من المؤسف أن يكون النقاش الإجتماعي الدائر حول الاقتصاد العراقي متركزا على (محاور وهمية) و (قضايا ثانوية) بعيدة عن الاولويات الحقيقية والتحديات الفعلية التي يواجهها الاقتصاد الوطني اليوم..قبل عام واحد فقط وقبل أن تنهار أسعار النفط كانت (قضية حذف الاصفار) من العملة هي الشغل الشاغل للاقتصاديين والساسة رغم أنها ( قضية صفرية) في الحسابات الاقتصادية الفعلية وهي تافهة لا قيمة لها ..واليوم ينشغل ساسة العراق بأمر شكل الحكومة القادمة ومن الذي سيبقى أو يغادر دون أن يتحدث أحد عن (الرؤية) ..و(البرنامج) أو (النظام) الذي سيعتمد للخروج من الأزمة.
إنقسام اقتصاديين العراق اليوم ما بين متشائم ومتفائل هو وجه آخر من اوجه ضياع الاولويات واضطراب الوصلة وضبابية الرؤية فالقضية ليست موضع تشاؤم وتفاؤل بل أن الأمر مبني على تشخيص الحقائق والإعتراف بها والخروج بحلول ومعالجات ..نحن في العراق نركز على الأشخاص قبل (النظام أو السيستم) الذي يعمل به ذلك الفرد أو المسؤول ..لا أحد يسأل عن نظام العمل وآلياته واجوائه ومعادلاته ولذلك نطلق الأوصاف جزافا..هذا ناجح ..وذاك فاشل..ولا أحد يسأل ما هو السيستم أو الآليات التي عمل بها ذلك المسؤول ..وهل بإمكان (ترس) في ماكنة معطلة أن يعيد الحياة للماكنة ..؟
وهل بإمكان مبدع أو مجد أن يحقق إنجازا في ظل نظام عمل غير صالح أو لا يتسم بالكفاءة..؟
هل بإمكان فرد أن يعاكس تيارا بأكمله ويدفعه للسير في المجرى السليم..؟
لا أقول ذلك تبريرا للأفراد أو عذرا للمقصرين ولكنه محاولة لتصحيح مفاهيم اساسيةغابت وسط زحام الفوضى وضجيج التنافسات والصراعات ومشاريع التسقيط والتشكيك..
ما بعد التشاؤم ..وما قبل التفاؤل..هناك جدول أعمال مزدحم لابد من إنجازه قبل الوصول بالإقتصاد العراقي إلى التعافي ،علينا أن نقر بأن الخلل في هذا الاقتصاد (بنيوي)و (هيكلي) و(عضوي) وأن الأمر يتطلب إجراءات حاسمة (جذرية وشاملة ومتكاملة) وقد يستغرق ذلك سنوات ولا حلول سهلة على الإطلاق إلا إذا كان المراد تهدئة الجمهور..
لابد من (مبضع الجراح) لعلاج علل الاقتصاد العراقي وهذه الجراحة مطلوبة اليوم رغم إقراري أن تكلفتها الإجتماعية والسياسية قد تكون فوق القدرة على التحمل في بيئة محتقنة ومأزومة كالتي نعيشها اليوم..
ثم ماذا عن (المناخات الثقافية والاجتماعية والسياسية) التي لابد منها في أي عملية تغيير جذري تعتمدها الدولة اليوم..
أن تاريخ التطور والتغيير في العالم والنهضات الاقتصادية المعاصرة كلها تشهد أنه ما من تجربة واحدة تحقق فيها نهوض اقتصادي إلا وكان هناك حزمة مرافقة ( من النهوض الثقافي والاجتماعي) ونضج واستقرار يسبقه وعي جماهيري ومجتمعي، نحن لا نضع العصي في الدواليب عندمت نتحدث عن ذلك كله ولكنها الحقائق التي لا يمكن القفز عليها..
التاريخ العراقي يشهد دائما على قدرة غير اعتيادية للعراق على التعافي والنهوض بعد النكبات الكبيرة ولقد شبهت العراق بطائر العنقاء الاسطوري الذي له قدرة عجيبة على مواجهة الموت والتجدد والذي ينهض بعد كل كبوة يظن فيها الناس انه لا أمل ولا حياة بعدها، لكننا نؤكد مرة أخرى أن جدول الأعمال الفعلي مزدحم وأن المهمة ليست باليسيرة وأعتقد أن إنخفاض أسعار النفط كان (ضروريا) لكي يسلط الضوء على عيوبنا القاتلة ويدفعنا من أجل العلاج الذي نريده (بنيويا ) وليس سطحيا أو شكليا كما يطرح الآن، علما أننا كنا سنواجه اوضاعا ربما أخطر من هذه التي نواجهها اليوم لو جاء إنخاض النفط بعد عشرة أو عشرين سنة وهو أمر حتمي الحدوث بكل تأكيد في ضوء الإنكشاف والإرتهان لسلعة النفط الذي يتسم به الاقتصاد العراقي .
ما بعد التفاوءل ..هنالك تحديات لا مهرب من مواجهتها ..وما قبل التشاؤم ..هنالك الرؤية وجدول الأعمال المزدحم الذي لابد من الوفاء بأستحقاقاته.
https://telegram.me/buratha