الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في کتاب الإمام علي عليه السلام وتنمية ثقافة أهل الكوفة للمؤلف محمد العبادي: عن ثقافة الاستشارة: شاور أمير المؤمنين عليه السلام أصحابه في أكثر من موطن ومناسبة، تأسّياً بالنّبي في سيرته وتجسيداً لقوله تعالى: "وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ" (ال عمران 159) الآية الكريمة كانت تأمر النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله في مشاورة أصحابه، والقرار والعزم النهائي يبقى بيد النبي الكريم، ويتوكل على الله في تنزيل الأمر والموضوع إلى الواقع. هذه الاستشارة تعني إشراك الأمّة في القضايا الّتي تتعلّق بها، وتحريك فعالية المسلمين نحو الأمور المختلفة (فَأَعِينُونِي بِمُنَاصَحَةٍ، خَلِيَّةٍ مِنَ الْغِشِّ سَلِيمَةٍ مِنَ الرَّيْبِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ). وهي لا تعني قصور القيادة العليا للمسلمين عن نيل الرأي السديد، بل هي من أجل وضع المسلمين في دائرة المسؤولية المتبادلة، وتفعيل دورهم باتجاه القضايا المختلفة. يبقى الاختيار والقرار بعد المشورة بيد مَن يتولّى أمور المسلمين. (إنّي لأَولى النّاس بالنّاس، أضمم أراء الرّجال بعضها إلى بعضٍ، ثمّ اختر أقربها إلى الصّواب وأبعدها من الارتياب). للاستشارة بُعدين أو ظهيرين يمكن استشفافهما من الحكمة العلوية (وَلا ظَهِيرَ كَالْمُشَاوَرَةِ) وهما: 1. الظّهير أو البعد العلمي: أي البعد العلمي بضمّ الآراء إلى بعضها، حيث يعطي ضفر الآراء القوّة والمتانة للرأي المستخلص منها. 2. الظهير أو البعد الاجتماعي: يتمثل في اجتماع المسلمين بمكان واحد لمداولة أمورهم أو البحث عن رأي سليم، ففي ذلك الاجتماع قوة اجتماعية للمسلمين، حيث تشدّ النّفوس بعضها إلى بعض.
وعن الأسلوب التذكيري في الثقافة يقول الشيخ العبادي: الغاية من هذا الأسلوب هي النظر في العواقب واستلهام العبرة، قد ورد في التنزيل الحكيم: "أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ" (الروم 9) و "أَوَلَمْ نُعَمّرْكُم مّا يَتَذَكّرُ فِيهِ مَن تَذَكّرَ" (فاطر 37) جاء في كلام له عليه السلام: (وليكن نظركم عبراً). لقد ذكّر أمير المؤمنين عليه السلام بسيرة الماضين وكيف كانوا، وكيف مضوا، بعد أن نعموا في أعمارهم، ولهوا في إمهالهم، فصاروا إلى ما رحلوا إليه من المصير (عِبَادَ اللَّهِ أَيْنَ الَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا، وَعُلِّمُوا فَفَهِمُوا، وَأُنْظِرُوا فَلَهَوْا، وَسُلِّمُوا فَنَسُوا، أُمْهِلُوا طَوِيلاً، وَ مُنِحُوا جَمِيلاً، وَ حُذِّرُوا أَلِيماً). إنّ أهمية هذا الأسلوب تكمن في التأكيد على التذكير وقبوله، حتى يتسنّى الاعتبار للناس من التذكير (عبادَ الله إنّ الدّهر يجري بالباقين كجريه بالماضين، لا يعود ما قد ولّى منه، ولا يبقى سرمداً ما فيه).
وعن الأسلوب الفلسفي في الثقافة يتحدث مؤلف كتاب الإمام علي عليه السلام وتنمية ثقافة أهل الكوفة محمد العبادي: الغاية منه الوقوف على سرّ الشيء، وحقيقته. فرض الله تعالى على عباده مجموعة وظائف وتكاليف إلهية، ليتقرّب بها إليه سبحانه. الإسلام دين العلم والبيان، فلم يضع الله حكماً، إلاّ وقد بيّنه رسوله الكريم صلّى الله عليه وآله وبيّنه النّبي لعليّ خاصة وللأمّة على وجه العموم. علي عليه السلام بدوره عمل على بيان سرّ هذه الوظائف والتكاليف وحقيقتها، وعن ذلك (مَا حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ، تَسْكِيناً لأَطْرَافِهِمْ وَتَخْشِيعاً لأَبْصَارِهِمْ، وَتَذْلِيلاً لِنُفُوسِهِمْ وَتَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ، وَإِذْهَاباً لِلْخُيَلاءِ عَنْهُمْ وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً، وَالْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالأَرْضِ تَصَاغُراً، وَلُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلاً، مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الأَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ، انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ، وَقَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ). إنّ بيان حقيقة التكاليف والوظائف الإلهية يعطي للمسلمين رصيداً ثقافيّاً عن خلفيات الأوامر والنواهي الإلهية وماهيّاتها، وهذا الرصيد الثقافي والمعرفي يؤدي إلى ترسيخ الإيمان في نفوس المسلمين، وتثبيت هذه الحقائق في أذهانهم، بعد أن حدّد الإمام عليه السلام حيثيّاتها بشكل تفصيلي. (أَلا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ صلوات الله عليه إِلَى الآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، بِأَحْجَارٍ لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ وَلا تُبْصِرُ وَلا تَسْمَعُ، فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ "الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً" (المائدة 97). ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الأَرْضِ حَجَراً، وَأَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً، وَ أَضْيَقِ بُطُونِ الأَوْدِيَةِ قُطْراً، بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَرِمَالٍ دَمِثَةٍ، وَعُيُونٍ وَشِلَةٍ وَقُرىً مُنْقَطِعَةٍ، لا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَ لا حَافِرٌ وَ لا ظِلْفٌ، ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ عليه السلام وَوَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ، فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ، وَغَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ، تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الأَفْئِدَةِ، مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ، وَمَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ، وَجَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ، حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلاً، يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَيَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ، قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَشَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ، ابْتِلاءً عَظِيماً وَامْتِحَاناً شَدِيداً، وَاخْتِبَاراً مُبِيناً وَتَمْحِيصاً بَلِيغاً، جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَوُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ).
وعن الأسلوب النفسي في الثقافة يقول الشيخ العبدي في كتابه الإمام علي عليه السلام وتنمية ثقافة أهل الكوفة: الغاية منه التأثير على الميدان النفسي للآخرين، فهذا الأسلوب يعني استخدام إرادة ضّد إرادة أخرى. قد عمل أمير المؤمنين عليه السلام قبل نشوب الحرب مع معاوية في صفّين على توجيه ضربات نفسية إلى معاوية، لتعظيم مقاومته، (فَلَبِّثْ قَلِيلاً يَلْحَقِ الْهَيْجَا حَمَلْ، فَسَيَطْلُبُكَ مَنْ تَطْلُبُ، وَيَقْرُبُ مِنْكَ مَا تَسْتَبْعِدُ، وَأَنَا مُرْقِلٌ نَحْوَكَ فِي جَحْفَلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، شَدِيدٍ زِحَامُهُمْ سَاطِعٍ قَتَامُهُمْ، مُتَسَرْبِلِينَ سَرَابِيلَ الْمَوْتِ أَحَبُّ اللِّقَاءِ إِلَيْهِمْ لِقَاءُ رَبِّهِمْ، وَقَدْ صَحِبَتْهُمْ ذُرِّيَّةٌ بَدْرِيَّةٌ وَسُيُوفٌ هَاشِمِيَّةٌ، قَدْ عَرَفْتَ مَوَاقِعَ نِصَالِهَا فِي أَخِيكَ وَخَالِكَ وَجَدِّكَ وَأَهْلِكَ "وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ" (هود 83)). إنّ هذا الأسلوب النفسي شلّ معنويات معاوية وثبّط عزيمته من خلال إلقاء الرّعب في قلبه. استخدم الإمام عليه السلام أسلوب نفسي آخر، بإظهار الصّلابة والقّوة الشّجاعة في مواجهة معاوية، حيث دعاه عليه السلام للبراز والقتال فيما بينهم على انفراد دون الناس، واستعان بأسلوب الإثارة النفسية لتحريك معاوية في قبول البراز (وَقَدْ دَعَوْتَ إِلَى الْحَرْبِ فَدَعِ النَّاسَ جَانِباً وَاخْرُجْ إِلَيَّ وَأَعْفِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْقِتَالِ، لِتَعْلَمَ أَيُّنَا الْمَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ وَالْمُغَطَّى عَلَى بَصَرِهِ، فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ جَدِّكَ وَأَخِيكَ وَخَالِكَ شَدْخاً يَوْمَ بَدْرٍ وَذَلِكَ السَّيْفُ مَعِي).
https://telegram.me/buratha