بغداد ـ عادل الجبوري
كل المؤشرات والدلائل والمعطيات تؤكد أن مشهد ما قبل خطبة صلاة الجمعة الماضية في كربلاء المقدسة، اختلف الى حد كبير عن مشهد ما بعدها.
في خطبة صلاة الجمعة، اعلن الخطيب الشيخ عبد المهدي الكربلائي دعوة ـ او ما يمكن ان نسميه بشكل اوضح فتوى ـ المرجعية الدينية لحمل السلاح من قبل القادرين على ذلك، والوقوف بوجه الجماعات الارهابية التكفيرية، للدفاع عن البلاد، وحفظ المقدسات والحرمات والاعراض.
وعلى امتداد الاعوام الاحد عشر الماضية لم تصدر المرجعية الدينية في النجف الاشرف فتوى بهذا المستوى من الوضوح والتحديد، اذ من المعروف ان المرجعية الدينية، وحينما تقرر اتخاذ موقف معين تأخذ بنظر الاعتبار مجمل الظروف والضرورات والمقتضيات الموضوعية، وتدرس مجمل الاحتمالات والنتائج والمعطيات.
ففي عام 2006، حينما تعرض مرقد الامامين العسكريين عليهما السلام في مدينة سامراء لعمل ارهابي تسبب بتدمير اجزاء من المرقد الشريف، وجهت المرجعية اتباعها وانصارها وعموم ابناء الشعب العراق بضرورة ضبط النفس وعدم الانسياق وراء الفتنة الطائفية التي خططت لاشعالها جهات خارجية وداخلية، وبالفعل كان لتوجيهاتها الاثر الكبير في تطويق الفتنة وحقن الكثير من الدماء وحفظ الكثير من الارواح، ليس من اتباع المذهب الشيعي فحسب، وانما من اتباع مختلف المكونات الدينية والقومية والطائفية والعشائرية في العراق.
وقد يتساءل الكثيرون، لماذا اتخذت المرجعية الدينية مثل هذا الموقف الان بالتحديد؟
تداعيات فتاوى المرجعية الدينيةلا شك ان مثل ذلك التساؤل ينطوي على اهمية كبيرة، وان الاجابة عنه من شأنها ان ترفع قدر من اللبس والغموض، او عدم الفهم الكافي، الذي ربما يكون قد دار حول بعض توجهات ومواقف المرجعية.
وهنا لا بد من الاشارة الى جملة تشكل في اطارها العام اجابة عن التساؤل الانف الذكر.
-اولا: ان ما حصل في محافظة نينوى مؤخرا مثل تطورا مقلقا وخطيرا، لانه من جانب استهدف ثاني اكبر محافظة عراقية، ولم يستهدف مكونا اجتماعيا معينا، بل ان تنظيم ما يسمى بالدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) اعلن بكل وضوح وصراحة ان هدفه احتلال بغداد وكربلاء والنجف وغيرها من محافظات العراق.
-ان الطريقة الدراماتيكية السريعة التي سيطرت من خلالها الجماعات الارهابية على مختلف مناطق نينوى وراحت تتوجه الى مدن ومناطق اخرى، في مقابل تراجع وانسحاب غير مفهوم ولا متوقع لقطعات الجيش العراقي، اشارت الى وجود مؤامرة خارجية بأدوات داخلية تستهدف تدمير العراق واخضاعه للجماعات الارهابية.
-ان الجماعات الارهابية التكفيرية التي اعلنت ان اتباع مذهب اهل البيت عليم السلام هم هدفها الاساس، لم تستثن المكونات الاخرى، لا سيما المسيحيين والايزيديين وغيرهم، في نينوى وخارجها، والممارسات التي قام بها الارهابيون بعد سيطرتهم على تلك المحافظة اثبتت واوضحت حقيقة اهدافهم ومخططاتهم التدميرية الدموية.
-وارتباطا بتفاعلات الاحداث في نينوى، لم تتبلور مواقف وتوجهات سياسية موحدة ومنسجمة تتجاوز الشعارات النظرية التي رددتها شتى الزعامات والشخصيات السياسية، في ذات الوقت الذي اخذت حالة من الاستياء والاحباط والخوف والقلق تدب في نفوس شرائح ومكونات اجتماعية عديدة. هذه الامور وربما غيرها هي التي دفعت المرجعية الدينية الى اصدار الفتوى التاريخية، التي يتفق الكثيرون من الساسة والمراقبين وعموم النخب، على انها مثلت رسالة موجهة لكل المكونات ولكل الاطراف الداخلية والاقليمية والدولية، وانها جاءت في الوقت المناسب.
والتساؤل الاخر الذي يطرح نفسه.. ماذا وكيف اثرت فتوى المرجعية الدينية؟..
لعل النقطة المهمة والجوهرية في هذا الجانب تتمثل في انه ما بين سيطرة تنظيم داعش على محافظة نينوى في التاسع من شهر حزيران/يونيو الجاري، وحتى صدور فتوى المرجعية الدينية في الثالث عشر من هذا الشهر، كانت الامور تتجه الى الحافات الخطيرة بصورة سريعة جدا، ولم يبق شيء في الصورة يبعث على التفاؤل، ولكن ما ان صدرت فتوى المرجعية ظهر يوم الجمعة الماضي حتى راحت المعطيات تتبدل شيئا فشيا، لكن بصورة واضحة وملموسة، بحيث شكلت الفتوى نقطة تحول وانعطافة كبرى في مسار الصراع مع الجماعات الارهابية.
إذ انها-اي الفتوى-عززت الروح المعنوية لدى الكثير من عناصر القوات العسكرية والامنية الحكومية، وهو ما ساهم الى جانب تعديل الخطط العسكرية، وتغيير القيادات الميدانية، في ايقاف تمدد الجماعات الارهابية، واكثر من ذلك اخذت تتلقى ضربات قاصمة من قبل تشكيلات الجيش العراقي، لا سيما طيران الجيش وقوات النخبة.
والمسألة الاخرى ان الفتوى، ادخلت عنصرا جديدا في معادلات الصراع بقوة، الا وهو العنصر الجماهيري، المعروف بولائه وطاعته للمرجعيات الدينية على مر التاريخ، وخصوصا في المنعطفات الحرجة والحساسة. وأي مراجعة تاريخية سريعة تؤكد ذلك، ففي عام 1911 اصدر المرجع الديني الشيخ الخراساني فتوى الجهاد ضد الاحتلال الايطالي لليبيا، وكان لتلك الفتوى تأثير كبير على مجريات الاحداث في ذلك الحين، وفي عام 1948 اصدرت المرجعية فتوى اسقطت معاهدة بورتسموث السيئة الصيت التي ابرمتها الحكومة العراقية في ذلك الحين مع بريطانيا، وكانت هناك فتوى اخرى بدعم الشعب الفلسطيني ورفض اقامة دولة "اسرائيل"، وفي عام 1967، اصدرت المرجعية الدينية المتمثلة بالامام محسن الحكيم، فتوى بدعم المقاومة الفلسطينية وجواز دفع الحقوق الشرعية لها، وهناك فتاوى اخرى مثلت محطات مهمة، وكانت انعكاسا لعمق مكانة وتأثير المرجعيات الدينية وطبيعة مواقفها التاريخية المشرّفة في الدفاع عن القضايا المبدئية.
وليس غريبا ان نجد ملايين الناس، لا في العراق فحسب، بل في دول مختلفة، يستجيبون لدعوات واوامر المرجعية الدينية ويتدفقون الى مراكز التطوع للانخراط في صفوف قوات الجيش والشرطة، واكثر من ذلك فإن شرائح اجتماعية واسعة من عناوين قومية ودينية ومذهبية متعددة تفاعلت الى حد كبير مع فتوى المرجعية الدينية، لانها رأت فيها مخرجا حقيقيا للازمة، ولانها تثق بصدق مواقف المرجعية ومنهجها الابوي في التعامل مع كل العراقيين.
فتوى المرجعية أربكت الجماعات الارهابيةوالمسألة المهمة الاخرى، هي ان فتوى المرجعية، ومن خلال الجو الشعبي العام الذي اوجدته ضد الارهاب، اربكت الجماعات الارهابية والاطراف الداعمة لها والجهات المتواطئة والمتعاطفة معها، وجعلت تراجعها وانكسارها وهزيمتها اسرع واسهل من ذي قبل.
وبما ان الجميع يتحدث اليوم عن الفتوى التاريخية وأثرها في تغيير-او تعديل-مسار الصراع مع تنظيم داعش، فإن الحديث عن قرب حسم المعركة لمصلحة العراقيين والعراقيين، بات هو السائد.
وبقدر ما ان ذلك مهم جدا، الا ان الاهم منه هو في اجراء مراجعات شاملة لكل ما حصل وتشخيص نقاط الضعف والقوة، والاسباب الكامنة وراء ذلك، وهي بلا شك اسباب بعضها سياسي، وبعضها امني، وبعضها فني، والعمل على منع تكرار ما حصل، الى جانب تلافي اثاره ومؤثراته النفسية والمعنوية والمادية، واستثمار الزخم الكبير الذي خلقته فتوى المرجعية لتطهير نينوى وغيرها من مدن العراق ومناطقه من الارهاب بشتى مظاهره وأشكاله وصوره.
27/5/140622
https://telegram.me/buratha