المصدر : مؤسسة السبطين
يوافق غرة شهر رجب الأصب ميلاد خامس أئمة أهل البيت (ع) الإمام علي بن محمد الباقر عليه السلام، فهذا الإمام الهمام (ع) قدم الإنسانية تراث قيم منها مدرسته الشهيرة التي كلها عطاء.
في عصر الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بدأت الدولة الأموية بالتصدع ، وبدأت عندها الدعوة العباسية بالظهور .
ففي ذلك الوقت استغل الإمام الباقر ( عليه السلام ) هذا الظرف المناسب ، وفتح مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) الشهيرة ، والتي أتمَّ مسيرتها الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) من بَعدِه ، تخرَّج من هذه المدرسة المُبَاركة المِئات من العلماء الأفاضل .
وكان ذلك مُصداقاً لما أخبر به الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) جابر بن عبد الله الأنصاري ، حيث قال ( صلى الله عليه وآله ) :
( يَا جَابر يُوشَك أن تلحق بِوَلد مِن وُلدِ الحسين ، اسمُهُ كاسمي ، يبقر العِلْم بقراً ، فإِذَا رأيتَهُ فأَقرِأْهُ مِنِّي السَّلام ) .
نعم ، لقد بقر الإمام الباقر ( عليه السلام ) العلمَ ، وفَجَّره في جميع مجالات الحياة ، من خلال هذه المدرسة العظيمة .
فمدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) هي أول مدرسة فكرية أُنشِأت في الإسلام ، وقد عَملت بِكُلِّ طاقاتها على تقدّم حياة المسلمين وتطويرها .
ولم تقتصر علومها على التشريع الإسلامي ، وإنما تناولت جميع العلوم والمعارف من الإدارة ، إلى الاقتصاد ، إلى الطبِّ والكيمياء ، إلى الحكمة والفلسفة ، إلى علم الكلام ، وإلى العلوم السياسية .
هذه المؤسسة العظيمة قامت بدور مهم في تأسيس هذه العلوم وتدوينها ، بعد أن مَنَع الخليفةُ الأول والثاني تدوينَ الحديث الشريف ، لأن ذلك قد يؤثِّر في تلاوة القرآن ، وانشغال الناس بالحديث عن كتاب الله تعالى .
ولا ريب في أنه اعتذار مهلهل ، لا واقع له ، ولا يدخل في حساب المنطق السليم .
وقد روى السيد حسن الصدر في كتابه : أن الشيعة هم أول من عنوا بالفقه وتدوين بعض مسائله ، كالصلاة ، والوضوء ، وسائر الأبواب .
ومن هؤلاء نذكر علي بن أبي رافع ( رضوان الله عليه ) ، فقد كان من أعلام الشيعة وخيارهم في عصر الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، كما أنه كان كاتباً له ( عليه السلام ) .
فألَّف كتاباً في فنون الفقه ، فَصَّل فيه كل الأبواب المتعلقة بالعبادة .
وكذلك سليم بن قيس الهلالي الكوفي ( رضوان الله عليه ) ، وهومؤلف آخر ، له شأن كبير في هذا الموضوع .
فكان من أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وعَاشَ إلى زمن الطاغية الحَجَّاج بن يوسف .
وقد أراد هذا - الحجاج - الفتك به ، فلجأ إلى أبان بن عَيَّاش ، فآواه .
وحينما حضرته الوفاة أعطاه كتابه المشهور باسمه ، وهو أول كتاب ظهر للشيعة ، رواه أبان بن أبي عياش .
مُميِّزات مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) :
تميزت مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) بما يأتي :
أولاً : الاتصال بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) :
فالشيء المهم في فقه أهل البيت ( عليهم السلام ) هو أنه يتصل اتصالاً مباشراً بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) .
فطريقُهُ إليه أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، الذين أذهب اللهُ عنهم الرجسَ ، وطهَّرَهم تطهيراً ، وجعلهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) سُفُن النجاة ، وأَمْن العِبَاد ، وعُدَلاء الذكر الحكيم ، حَسْبَما تواترت الأخبار بذلك .
قال ( عليه السلام ) : ( لو إِنَّنا حَدَّثنا برأينا ضَلَلْنا ، كما ضَلَّ من قبلنا ، ولكِنَّا حَدَّثنا بِبَيِّنَة من رَبِّنا بَيَّنها لنبِيِّه ( صلى الله عليه وآله ) ، فَبَيَّنَها لَنا ) .
ثانياً : المُرُونة :
إنَّ فِقه أهل البيت يساير الحياة ، ويواكب التطوُّر ، ولا يَشُذُّ عن الفطرة ، ويتمشَّى مع جميع مُتطلَّبات الحياة .
فَلَيس فيه حرج ولا ضيق ، ولا ضرر ولا إضرار ، وإنما فيه الصالح العام ، والتوازن في جميع مناحي تشريعاته ، وقد نال إعجاب جميع رجال القانون ، واعترفوا بأنه من أثْرى ما قُنِّنَ في عالم التشريع ، عُمقاً وأصالة وإبداعاً .
ثالثاً : فتح باب الاجتهاد :
إنَّ من أهم ما تَميَّز به فقه أهل البيت ( عليهم السلام ) هو فتح باب الاجتهاد ، فقد دلَّ ذلك على حَيَويَّة فقه أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وتفاعله مع الحياة ، واستمراره في العطاء لجميع شؤون الإنسان .
وإنه لا يقف مَكتوفاً أمام الأحداث المستجِدَّة التي يبتلى بها الناس خصوصاً في هذا العصر الذي برزت فيه كثير من الأحداث ، واستحدثت فيه كثير من الموضوعات .
وقد أدرك كبار علماء المسلمين من الأزهر في عصرنا الحاضر مدى الحاجة الملحَّة إلى فتح باب الاجتهاد ، كما فعلت الشيعة الإمامية .
رابعاً : الرجوع إلى حكم العقل :
اِنفرد فقهاء الإمامية عن بقيَّة المذاهب الإسلامية فَجَعلوا العقل واحداً من المصادر الأربعة لاستنباط الاحكام الشرعية ، وقد أضفوا عليه أسمى ألوان التقديس فاعتبروه رسول الله الباطني ، وإنه مما يُعبَد به الرحمن ، ويكتَسب به الجنان .
ومن الطبيعي أن الرجوع إلى حكم العقل إنَّما يَجوز إذا لم يكن في المسألة نَصٌّ خاص أو عام ، وإلا فهو حاكم عليه ، وإن للعقل مَسرحاً كبيراً في علم الأصول الذي يتوقف عليه الاجتهاد .
خامساً : تنوع علوم المدرسة :
إنَّ مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) التي كان يشرف عليها الإمام الباقر ( عليه السلام ) لم تقتصر على تدريس علم الفقه ، بل اهتمَّت بجميع العلوم العلمية ، والفكرية ، والاجتماعية ، والأدبية ، والتاريخية .
وأخيراً : نقول : إزدهرت هذه المدرسة في عهد الإمام الباقر ( عليه السلام ) ، لأنه قام برعايتها خير قيام ، حتى باتَتْ معروفة على صعيد العالم الإسلامي ، مما جعل العلماء يلتفُّون حوله ، من كل حدب وصوب ، وينهلون من نَمِير علومه ، ومعارفه ، وحكمه ، وتفسيراته .
وقد تخرَّج من هذه المدرسة مجموعة كبيرة من الرواة ، والمحدِّثين ، والعلماء الثقات ، فتَلقّوا علوماً كثيرة في شتى المجالات ، نذكر نموذجاً منهم :
زرارة بن اعين ، محمد بن مسلم ، ابان ابن تغلب ، عطاء بن أبي رباح ، عمرو بن دينار ، الزهري ، ربيعة الرأي ، ابن جريج ، الاوزاعي ، بسام الصيرفي ، أبو حنيفة ، جابر بن حيان الكوفي .
وقد روى بعض مَن شَاهَد الإمام الباقر ( عليه السلام ) أثناء أدائه لمراسم الحَجِّ ، فقال : إنثال عليه الناس يستفتونه عن المُعضلات ، ويستفتحون أبواب المُشكلات ، فلم يرم حتى أفتاهم ( عليه السلام ) مِن ألف مسألة ، ثم نهض يريد رحله .
.............
https://telegram.me/buratha