الصفحة الإسلامية

المحكم والمتشابه والتأويل عند العلامة السيد الطباطبائي (ح 7)


الدكتور فاضل حسن شريف

جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله عز من قائل "هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ ءَايَتٌ مُّحْكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ‏ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ‏ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ‏ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ الْأَلْبَبِ" (آل عمران 7) توضيحه أن المراد حينئذ من التأويل في قوله تعالى "وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ" "الخ" إما أن يكون تأويل القرآن برجوع ضميره إلى الكتاب فلا يستقيم قوله "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ" "الخ" فإن كثيرا من تأويل القرآن وهو تأويلات القصص بل الأحكام أيضا وآيات الأخلاق مما يمكن أن يعلمه غيره تعالى وغير الراسخين في العلم من الناس حتى الزائغون قلبا على قوله فإن الحوادث التي تدل عليها آيات القصص يتساوى في إدراكها جميع الناس من غير أن يحرم عنه بعضهم، وكذا الحقائق الخلقية والمصالح التي يوجدها العمل بالأحكام من العبادات والمعاملات وسائر الأمور المشرعة. وإن كان المراد بالتأويل فيه تأويل المتشابه فقط استقام الحصر في قوله وما يعلم تأويله إلا الله الخ، وأفاد أن غيره تعالى وغير الراسخين في العلم مثلا لا ينبغي لهم ابتغاء تأويل المتشابه، وهو يؤدي إلى الفتنة وإضلال الناس لكن لا وجه لحصر المتشابه الذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات والقيامة فإن الفتنة والضلال كما يوجد في تأويلها يوجد في تأويل غيرها من آيات الأحكام والقصص وغيرهما كأن يقول القائل وقد قيل إن المراد من تشريع الأحكام إحياء الاجتماع الإنساني بإصلاح شأنه بما ينطبق على الصلاح، فلو فرض أن صلاح المجتمع في غير الحكم المشرع، أو أنه لا ينطبق على صلاح الوقت وجب اتباعه وإلغاء الحكم الديني المشرع. وكأن يقول القائل وقد قيل إن المراد من كرامات الأنبياء المنقولة في القرآن أمور عادية، وإنما نقل بألفاظ ظاهرها خلاف العادة لصلاح استمالة قلوب العامة لانجذاب نفوسهم وخضوع قلوبهم لما يتخيلونه خارقا للعادة قاهرا لقوانين الطبيعة. ويوجد في المذاهب المنشعبة المحدثة في الإسلام شيء كثير من هذه الأقاويل، وجميعها من التأويل في القرآن ابتغاء للفتنة بلا شك، فلا وجه لقصر المتشابه على آيات الصفات وآيات القيامة. إذا عرفت ما مر علمت أن الحق في تفسير التأويل أنه الحقيقة الواقعية التي تستند إليها البيانات القرآنية من حكم أو موعظة أو حكمة، وأنه موجود لجميع الآيات القرآنية محكمها ومتشابهها، وأنه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ بل هي من الأمور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ، وإنما قيدها الله سبحانه بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب فهي كالأمثال تضرب ليقرب بها المقاصد وتوضح بحسب ما يناسب فهم السامع كما قال تعالى "وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ" (الزخرف 2 - 4) وفي القرآن تصريحات وتلويحات بهذا المعنى. على أنك قد عرفت فيما مر من البيان أن القرآن لم يستعمل لفظ التأويل في الموارد التي - استعملها وهي ستة عشر موردا على ما عدت - إلا في المعنى الذي ذكرناه.

 

ويستطرد العلامة السيد الطباطبائي في تفسيره الآية المباركة آل عمران 7 قائلا: هل يعلم تأويل القرآن غير الله سبحانه: هذه المسألة أيضا من موارد الخلاف الشديد بين المفسرين، ومنشؤه الخلاف الواقع بينهم في تفسير قوله تعالى والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا الآية، وأن الواو هل هو للعطف أو للاستيناف، فذهب بعض القدماء والشافعية ومعظم المفسرين من الشيعة إلى أن الواو للعطف وأن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه من القرآن، وذهب معظم القدماء والحنفية من أهل السنة إلى أنه للاستيناف وأنه لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله وهو مما استأثر الله سبحانه بعلمه. وقد استدلت الطائفة الأولى على مذهبها بوجوه كثيرة، وببعض الروايات. والطائفة الثانية بوجوه أخر وعدة من الروايات الواردة في أن تأويل المتشابهات مما استأثر الله سبحانه بعلمه وتمادت كل طائفة في مناقضة صاحبتها والمعارضة مع حججها. والذين ينبغي أن يتنبه له الباحث في المقام أن المسألة لم تخل عن الخلط والاشتباه من أول ما دارت بينهم ووقعت موردا للبحث والتنقير، فاختلط رجوع المتشابه إلى المحكم. وبعبارة أخرى المعنى المراد من المتشابه بتأويل الآية كما ينبىء به ما عنونا به المسألة وقررنا عليه الخلاف وقول كل من الطرفين آنفا. ولذلك تركنا التعرض لنقل حجج الطرفين لعدم الجدوى في إثباتها أو نفيها بعد ابتنائها على الخلط وأما الروايات فإنها مخالفة لظاهر الكتاب فإن الروايات المثبتة، أعني الدالة على أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل فإنها أخذت التأويل مرادفا للمعنى المراد من لفظ المتشابه ولا تأويل في القرآن بهذا المعنى. كما روي من طرق أهل السنة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا لابن عباس فقال اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، وما روي من قول ابن عباس أنا من الراسخين في العلم وأنا أعلم تأويله، ومن قوله إن المحكمات هي الآيات الناسخة والمتشابهات هي المنسوخة فإن لازم هذه الروايات على ما فهموه أن يكون معنى الآية المحكمة تأويلا للآية المتشابهة وهو الذي أشرنا إليه أن التأويل بهذا المعنى ليس موردا لنظر الآية. وأما الروايات النافية أعني الدالة على أن غيره لا يعلم تأويل المتشابهات مثل ما روي أن ابن عباس كان يقرأ وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به وكذلك كان يقرأ أبي بن كعب.

 

وما روي أن ابن مسعود كان يقرأ وإن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به، فهذه لا تصلح لإثبات شيء أما أولا فلأن هذه القراءات لا حجية فيها وأما ثانيا فلأن غاية دلالتها أن الآية لا تدل على علم الراسخين في العلم بالتأويل وعدم دلالة الآية عليه غير دلالتها على عدمه كما هو المدعى فمن الممكن أن يدل عليه دليل آخر. ومثل ما في الدر المنثور، عن الطبراني عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خصال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وما يعلم تأويله إلا الله - والراسخون في العلم يقولون آمنا به - كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب، وأن يكثر علمهم فيضيعونه ولا يبالون به. وهذا الحديث على تقدير دلالته على النفي لا يدل إلا على نفيه عن مطلق المؤمن لا عن خصوص الراسخين في العلم ولا ينفع المستدل إلا الثاني. ومثل الروايات الدالة على وجوب اتباع المحكم والإيمان بالمتشابه. وعدم دلالتها على النفي مما لا يرتاب فيه. ومثل ما في تفسير الآلوسي، عن ابن جرير عن ابن عباس مرفوعا أنزل القرآن على أربعة أحرف حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب. و الحديث مع كونه مرفوعا ومعارضا بما نقل عنه من دعوة الرسول له وادعائه العلم به لنفسه مخالف لظاهر القرآن أن التأويل غير المعنى المراد بالمتشابه على ما عرفت فيما مر. و الذي ينبغي أن يقال أن القرآن يدل على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى، وأما هذه الآية فلا دلالة لها على ذلك.

 

أما الجهة الثانية فلما مر في البيان السابق أن الآية بقرينة صدرها وذيلها وما تتلوها من الآيات إنما هي في مقام بيان انقسام الكتاب إلى المحكم والمتشابه، وتفرق الناس في الأخذ بها فهم بين مائل إلى اتباع المتشابه لزيغ في قلبه وثابت على اتباع المحكم والإيمان بالمتشابه لرسوخ في علمه، فإنما القصد الأول في ذكر الراسخين في العلم بيان حالهم وطريقتهم في الأخذ بالقرآن ومدحهم فيه قبال ما ذكر من حال الزائغين وطريقتهم وذمهم، والزائد على هذا القدر خارج عن القصد الأول ولا دليل على تشريكهم في العلم بالتأويل مع ذلك إلا وجوه غير تامة تقدمت الإشارة، إليها فيبقى الحصر المدلول عليه بقوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله من غير ناقض ينقضه من عطف واستثناء وغير ذلك. فالذي تدل عليه الآية هو انحصار العلم بالتأويل فيه تعالى واختصاصه به. لكنه لا ينافي دلالة دليل منفصل يدل على علم غيره تعالى به بإذنه كما في نظائره مثل العلم بالغيب قال تعالى " قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ" (النمل 65)، وقال تعالى "إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ" (يونس 20)، وقال تعالى "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ" (الأنعام 59)، فدل جميع ذلك على الحصر ثم قال تعالى "عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ" (الجن 26، 27)، فأثبت ذلك لبعض من هو غيره وهو من ارتضى من رسول، ولذلك نظائر في القرآن. وأما الجهة الأولى - وهي أن القرآن يدل على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى في الجملة - فبيانه أن الآيات كما عرفت تدل على أن تأويل الآية أمر خارجي نسبته إلى مدلول الآية نسبة الممثل إلى المثل، فهو وإن لم يكن مدلولا للآية بما لها من الدلالة لكنه محكي لها محفوظ فيها نوعا من الحكاية والحفظ، نظير قولك "في الصيف ضيعت اللبن" لمن أراد أمرا قد فوت أسبابه من قبل، فإن المفهوم المدلول عليه بلفظ المثل وهو تضييع المرأة اللبن في الصيف لا ينطبق شيء منه على المورد، وهو مع ذلك ممثل لحال المخاطب حافظ له يصوره في الذهن بصورة مضمنة في الصورة التي يعطيها الكلام بمدلوله.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك