لماذا تحرص الولايات المتحدة على تجريد القوات الجوية الإيرانية من طائرةٍ عتيقةٍ وُلِدَت في سبعينيات القرن الفائت وتقاعدت من الخدمة بسلاح البحرية الأمريكية منذ 22 سبتمبر (أيلول) 2006، وباتت معروضةً داخل المتاحف في ربوع الولايات المتحدة؟
لماذا يولي البنتاغون اهتمامًا كبيرًا بهذه الطائرة تحديدًا لدرجة أن يشن حربًا لم تهدأ منذ سنوات لمنع نقل قطع غيارها إلى طهران، بل يضعها على رأس الأهداف التي ستضربها القوات الأمريكية حال نشوب أي حرب في المنطقة مع إيران؟
لماذا لا تزال الجمهورية الإسلامية الإيرانية تحتفظ بهذه «المقاتلة العجوز» في الخدمة حتى الآن؟
لماذا إسقاطها ضروري لهذه الدرجة – من المنظور العسكري الأمريكي – لتأمين المجال الجوي الخليجي في أية حرب إقليمية مقبلة؟.. التقرير الآتي يجيب عن هذه الأسئلة:
العهد نيوز- متابعة
إذا اندلعت الحرب في أي وقت ولأي سبب يجب أن تحاول القوات الأمريكية تأمين المجال الجوي الخليجي عن طريق تدمير أو تعطيل قدرات القوات الجوية لجيش الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تمتلك نحو 700 طائرة تتشارك تشغيلها مع الجناح الجوي للحرس الثوري الإيراني. من بين مئات الطائرات التي تمتلكها إيران، تبرز طائرات «إف-14 توم كات» العتيقة، التي تعود إلى سبعينيات القرن العشرين، كأول الأهداف التي ستلاحقها القوات الأمريكية في الحرب المقبلة؛ ويرجع ذلك إلى ما تتمتع به المقاتلة من مزيج أجهزة الاستشعار الفائقة، والأسلحة الفعالة طويلة المدى، والواجهة البشرية – الآلية التي تحتاج إلى دعم خارجي قليل أو معدوم، إلى جانب رادارها القوي.
تقاعدت آخر طائرة من طراز «توم كات» من صفوف البحرية الأمريكية في عام 2006، لكن بفضل رادارها القوي طويل المدى، ماتزال طائرة «إف-14» إحدى أقوى المقاتلات في العالم. لهذا السبب كان الأمريكيون يحاولون منذ سنوات عديدة القضاء على مخزون الإيرانيين من هذا الطراز.
وفقًا لمسح أجراه موقع «فلايت جلوبال» المختص بأخبار صناعة الطيران والفضاء تشغل القوات الجوية الإيرانية في عام 2019 حوالي 24 طائرة من طراز «إف-14 توم كات»، ضمن مجموعة مكونة من 79 مقاتلة ذات جناح متعدد الأوضاع، اشترتها إيران من شركة «جرومان» الفضائية لهندسة الطائرات في منتصف السبعينيات قبل اندلاع الثورة الإسلامية.
لكن تقديرات الصحفي العسكري باباك تاغفاي في أكتوبر (تشرين الأول) 2013 أشارت إلى امتلاك طهران أكثر من 40 طائرة من طراز «إف-14» قادرة على الطيران، وهو أعلى عدد سجلته التقديرات منذ منتصف السبعينيات. والأهم أن إيران طورت مقاتلات «توم كات»، وأدخلت عليها مكونات رادار جديدة وأجهزة راديو وأنظمة ملاحة، مع إضافة خاصية التوافق مع صواريخ «أر-73» و«هاوك».
بفضل هذه الجهود، واصلت إيران توسيع أسطولها من مقاتلات التفوق الجوي «إف-14 توم كات» بمعدل كبير، منذ فبراير (شباط) 2017؛ ما أدى إلى عودة الطائرات التي كانت خارج الخدمة لعدة عقود إلى العمل، وتدريب المزيد من طياري النخبة على هذا الطراز؛ ما يمثل «خبرًا سيئًا للغاية لخصوم طهران». ومنذ البداية كانت القوات الجوية الإيرانية تتابع عن كثب تطورات طائرتي «إف-14 إيه» و«إف-15 إيه»، وخلصت دراساتهم منذ وقت مبكر في عام 1972 إلى أن طراز «إف-15 إيه» المزود بصاروخ «إيه آي إم-7إف» كان مزيجًا من الأسلحة المقاتلة الفتاكة، لكن ليس بنفس مستوى فتك طراز «إف-14 إيه» المسلحة بصاروخ «إيه آي إم-54»، الفريد في قدراته. وبفضل رادار «إيه دبليو جي-9»، تستطيع «إف-14 إيه» تغطية نطاقات لا يمكن لطياري طراز «إف-15» إلا أن يحلموا بها. كما يمكن استخدام صواريخ «إيه آي إم-7» و«إيه آي إم-9» لتغطية نطاقات أطول مدى من طراز «إيجل».
الأكثر من ذلك أن هذا النظام الراداري والتسليحي المعقد كان سهل التشغيل. وخلص الطيارون الإيرانيون في «قاعدة شيراز» مبكرًا أن إلى أن طائرات «إف-15إيه» لن تكون في سهولة مناورة – أو مرونة تشغيل – «إف-14إيه». هذه القدرات جعلت بالإمكان التغاضي عن نقطة الضعف الوحيدة في المقاتلة «إف-14»، وهي محركات «تي إف-30»، التي لا يمكن الاعتماد عليها.
كانت طائرة «إف-14» أول مقاتلة فائقة اعتراضية في العالم قادرة على مواجهة معظم التهديدات، لكنها أيضًا كانت المشروع الأكثر تكلفة وتعقيدًا حتى ذلك الحين. لذلك لم يمض وقت طويل قبل أن يحتدم الجدل في الولايات المتحدة حول مشاكل التطوير والتكلفة الباهظة، حتى تساءل البعض: هل هناك حاجة إلى مثل هذه الطائرة باهظة الثمن أصلًا؟ ونتيجة لذلك اضطرت شركة «جرومان» والبحرية الأمريكية إلى البحث عن عميل إضافي لمشاركة تكلفة التطوير والإنتاج، ليس فقط لإنقاذ برنامج «إف-14» الذي توقف الكونجرس عن تمويله، بل أيضًا لإنقاذ شركة «جرومان» المصنعة من الإفلاس.
على الجانب الإيراني كانت الدراسات التي أجريت داخل دوائر القوات الجوية، بتوجيه الجنرال مهدي روحاني، قد تمخضت عن تأكيد الحاجة إلى هذا الطراز من المقاتلات، لكن لم تكن البحرية الأمريكية وشركة «جرومان» يدركان أن اختيار الإيرانيين قد وقع بالفعل على طائرة «إف-14» باعتبارها المقاتلة الأنسب لمتطلباتهم التشغيلية الفريدة، حين بدأوا حملة مكثفة من أجل إقناع الشاه بإتمام الصفقة.
أرسل الأمريكيون منسق برنامج «إف-14»، النقيب ميتشل إلى طهران مرتين لإطلاع قادة القوات الجوية الإيرانية والشاه على قدرات «توم كات»، وتُوِّجَت جهودهم في يوليو (تموز) 1973 بتنظيم جولة جوية للشاه ومجموعة من الضباط الإيرانيين رفيعي المستوى داخل «قاعدة أندروز» الجوية بمريلاند. وخلال الحرب مع العراق تأكد الإيرانيون أن طائرات «إف-14» هي بالضبط ما يحتاجونه. ويقول العديد من المراقبين الغربيين: إن عجز إيران عن إسقاط طائرة «ميج-25 أر» السوفيتية، التي مكنت الطيران العراقي من إيقاع خسائر في صفوف الإيرانيين خلال الحرب التي استمرت بين البلدين بين عامي 1980 و1988، كان أحد الأسباب الرئيسة التي دفعت طهران للحصول على طائرة «جرومان».
بعد الاتفاق مع قيادة القوات الجوية الإيرانية، التي خلُصَت إلى أن طائرة «إف-14» هي المقاتلة الاعتراضية التي تسعى لامتلاكها، تلقى البنتاجون طلبًا لبدء عملية التوريد، على الرغم من أن عرض طهران كان ما يزال قائمًا لشركة «ماكدونيل دوجلاس» الأمريكية لصناعة الطائرات بخصوص المقاتلة «إف-15 إيه إيجل».
نجت 68 طائرة إيرانية من طراز «إف-14» من الحرب الإيرانية العراقية التي انتهت في عام 1988، لكن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة بعد ثورة 1979 منعت طهران من الحصول على قطع غيار للمقاتلات ثقيلة الوزن. فما كان من الجمهورية الإسلامية إلا أن أطلقت برنامجها الخاص للاكتفاء الذاتي – ليس فقط في القوات الجوية، ولكن عبر مختلف القطاعات الاقتصادية في البلاد – في محاولة لتلبية الاحتياجات التي كانت الشركات الأجنبية توفرها في السابق.
لم يهدأ الوكلاء الفيدراليون عند هذا الحد، بل أطلقوا تحقيقًا حول 18 شركة قدمت قطع غيار طائرات إلى شركة «مالتيكور» وفي سبتمبر 2003 اعتقلت السلطات الأمريكية إيرانيًا يدعى سيرجيك أفاسابيان في أحد فنادق جنوب فلوريدا في جزء من عملية خاطفة. وبرغم تضييق السلطات الأمريكية الخناق على الإتجار غير المشروع في قطع غيار مقاتلات «إف-14»، استمرت إيران في محاولاتها لجلب المكونات المطلوبة من الخارج.
بعد إغلاق شركة «مالتيكور ليميتد» صادرت الأجهزة الفيدرالية قطع غيار طائرات «توم كات» التي كانت بحوزة الشركة، وأرسلتها إلى مكتب الفائض في وزارة الدفاع، لكن في عام 2005 اشترت شركة – يعتقد أنها إيرانية – الأجزاء ذاتها من الجيش الأمريكي. وتصاعدت حرب قطع الغيار بعد أن تقاعدت آخر طائرة «إف-14» من البحرية الأمريكية في عام 2006؛ لتبقى إيران هي المشغل الوحيد لهذا الطراز من المقاتلات. وفي عام 2007 صادر الوكلاء الأمريكيون في كاليفورنيا خمس طائرات سليمة من طراز «إف-14» التي كانت تخدم سابقًا في سلاح البحرية؛ أربع منها كانت معروضة في المتاحف، وواحدة كانت بحوزة منتج في مسلسل درامي عسكري؛ لأن الطائرات كانت تحتوي على أجزاء يمكن أن يستفيد منها الإيرانيون إذا أصبحت بحوزتهم.
كان الكونجرس غاضبًا من البنتاجون بسبب «التعامل المتراخي» مع مشكلة قطع غيار طائرة «إف-14»، حتى وصفها النائب الجمهوري من ولاية كونيتيكت، كريستوفر شيز، بأنها «انهيار ضخم، انهيار كبير ومطلق»، وصدق المجلس على مشروع قانون يحظر أي تجارة في قطع غيار طائرات «توم كات» تحديدًا، سواء مع إيران أو أي كيان آخر، ثم وقع الرئيس جورج دبليو بوش القانون في عام 2008.
كان مشهدًا مأساويًا حين دفع الجيش الأمريكي أموالًا للمتعاقدين من أجل تفكيك وتدمير وإتلاف حوالي 150 طائرة متقاعدة من طراز «إف-14». وما تزال عشرات من هذه الطائرات «منزوعة الأنياب» معروضة في المتاحف في جميع أنحاء الولايات المتحدة، لكن لا يوجد أي منها في مقبرة طائرات أريزونا الشهيرة، التي يخزن فيها البنتاغون الطائرات المتقاعدة، في حالة احتياجها مرة أخرى. ومع ذلك استمرت التجارة السرية في أجزاء طائرات «توم كات» بفضل الشركات التي تعمل في الظل وتجوب الأنحاء بحثًا عن قطع الغيار التي لا تزال على قيد الحياة. حتى أن وزارة الأمن الداخلي الأمريكية حققت مع تجار أسلحة إسرائيليين في أوائل عام 2014 بتهمة محاولة إرسال قطع غيار طائرات «إف-14» إلى إيران، ليس مرة واحدة، بل مرتين. وفي حين رفضت وزارتا الدفاع والخارجية في كيان إسرائيل التعليق على القضية التي كشفت عنها أولًا صحيفة «كاثيميريني» اليونانية، لفتت صحيفة «التليجراف» البريطانية أن الحادث يشكل انتهاكًا للحظر الدولي المفروض على توريد الأسلحة إلى إيران.
https://telegram.me/buratha