د. أمل محمد الأسدي ||
بدءا دعونا نغادرُ التقليديةَ في طرح المعلومات ونجعل مادتنا هذه مُحَرِّكةً للذهن، مثيرةً للتساؤلاتِ، باحثةً في مكامن الخلود الزينبي ؛لذا سنضعُ محاورنا في مجموعةٍ من الأسئلة ثم نجيبُ عليها، ونرتبُ النتائج علی أساسِ هذه الإجابات:
المحور الأول: كيف تمثلت علاقةُ الإنسانِ بِرَحِمِه في النص القرآني؟
المحور الثاني: كيف تجسدتْ صورةُ الإنسان ورحمه في مشاهد القيامة؟
المحور الثالث: كيف ظهرت علاقةُ المرأةِ (الأم) بوَلَدِها في النص القرآني؟(السيدةُ أمُّ النبيِّ موسی (عليه السلام) أنموذجًا)
المحور الرابع: هل الإيمانُ أقوی من المشاعرِ الإنسانيةِ؟( السيدة زينب(عليها السلام) أنموذجًا.
ـالمحورُ الأول: كيف تمثلت علاقةُ الإنسانِ برحمه في النص القرآني؟
لاشكَّ أنَّ النصَ القرآنيَ هو نص قصديُّ في كلِّ شيءٍ دعا إليهِ، يتقصَّدُ الجملةَ والكلمةَ والحرفَ الواحدَ، فهو كتابٌ رساليٌّ ودستورٌ إلهيٌّ، يستهدفُ بناءَ الإنسانِ والسعيَ الی الارتقاءِ بهِ ليُحَقِّقَ السموَّ الروحيَّ، وعليهِ لم يغفلْ عن أيةِّ تفصيلةٍ صغيرةٍ في حياةِ الفردِ إلاّ والتفتَ إليها! ومن النقاطِ التي تناولها بشكلٍ مباشرٍ أو ضمنيٍّ هو: عَلاقةُ الإنسانِ بأولادِهِ، فقد جُبِلَ الإنسانُ علی حبِّ أبنائه ، فهم جزءٌ من تكوينهِ ووجودِهِ، وهم امتدادُهُ الطبيعيّ، وهم مهجتُهُ في الحياةِ ، قال تعالی:((
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ...)) سورة الكهف، الآية ٤٦
ولعلّ الصورةَ الأوضحَ التي جسّدتْ مكانةَ الولدِ عند أبيه وعكستْ مدی تعلقهِ به ، جاءت في سورة يوسف، إذ أظهرَ لنا السردُ القصصيُّ شخصيةَ النبيِّ( يعقوب) وهو يتألمُ ويتعذبُ لفراق ابنه،وعلی الرغم من أنه نبيٌّ مَرسَلٌ ومختارٌ لأداءِ مهمة تبليغيةٍ إلاّ أن الحزنَ استبدَ به ولاسيما بعد غياب ولده الآخر!!
فلم يَحُلْ الصبرُ الجميلُ عن الألم والحزنِ والبكاءِ واللوعة كما ظهرَ في قولهِ تعالی:((... وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)) سورة يوسف،الآية: 84 لم يحُل عن الحزنِ الشديد رغم معرفتهِ بأنّ ولدَه ليسَ في عِدادِ الأمواتِ وأنه سيلقاهُ في يومٍ من الأيامِ!!
فلم يستسلم ( النبي يعقوب) لوجعِ الفقدِ رغمَ مرورِ السنين، وبقي يتأملُ عودةَ ابنه وعودة أخيه، فحثَّ علی التقصي عنه وعن أخيه، ولم ييأسْ ولم يتوانَ إلی أن آن وقتُ اللقاءِ والاجتماعِ، وآن وقتُ سقوطِ الأقنعةِ وبيانُ الحقائقِ، ومع ما تعرّضَ له من ظلمٍ وأذًی بسبب أبنائه(إخوة يوسف) إلا أنَّه لم يقسُ عليهم، ولم يلعنْهم!!
بل دعا لهم واستغفرَ لهم فِعلتَهم الشنيعةَ، كما وردَ في قوله تعالی:((قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) سورة يوسف، الآية:٩٨
المحور الثاني: كيف تجسدتْ صورةُ الإنسانِ ورَحِمِهِ في مشاهد القيامة؟
القيامةُ واليومُ الآخِرُ من أهم المفهوماتِ الغيبيةِ التي قامتْ عليها الدعوةُ الإسلاميةُ، فلابدَّ من يومِ الفصلِ الذي تُكْشَفُ فيهِ الأوراقُ وتُعْلَنُ فيه الخوافي، لذا سعی القرآنُ الی تجسيدِ هذا المفهومِ بطريقةٍ مشهديةٍ كي تؤثرَ في المتلقي، وتنقلهُ الی عالَمِ الآخرةِ المُصَوَّرِ في هذه المشاهدِ، فقدّم لنا القرآنُ الكريمُ مشهدًا من مشاهدِ القيامةِ، مبينًا صورةَ الإنسانِ وعلاقتَهُ برحمهِ وذويهِ لحظةَ قرعِ أجراسِ النهاية، فعبَّرَ عن ذلك في قولهِ تعالی:(( فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ (33)يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِىء مِنْهُمْ يَوْمَئِذ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)) سورة عبس الآيات:34 ـ 37
هذه الآياتُ تبيّنُ لحظةَ وقوعِ الواقعةِ التي وصفها اللهُ بـ (الصاخة) والصاخةُ تعني الصوتَ الشديدَ الرهيبَ الذي يذهِلُ الإنسانَ عن كل شيء، حتی عن ذويه وأرحامهِ، ولكَ عزيزي المتلقي، أن تتخيلَ المشهدَ ، مشهدَ الفرارِ والذُعر، فيحاولُ الإنسانُ أن ينجوَ بنفسه، وعلی ذلكَ يتخلّصُ من المعوقاتِ التي تُثقله، فيترك أخاه أولًا ومن ثم يتركُ أمَّهُ التي حملتْهُ وربّتهُ وسهرتْ الليالي في رعايتهِ!! وبعدها يتخلی عن أبيهِ علی الرغم من أنَّهُ سرُّ وجودهِ في هذه الحياةِ ، وعلی الرغمِ من أنَّهُ هو عمادُهُ وسندُه طيلةَ فترةِ حياتهِ!!
يتخلص من ذويه بالتتابعِ، واحدًا تلو الآخر، فيبقي صاحبتَه(امرأته) لآخر المشوار، وبعدها لايجدُ مفرًا من التخلي عنها أيضا، وفي نهايةِ المشهدِ ، وفي نهاية سُلّمِ التخلي،يترك (بنيه)، فالأبناء هم الأغلی لدی الإنسان. وهم الأعزُّ عندهُ؛ لايضحي بهم حتی نهايةَ المطافِ.
وهذا نجدهُ في حياتِنا العامةِ، وكأنّهُ عُرفٌ أو طبعٌ بشريٌّ، فقد يصبر الشخصُ علی بُعد والديهِ وبُعدِ إخوتهِ لأيامٍ عديدة وشهورٍ عديدة ، وسنوات عديدة، لكنّه لا يستطيعُ الابتعادَ عن زوجتهِ وأولادهِ، ولايستطيعُ التقصيرَ في تقديمِ كلِّ ما يحتاجون إليهِ وهو راضٍ وسعيدٌ بذلك، لأنهم مسؤوليتهُ في هذه الحياةِ علی الرغمِ من دورِ الوالدينِ في وجودهِ وفي تنشئتهِ ورعايتهِ.
ملحوظة:سنكمل المحورين في مقال آخر.
https://telegram.me/buratha