الامامة أمتداد للنبوة وهي موهبة إلهيّة يَمنحُها الله سبحانه وتعالى لِمَنْ هو أهل لها من عباده المصطفين، ولا دخل للعمر في ذلك.. ومن هذا المنطلق نرى أنها منحت للطفل الصغير كما الكبير على شاكلة النبوة ولا دخل لنا بالذين يشككون في المسألة، فهم إمتداد لمن شكك في النبوة أيضاً جهلاء منافقون كافرون ملحدون حتى لو تقمصوا بحلة الاسلام الأموي المزيف منذ سقيفة بني ساعدة .
الحديث عن إمامة الامام محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليهم السلام الملقب بالجواد، هو ذات الحديث عن نبوة النبي يحيى والنبي عيسى عليهما السلام يمنحها الخالق المتعال جل وعلا لعباده الذين أصطفاهم دون غيرهم من البشرية وأهليّـتهم لهذا المقام الرفيع، قال تعالى: "يا يحيى خُذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً"- مريم 12، وقال تعالى: "قالوا كيف نكلم مَن كان في المهد صبياً * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً" - مريم 29 ـ 30 ؛ فاذا إن لم يكن هناك مانعاً لأن يعطي الله سبحانه وتعالى جميع العلوم لطفل صغير مثل يحيى أو عيسى عليهما السلام في النبوة، فما المانع لأن يعطيها لصبي في الثامنة أو التاسعة من عمره وهو الامام الجواد عليه السلام أو لحفيده الامام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف وهو في الخامسة من عمره، في الامامة ؟ .
الامام محمد بن علي الجواد عليهما السلام الذي نعيش اليوم العاشر من رجب الأصب لسنة 195 للهجرة بالمدينة المنورة؛ هو أروع صور الفكر والعلم في الاسلام؛ حوى فضائل الدنيا ومكارمها، وفجر ينابيع الحكمة والعلم في الأرض، فكان المعلّم والرائد للنهضة العلمية، والثقافية في عصره، وقد أقبل عليه العلماء والفقهاء، ورواة الحديث، وطلبة الحكمة والمعارف، وهم ينتهلون من نمير علومه وآدابه.
رغم كل ذلك تعرض الامام محمد الجواد (ع) لأذى الأعداء والجهال والطعن بإمامته لصغر سنه، وأقدموا على إختباره مرات عديدة لتتجلى العلوم الالهية على يده (ع) ببراهين ساطعة صاعقة جعل اعداءه يذعنون ويقرون بعلمه وإمامته، لكن حقد أمية وجهلها لاحقه كأبائه وأبنائه وشيعته ومحبيه وأنصاره دون توقف منذ تلك المؤامرة حتى يومنا هذا يفتك بالأمة ويمزق أوصالها ويسفك دماءها ويعبث بمقدراتها وينتهك مقدساتها ويرسم صورة إجرامية وحشية بشعة من الدين الاسلامي الحنيف، دين الرحمة والمحبة والمودة والألفة دعماً للاسلام فوبيا التي خطط لها بني صهيون منذ بزوغ نور الهداية المحمدية بولادة الصادق الأمين في عام الفيل وحتى عصرنا الحاضر مستنجدين بالفكر التكفيري الوهابي الذي يعبث بالأمة الفساد والدمار والنهب والتعدي على الحرمات والأعراض ويحرق الأخضر واليابسة من العراق وحتى الجزائر ومن سوريا وحتى اليمن مروراً بفلسطين والبحرين وبلاد الحرمين الشريفين وشبه القارة الهندية وغيرها من بلاد المسلمين .
برهن الامام أبو جعفر الجواد (ع) بمواهبه وعبقرياته وملكاته العلمية الهائلة التي ملكت عقول كل من عاصره وتطّلع الى شخصيته العملاقة واطلع على عظمة فكره وكمال علمه، بانه أعلم أهل زمانه وأفضلهم رغم صغر سنه، حيث أمدّ الله سبحانه وتعالى أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بالعلم والحكمة وفصل الخطاب كما أمدَّ أُولي العزم من أنبيائه ورسله عليهم السلام؛ ولذلك فكان أهلاً لتقلد الامامة والزعامة الدينية بعد وفاة أبيه الامام الرضا (ع) وكان عمره الشريف لا يتجاوز التسع سنين..عاش حياته متجهاً صوب العلم فرفع منارة الاسلام المحمدي الأصيل، وأرسى أصوله وقواعده، وأستثمر مدّة حياته المباركة في التدريس ونشر المعارف والآداب الاسلامية، واحتفّ به جمهور كبير من العلماء والرواة ينهلون منه العلوم الإسلامية من علم الكلام والفلسفة، وعلم الفقه، والتفسير.. فكان ل من يراه لم يقدر أن يتمالك نفسه أمامه ويخرج من عنده إلاّ والإعجاب والخضوع يتسابق بين يديه.
قال عنه الشيخ كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي المتوفّى سنة (652 هـ ): "وان كان صغير السن فهو كبير القدر رفيع الذكر.. مناقب أبي جعفر محمدالجواد ما اتسعت حلبات مجالها ولا امتدّت أوقاف آجالها بل قضت عليه الأقدار الإلهية بقلّة بقائه في الدنيا بحكمها وسجالها فقلّ في الدنيا مقامه وعجّل عليه فيها حمامه فلم تطل لياليه ولا امتدّت أيّامه غير أن الله خصّه بمنقبة أنوارها متألّقة في مطالع التعظيم وأخبارها مرتفعة في معارج التفضيل والتكريم.. ثم ذكر تلك المنقبة التي اعترف بعدها المأمون له بالفضل والسموّ" - راجع مطالب السؤول: 239، والفصول المهمة: 252.
ساهم الامام محمد بن علي الجواد (ع) خلال مدة إمامته التي دامت نحو سبعة عشر عاماً في إغناء معالم مدرسة أهل البيت عليهم السلام مدرسة الاسلام الناصع وحفظ تراثها، فاعتمد أسلوب التدريس وتعليم التلامذة والعلماء، القادرين على استيعاب علوم الشريعة ومعارفها؛ فحثهم على الكتابة، والتدوين، وحفظ ما يصدر عن أئمة أهل البيت (ع)، وأمرهم بالتأليف، والتصنيف، ونشر ما يحفظون، لبيان علوم الشريعة الاسلامية السمحاء، وتعليم المسلمين وتفقيههم، أو الرد على الأفكار المنحرفة، والفهم الخاطىء، الذي وقع فيه الكثيرون .
وهكذا صار حول الامام الجواد (ع) تلامذة ورُواة، ينقلون ويروُون ويكتبون؛ عدهم الشيخ الطوسي (رضوان الله عليه) نحو مِائة من الثقات، ومنهم أمرأتان، كلّهم تتلمذوا على يديه المباركتين.. فصنَّفوا في مختلف العلوم والمعارف الإسلامية.. نذكر على سبيل المثال لا الحصر بعضاً من أصحاب الامام أبي جعفر(ع) الذين روى علماء الرجال والمحققون عنهم :
1- أحمد بن محمد بن خالد البرقي: صنّف كتباً كثيرة ، بَلَغت أكثر من تسعين كتاباً.
2- علي بن مهزيار الأهوازي: له أكثر من ثلاثة وثلاثين كتاباً.
3- صفوان بن يحيى: له كتب كثيرة، ومسائل عن الامام الكاظم (ع).
4- أحمد بن محمد بن أبي نصر: كان عظيم المنزلة، له كتابا "الجامع" و"النوادر".
https://telegram.me/buratha