها ومن ركبها، إلا أن المأساة والمعاناة وصلت من الحد ما لا يحتمل عادة ً، فالواقع المأساوي هو من ولد تلك الموجة، فمن إستثمرها بنية حسنة فله السبق في الإشتراك بها، ومن إستغلها بنية شريرة فقد ركبها وسرعان ما تعلوه وتقذفه بعيداً على شاطيء الخيبة والفشل.
والقول الفصل في التأييد والشجب والتفصيل هو قول المرجعية الدينية، فقد أيدت التظاهرات السلمية، ورفع المطالب المشروعة وأنها حق كفله الدستور، وأدانت أعمال العنف والتخريب والإعتداءات على المتظاهرين السلميين والقوات الأمنية، وطالبت بتمييز الصفوف، ومعاقبة من تورط بالإعتداءات أياً كان وفقاً للقانون.
وفي بيانات متتالية واكبت الحراك الشعبي منذ بدايته الى الآن، تهذبت وتشذبت تلك الإحتجاجات فحضيت بمقبولية وتأييد من الرأي العام، بل وبالمساندة والمشاركة الواسعة والمتنوعة من فئات كثيرة من ابناء الشعب، حتى توجهت بوصلات المطالب من الجزئيات والفرعيات، من خدمات وتعينات الى مطالب بتصحيح مسار الحكم وإستبدال القوى السياسية الحاكمة، بتعديل قانوني الإنتخابات والمفوضية.
إلا أن هناك بعضاً من الصور المدانة لازالت تشكل خطراً بتأثيرها على إدامة زخم التظاهرات وتأييدها، منها ماهدفه التخريب وإشاعة الفوضى بالتخطيط لأرجاع البلد الى عصر "الدكتاتورية" المقيتة، ومنها لتشويه صورة الإحتجاجات تأليباً عليها وكسبا للوقت لوأدها وإنحسار التأييد لها لإنهاءها.
لكن جميع ذلك أصبح مكشوفاً ومميزاً.
مع ملاحظة أن ليس جميع أعمال العنف هي بالضروة من متظاهرين مدسوسين او مخربين، بل إن منها ما ينطلق من إعتقاد او يأس بعدم جدوى الإحتجاجات السلمية، لما يرونه من مماطلة وتسويف وعدم إستجابة من القوى السياسية الممسكة بزمام السلطة، ومنها ماهو ردود أفعال نتيجة الإحتكاك بالقوات الأمنية وسوء تعامل البعض منهم.
ولكن "من المؤكّد أن إتّباع الأساليب السلمية هو الشرط الأساس للإنتصار" في معركة الإصلاح "ومما يدعو الى التفاؤل هو إن معظم المشاركين في التظاهرات والإعتصامات الجارية يدركون مدى أهمية سلميّتها وخلوها من العنف والفوضى والإضرار بمصالح المواطنين.."
ثانياً: النجاح المأمول المشروط ببعض المقدمات التي وجهت بها المرجعية الدينية عبر بياناتها المبلغة بخطب الجمعة:
-الأمل: "تصحيح مسار الحكم وإصلاح مؤسسات الدولة".
الشرط: "تضافر جهود الغيارى من ابناء البلد وإستخدام سائر الأساليب القانونية المتاحة لذلك".
-الأمل: "إنّ الإصلاح الحقيقي والتغيير المنشود في إدارة البلد.. ممكن.."
الشرط: "ينبغي أن يتم بالطرق السلمية.. إذا تكاتف العراقيون ورصّوا صفوفهم في المطالبة بمطالب محددة في هذا الصدد".
-الأمل: الشعب يفرض "إرادته على المسؤولين مدعوماً من كل القوى الخيرة في البلد".
الشرط: ليس "أمام الشعب إلا تطوير أساليبه الإحتجاجية السلمية.."
-الأمل: هناك "وسيلة فاعلة للضغط على من بيدهم السلطة لإفساح المجال لإجراء إصلاحات حقيقية في إدارة البلد.."
الشرط: إتساع مدى الحراك الشعبي وشموله مختلف الفئات.
"لا شك في أنّ الحراك الشعبي اذا إتسع مداه وشمل مختلف الفئات يكون وسيلة فاعلة للضغط على من بيدهم السلطة لإفساح المجال لإجراء إصلاحات حقيقية في إدارة البلد.."
-الأمل: "..العراقيون الشرفاء الذين إستبسلوا في معركة الإرهاب قادرون ـ بعون الله ـ على خوض غمار معركة الفساد والإنتصار فيها أيضاً..".
الشرط: "إن أحسنوا إدارتها بشكل مهني وحازم".
إذن مما تقدم نخلص الى أنه لابد من علو الهمة ومضاعفة الجهود لتحقيق المأمول بآليات برنامج جلي واضح المعالم لا يحتاج إلا الى قدر من الإهتمام واليقين بصدق النتيجة.
وخلاصة مانحتاج اليه:
-تضافر جهود الغيارى من ابناء البلد.
-توسيع مدى الحراك الشعبي وشموله مختلف الفئات.
-تكاتف العراقيين ورص الصفوف والحفاظ على سلمية الإحتجاجات.
-تمييز الصفوف من المندسين والمخربين.
-مساندة القوات الأمنية لأخذ دورها في حفظ الأمن.
-إستخدام الأساليب القانونية المتاحة.
-المطالبة بمطالب محددة، والتأكيد -حالياً- على قانون عادل للإنتخابات.
-تطوير أساليب الإحتجاجات السلمية.
-ادارة المعركة بشكل مهني وحازم.
إن طول أمد الإحتجاجات ليس في صالح إدامة زخمها، وتحقيق أهدافها، وإستمرار تأييدها، ولن تنجو من حملات التسفيه والتشويه والإستغلال لمآرب شتى.
لذا فنحن بحاجة الى الإسراع بتطوير أساليب إحتجاجاتنا السلمية بالطرق القانونية المتاحة، بتضافر الجهود، وتكاتف الجميع ورص الصفوف وتميزها، وتوسيع مدى الحراك الشعبي ليشمل مختلف الفئات بأحتجاج عام حاشد يعبر عن إرادة موحدة برفض واقع الفساد وضرورة تصحيح مسار الحكم وإصلاح مؤسسات الدولة.
إن الواقع السياسي الذي نعيشه الآن هو غب ما أسسه الأولون في المؤتمرات التي سبقت أسقاط "النظام السابق"، وسوء إدارتهم وفشلها بعد الوصول الى سدة الحكم والذي سيؤدي -ان لم يعالج- الى نجاج المؤامرات في تحقيق الهدف الذي يهدد مستقبل العراق وهو "طمس هويته الثقافية والتي من ركائزها هو الدين الإسلامي الحنيف"
إن مؤتمرات: بيروت 91 وفينا 92 وصلاح الدين 92 ونيويورك 99 ولندن 2002 هي التي رسخت جوانب سيئة كثيرة من ما نشهده من مسار الحكم في البلد، وأن السيرة التي حكم بها المؤتمرون بعد الإمساك بزمام السلطة لم تحافظ على القيم الأصيلة والمصالح العليا للشعب العراقي، ولم تحترم إرادة العراقيين وإختياراتهم، ولم تحفظ كرامتهم، ولم تسعى بأي خطوة نحو تقدم البلد وإزدهارها، وإن الواقع المأساوي الذي نعاني منه الآن نسخة مخففة جداً من المآسي والمحن التي كان يمكن أن يتعرض لها الشعب لولا مواقف المرجعية الدينية الحازمة في قضايا المسألة العراقية.
إن تلك المؤتمرات وما أفرزته من مخرجات بعد شورى او غيرها لم تعبر عن إرادة العراقيين في حكم البلد وبناء مستقبله، "فكيف بهذا والمشيرون غيَّبُ" إن غيابهم عن مشهدها لابد أن يصصح بحضورهم، و"إن ما يلزم من الإصلاح ويتعين إجراؤه بهذا الصدد موكول أيضاً الى إختيار الشعب العراقي بكل أطيافه وألوانه من أقصى البلد الى أقصاه، وليس لأي شخص أو مجموعة أو جهة بتوجه معين أو أي طرف إقليمي أو دولي أن يصادر إرادة العراقيين في ذلك ويفرض رأيه عليهم"
إن تلك المؤتمرات لم يكن جلبابها وطنياً خالصاً، ولابد أن يخلع، لنلبس جلباباً وطنياً يصنع في العراق.. نحن بحاجة الى:
مؤتمر عام في بغداد مطلع 2020 يحمل عنوان:
"المؤتمر الوطني لبناء مستقبل العراق"
ليكون تحت شعار:
نحو "مستقبل ينعم فيه الشعب بالحرية والكرامة ويحظى بالتقدم والإزدهار، ويحافظ فيه على قيمه الأصيلة ومصالحه العليا"
يدعى اليه جميع فئات الشعب ومكوناته، ليعبروا فيه عن إرادتهم الحقيقية الموحدة
https://telegram.me/buratha