اتجهت الأنظار إقليمياً ودولياً للحدث المتعلق بقيام موسكو بإرسال غواصةٍ تعتبر الأكبر في العالم - بحسب ما صرَّح الإعلام الإسرائيلي- الى سوريا. وهو الأمر الذي لا شك أنه يشكل تطوراً يجب الوقوف عنده، لناحية الموقع الذي تتمتع به موسكو، الى جانب طبيعة الصراع الإقليمي والدولي القائم على الأرض السورية. فالدول الخليجية كما الأوروبية يبدو أنها تتعامل مع طول البال الروسي، بطريقة غير مسؤولة وبعيدة عن حُسن تقدير الموقف. في حين يفهم اللاعب الأمريكي معنى وأهمية أوراق موسكو الإستراتيجية. فماذا في خبر إرسال الغواصة؟ وكيف يمكن قراءة أبعاد ذلك وتحليلها إقليمياً ودولياً؟
تطورات الموقف الروسي تجاه سوريا
دخلت الغواصة الحربية الروسية "دميتري دونسكي"، والتي تعد من أكبر الغواصات الحربية التابعة للأسطول الحربي الروسي، صباح يوم الأحد المنصرم المياه الإقليمية السورية، لإجراء مناورات عسكرية في البحر المتوسط. وبحسب المصادر الإعلامية، فإن الغواصة "دونسكي"، مجهزة بجهاز إطلاق "نووي"، وتتمتع بقدرة تدميرية هائلة تميزها عن باقي الغواصات العالمية، حيث دخلت برفقة سفينتا "أونيغا وناريان مار" المدمرتين للغواصات.
في سياقٍ متصل أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، يوم الخميس الماضي، أن الرحلات الجوية الروسية التي تحمل مساعدات إنسانية إلى سوريا "تحمل أيضاً عتاداً عسكرياً". وقال لافروف، خلال مؤتمر صحافي عقده في موسكو، إنه "لم نكن نخفي تواجدنا العسكري في سوريا أبداً، حيث يعمل العسكريون الروس هناك لمساعدة الجيش السوري في التدرب على استخدام أسلحتنا ومعداتنا العسكرية". وأكد أن بلاده "لن تتخذ أي خطوات إضافية حالياً. أما إذا ظهرت هناك حاجة إلى اتخاذ هذه الخطوات، فسنقوم بها بالتوافق التام مع تشريعاتنا الداخلية والتزاماتنا الخارجية والقانون الدولي، وبالتأكيد بناء على طلب وبموافقة الحكومة السورية أو حكومات البلدان الأخرى في المنطقة، في حال تطلب الأمر تقديم مساعدة لها في مكافحة الإرهاب".
كيف يمكن قراءة ذلك؟
إن الصراع القائم على الأرض السورية، هو صراعٌ بين دولٍ عديدة تتبادل الرسائل، الأمنية والعسكرية إضافة الى السياسية، انطلاقاً من تطورات الوضع السوري. وهنا نُشير الى أن قوة النظام السوري ودخول حزب الله اللبناني عسكرياً للميدان السوري، ساهم في تخفيف هذا الصراع، لكن القرار الدولي لاسيما الأمريكي والأوروبي بإرسال التكفيريين الى الساحة السورية وجعلهم جزءاً من المعادلة عبر التعاون مع الدول الخليجية المُنفذة لتلك الأجندة لا سيما السعودية وقطر إضافةً الى تركيا، أدى الى جعل الصراع محلَّ تجاذبٍ دوليٍ وإقليمي، مما جعل الدول الأقوى في المنطقة لا سيما روسيا وإيران، تتدخَّل في فرض شروطٍ تتوافق مع مصلحة الشعب السوري، وتُعيد التوازن للمحور المجابه لواشنطن. وهنا نقول التالي:
- إن تحليل خطوات الدول لا بد وأن يتناسب مع حجم هذه الدول. فروسيا دولة ذات وزن في السياسة العالمية، تُعتبر خطواتها أمراً مهماً في حركة الصراع في الإقليم والعالم. وهو ما تُبيِّنه ردات الفعل التي حصلت، لا سيما الأمريكية والأوروبية دولياً، والإسرائيلية والخليجية إقليمياً.
- ولا شك أن مجرد وضع ردات الفعل وقراءتها، نجدها تتطابق من حيث المسار مما يجعل الجميع في خانةٍ واحدة. وهو أمرٌ معروفٌ في السياسة الدولية اليوم، حيث أن أمريكا تُدير عدداً من الأطراف في العالم لا سيما الدول الخليجية وتل أبيب إقليمياً والدول الأوروبية دولياً. وهو ما جعل على سبيل المثال دول حلف الناتو تحاول الضغط على روسيا من خلال موقفها من الأزمة الأوكرانية الذي جاء ضمن توجيهات واشنطن لها، الى جانب فرضها عقوباتٍ إقتصادية ومالية هادفة لكسر الطرف الروسي.
- وهنا تأتي الفعلة الروسية في هذا السياق كرسالةٍ لجميع العابثين معها لا سيما حلف شمال الأطلسي، والأطراف الأخرى التي تسعى لإستغلال الداخل السوري وبالتحديد الدول الخليجية والكيان الإسرائيلي، والذي لم تعد أوراقهم السياسية قوية، خصوصاً بعد رضوخ الغرب وواشنطن وتوقيعه إتفاقاً نووياً مع طهران.
- كما لا بد من الإشارة الى حساسية منطقة الساحل السوري من الناحية الجيوعسكرية، وهو الأمر الذي تعتبره موسكو خطاً أحمراً، يمكن ملاحظته من خلال قراءة تاريخ العلاقة الروسية السورية منذ الحرب الباردة، وتحديداً أهمية قاعدة طرطوس العسكرية، التي تعتبر المنفذ البحري الأساسي للروس على المياه الدافئة في البحر المتوسط. وهو ما يجب الإلتفات الى أن الدول الخليجية والأوروبية تحديداً قد لا تُقدِّره من باب أنها قد تجهل أهميته لموسكو استراتيجياً، فيما لا يعرف حجم أهميته إلا اللاعب الأمريكي الذي يفهم المعادلات الدولية كونه المنافس لروسياً دولياً.
- وقد تكون محاولات روسيا السابقة في سعيها لفرض الحل السلمي لإنهاء الصراع في المنطقة، أمراً فهمه البعض خطأً لناحية إمكانية موسكو تغيير قواعد الإشتباك العسكرية في المنطقة. وهو الأمر الذي أدى الى ارتفاع دعم الدول الخليجية الى جانب تركيا للإرهاب في الداخل السوري، الأمر الذي جعل روسيا في المقابل تحذر من عواقب ذلك لا سيما على الشعب السوري وطبيعة الصراع الداخلي، معتمدةً على الوسائل الدبلوماسية. لكن ومع تطور الأحداث وغرق العديد من الدول الإقليمية في دعم الإرهاب، وقيام الدول الأوروبية بإعتماد سياسة الإبتزاز، قررت روسيا إيصال رسالةٍ للجميع مفادها أن إمكانية تغيير قواعد الإشتباك العسكري هو من الأمور التي يمكن القيام بها، وعلى اللاعب الأمريكي أن يكبح جموح الأطراف التي يُديرها لا سيما الغرب والدول الخليجية.
قد تكون الرسالة التي أرسلتها موسكو موجهةً أساساً لواشنطن، لعلها تُعيد النظر في كيفية إدراة ملفاتها الخارجية والأزمات الدولية. كما أن الدول الأوروبية معنيةٌ بالرسالة التي مفادها أن سياسة الإبتزاز التي تعتمدها هذه الدول أو حلف الناتو، لن تنفع. وأن محاولة إستغلال الأزمة السورية أو الأوكرانية للضغط على روسيا، يعني توجه موسكو لخياراتٍ جديدة تُعيد خلط الأورواق السياسية أو العسكرية في المنطقة والعالم. في حين أن الدول الخليجية ليست بمستوى الرسالة فهي تضيع بين هذه التوجهات لضعف نفوذها وهامشية دورها. لذلك فإن التحدي الأكبر سيكون لأمريكا. فهل ستُحسن واشنطن التعامل مع هذه الرسالة؟
نقلاً عن موقع الوقت
https://telegram.me/buratha