خطاب الإمام(عليه السلام) في جيش الكوفة :
أخذ جيش عمر بن سعد يشدِّد الحصار على الإمام(عليه السلام)وأخذت ملامح الحرب والتصميم على قتاله وقتله تلوح للعيان ولما رأى الحسين(عليه السلام) كثرتهم وتصميمهم على قتاله إذا لم يستسلم ليزيد بن معاوية، تعمّم بعمامة رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) وركب ناقته وأَخذ سلاحه وخرج إلى العدو بهيئة جدّه النبي (صلى الله عليه وآله) وزيّه، وقد كان هو في ملامحه شبيه جدّه وكانت هذه الهيئة وحدها كافية لإعلان حقه في خلافة جدّه دون طاغية الشام لو كانوا يعقلون، فعرف شياطين القوم ومجرميهم أنّ هذه المظاهرة تعود على الحسين (عليه السلام) بفائدة، لاسيما لو وجد مجالاً للكلام وذكر السامعين بآيات من وحي جدّه، فولولوا بلغط وضجيج وطبلوا بطبولهم ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه فقد فعلها مشركي قريش في معركة بدر أخذوا بعمل نفس الشيء وهذا يؤكد إن سلالة الشرك مستمرة منذ الجاهلية وحتى لحد يومنا هذا ليضيعوا على السامعين كلام الله من فم ولي الله بهيئة نبي الله وهو ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) غير أنّ حسين المجد لم يضيع فرصته فاستنصتهم فأبوا أن ينصتوا له لجاجاً وعناداً، فنادى فيهم ثم دنا من معسكرهم حيث يسمعون صوته وراح يقول: يا أهل العراق ـ وجُلُّهُمْ يسمعون ـ ، فقال: {أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظَكم بما يحق لكم عليَّ وحتى أُعْذَرَ إليكم فإن أعطيتموني النّصف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النّصف من أنفسكم فاجمعوا رأيكم ثم لا يكن أمركم عليكم غُمَّةً ثم اْقضوا إليَّ ولا تُنظِرونِ (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)}.وهنا لابد أن نلاحظ إن في خطابه هذا قد قال لهم يا أهل العراق ولم يصفهم المؤمنين أو المسلمين دلالة على أنهم أهل شرك وخيانة وقد فعلوها قبلها مع أبيه وأخيه.
فلما ساد الصمت وهدأ الضجيج خطبهم، فحمد الله وأثنى وذكر الله تعالى بما هو أهله وصلّى على النبي(صلَّى الله عليه وآله) وعلى ملائكته وأنبيائه فَلَمْ يُسْمَعْ متكلمٌ قط قبلَه ولا بعدَه أبلغُ في منطق منه ، ثم قال: {أمّا بعد فانسبوني فانظروا مَنْ أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاكُ حُرمتي؟ ألَسْتُ ابنَ بنتِ نبيّكم وابنَ وصيِّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول الله(صلَّى الله عليه وآله) بما جاء به من عند ربه؟ أوليس حمزةُ سيدُ الشهداء عمّي؟ أو ليس جعفر الطيار في الجنّة بجناحين عَمّي؟ أو لم يبلغكم ما قال رسولُ الله(صلَّى الله عليه وآله) لي ولأخي: هذانِ سيّدا شباب أهل الجنة؟ فإنْ صدقتموني بما أقول ـ وهو الحق ـ فو الله ما تعمدتُ كذباً منذ علمت أن الله يَمْقُتُ عليه أهله، وإنْ كذبتموني فإنَّ فيكم مَنْ إذا سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبا سعيد الخِدْري و سهل بنَ سعد الساعدي وزيد بن أرقم وأنسَ بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟ ... ثم قال لهم الإمام الحسين(عليه السلام): فإن كنتم في شك من هذا فتشكّون أني ابن بنت نبيكم فوالله ليس ما بين المشرق والمغرب ابنُ بنتِ نبىّ غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم! أتطلبونني بقتيل منكم قَتَلْتُه أو مال لكم استهلكته أو بقصاص جراحة؟ فأخذوا لا يكلمونه، فنادى: يا شبث بن ربعي! ويا حجّار بن أبجر! ويا قيس بن الأشعث! ويا يزيد بن الحارث! ألَمْ تكتبوا إليَّ أنْ قد أينعت الثمار واْخضرّ الجَنابُ وإنما تقدِم على جند لك مجندة؟ فقال له قيس بن الأشعث: ما ندري ما تقول، ولكن اِنزل على حكم بني عمّك. فقال له الحسين(عليه السلام): {لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرُّ فِرار العبيد}. ثم نادى:{ يا عبادَ الله! إني عذْتُ بربّي ورَبِّكم أنْ ترجمُونِ، أعوذ بربّي و ربّكم من كلِّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب}.(1)
لقد أبى القوم إلاّ الإصرار على حربه والتمادي في باطلهم، وأجابوه بمثل ما أجاب به أهل مدين نبيَّهم كما حكى الله عَزَّ وجَلَّ عنهم في كتابه الكريم: {مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً}.(2)
"لقد أسمعهم شبل علي (عليه السلام) خطاباً قويم اللهجة قوي الحجّة ـ لو كان ثمة منصف ـ لكنما القوم لم يقابلوه إلاّ بكلمة جامدة: «إنّا لا ندري ما تقول انزل على حكم بني عمك وإلاّ فلسنا تاركيك» كلمة مرّة طليت بالقحة وتبطّنت بالعجرفة والانحراف نحو الزور والغرور، فأجابهم حسين العلاء: «لا والله لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد، يأبى الله ذلك لنا ورسوله (صلى الله عليه وآله) وحجور طابت وطهرت، فلا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام» لكنما المظاهرة باحتجاجه لم تذهب سدىً وعبثاً فما مد الظلام رواقه حتى انجذب الى الحسين (عليه السلام) عديد من فرسان ابن سعد من ذوي المروءة والفتوة تائبين عند المخيم الحسيني".(3)
وهنا تتجلى عبارات وكلام الحسين والتي كتبت بأحرف من نور لتصبح مقولات خالدة يرددها كل ثائر وكل إنسان يؤمن بقيم الحق والعدالة يرفض الظلم والطاغوت ولتصبح شعار يسير على نهجها كل الثائرين والأحرار ولتبقى خالدة على مر الزمان ولتصبح مقولة { لا والله لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد} مقولة يرددها كل المسلمين والمؤمنين ولترفع على كل راية ولافتة في مسيرة الحق والعدالة ورفض الظلم وقد لاحظنا مدى عمق هذه المقولة الخالدة والعظيمة في مسير مشاية الأربعين ليتخذوها حرزاً لكل زائر عند مسيرته في مسيرة العشق الحسيني صوب كعبة الأحرار وقبلة الثوار وحتى أصبح يقال: (انه سن اباء الضيم وأن أباة الضيم يتأسون به). وقد أصبحت أحدى شعارات عاشوراء التي اختطها التاريخ وامتزجت معها دماء الحسين الزكية لتكتب بأحرف من نور تشع ألق هذه الكلمات ويزداد ألقها على مدى التاريخ.
ومن هنا فأن نسله الشريف والحجر الطاهرة التي تربى بها حيث خرج روحي له الفداء من أصلاب وأرحام طاهرة لم تنجسها الجاهلية بانجاسها ولم تلبسها حتى من مدلهمات ثيابها تأبى هذه النفس الشريفة والطاهرة والسامية وبكل معانيها أن تنزل عند حكم يزيد وبني أمية اللئام ليقابلها مصارع الكرام وهو مصرع أهل بيته وأصحابه المنتجبين بدل طاعة هؤلاء المجرمين من حكم يزيد وبنو أمية وهذا ما أشار إليه بعد ذلك في أن الموت أولى من ركوب العار في أحدة مقولاته الخالدة. وهنا مادت وتزلزلت الأرض تحت معسكر أبن سعد وأصبح المجرمين لا يدرون ما يفعلون وبهتوا ولكن الأجرام كان حاضراً بقيادة اللعناء من أبن سعد وشمراً (لعنة الله عليهم) ومن لف لفهم.
"فقال له شمر بن ذي الجوشن : هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول ، فقال له حبيب بن مظاهر : والله إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك. ثم إنَّه أناخ راحلته ، وأمر عقبة بن سمعان بعقلها ، وأقبلوا يزحفون نحوه".(4)
الحر يخيّر نفسه بين الجنّة والنار :
وتأثر الحر بن يزيد الرياحي بكلمات الإمام الحسين(عليه السلام) وندم على ما سبق منه معه، وراح يدنو بفرسه من معسكر الحسين تارة ويعود إلى موقفه أخرى وبدا عليه القلق والاضطراب. وعند ما سئل عن السبب في ذلك قال: (والله إني أُخيِّرُ نفسي بين الجنة والنار وبين الدنيا والآخرة ولا ينبغي لعاقل أن يختار على الآخرة والجنة شيئاً)، ثم ضرب فرسه والتحق بالحسين(عليه السلام) ووقف على باب فسطاطه، فخرج إليه الحسين(عليه السلام) فانكبَّ عليه الحرّ يُقبّل يديه ويسأله العفو والصفح، فقال له الحسين(عليه السلام): (نعم ، يتوب الله عليك وهو التّواب الرحيم). فقال له الحر: والله لا أرى لنفسي توبة إلاّ بالقتال بين يديك حتى أموتَ دونك.(5)وخطب الحر في أهل الكوفة فوعظهم وذكّرهم موقفهم من الإمام(عليه السلام) ودعوتهم له وحثّهم على عدم مقاتلة الإمام(عليه السلام)فقال : "يا أهل الكوفة لامِّكم الهبل والعبر ، أدعوتم هذا العبد الصالح حتى إذا أتاكم أسلمتموه ؟ وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه؟ أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكلكله، وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجُّه إلى بلاد الله العريضة، فصار كالأسير في أيديكم، لا يملك لنفسه نفعاً، ولا يدفع عنها ضرّاً، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري، تشربه اليهود والنصارى والمجوس، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابهم، وهاهم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمداً في ذرّيّته ، لاسقاكم الله يوم الظمأ. ثم مضى إلى الحرب فتحاماه الناس، ثم تكاثروا عليه حتى استشهد".(6)
المعركة الخالدة :
حصّن الإمام(عليه السلام) مخيّمه وأحاط ظهره بخندق أوْقَد فيه النار ليمنع المباغتة والالتفاف عليه من الخلف، وليحميَ النساء والأطفال من العدوان المحقّق.
نظر شمر بن ذي الجوشن إلى النار في الخندق فصاح: ( يا حسينُ تعجّلت النار قبل يوم القيامة، فرد عليه أنت أولى بها صِلِيّا)(7)، وحاول صاحب الحسين(عليه السلام) مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، فاعترضه الإمام ومنعه قائلا: {لا ترمه فإني أكره أن أبدأهم}.(8)
وهذا يدل أن نهضة الحسين كانت نهضة تدعو إلى السلم وهي تدعو إلى الإصلاح وتعديل والانحراف الذي حصل في الرسالة المحمدية وليس كما يدعي البعض أنه خرج لطلب الحكم حيث أفتى مفتي السعودية عبدالعزيز آل الشيخ بأن بيعة يزيد بيعة شرعية وإن الإمام الحسين عليه السلام لم يكن مصيبا في الامتناع عن مبايعة يزيد(9). فأي قصور فكري لدى هؤلاء الأدعياء من الشيوخ والذين يحملون الفكر الأموي والعباسي ولحد الآن والذي أتخذ الآن طابع العنف والقتل والذبح على الهوية ولكل من يخالف فكرهم والذي هو امتداد لذلك الفكر الدموي لنهج بنو أمية وبني العباس وهو تفريخ وتوالد غير طبيعي لهذا الفكر الطاغوتي التدميري ليصبح بهذا العنف السائد في وقتنا الحالي.
برير يضاحك عبد الرحمن في صبح يوم عاشوراء :
قال فلما كان الغداة أمر الحسين (عليه السلام) بفسطاط فضرب فأمر بجفنة فيها مسك كثير و جعل عندها نورة ثم دخل ليطلى فروي أن برير بن خضير الهمداني و عبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاري وقفا على باب الفسطاط ليطليا بعده فجعل برير يضاحك عبد الرحمن فقال له عبد الرحمن يا برير أ تضحك ما هذه ساعة ضحك و لا باطل فقال برير لقد علم قومي أنني ما أحببت الباطل كهلا و لا شابا و أنما أفعل ذلك استبشارا بما نصير إليه
فو الله ما هو إلا أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم بها ساعة ثم نعانق الحور العين. فهؤلاء أنصار أبي عبد الله الذين يستبشرون بموتهم وأن موعدهم بالجنة والذين في زيارة وارث يصفهم بقوله(السلام أولياء وأحبائه السلام عليكم يا أصفياء الله وأودائه)إلى أخر الزيارة وهم فعلاً أنصار دين الله وأنصار رسوله وأهل البيت من أهل بيت علي وهم لا يهابون الموت بل ترى وجوههم فرحة متهللة بهذا الفوز وهم يقاتلون بين سيدهم وأمامهم الأمام الحسين(ع) وهي تمثل عندهم أقصى غايات الفوز بمرضاة الله ورسوله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين فهل يوجد ما ذكر في كل سير الأولين والآخرين مثل هؤلاء الصحابة المنتجبين؟ سؤال نترك الجواب عليه يجيب عليه كل حصيف وعاقل ولبيب يعرف جوابه من خلال ماسردناه وذكرناه في وصف هؤلاء الصحابة الأبطال.
قال الراوي ركب أصحاب عمر بن سعد لعنهم الله فبعث الحسين (عليه السلام) برير بن خضير فوعظهم فلم يستمعوا و ذكرهم فلم ينتفعوا.(10)
وقبل أن يشتبك الجيشان في يوم عاشوراء خرج زهير بن القين - إلى معسكر عمر بن سعد - على فرس ذنوب وهو شاك في السلاح فخطب قائلاً:
"يا أهل الكوفة نذار لكم من عذاب الله, إن حقاً على المسلم, نصيحة أخيه المسلم, ونحن حتى الآن أخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف, وأنتم للنصيحة منا أهل, فإذا وقع السيف انقطعت العصمة, وكنا أمة وأنتم أمة. إن الله ابتلانا وإياكم بذريته نبيه محمد لينظر ما نحن وأنتم عاملون. إنا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية يزيد وعبيد الله بن زياد, فإنكم لا تدركون منهما إلا سوء عمر سلطانهما, يسملان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثلان بكم ويرفعانكم على جذوع النخل, ويقتلان أماثلكم وقراءكم, أمثال حجر بن عدي وأصحابه, وهاني بن عروة وأشباهه.
فسبوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودعوا له وقالوا: لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى عبيد الله بن زياد سلماً.
فقال زهير: عباد الله! إن ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمية, فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم, فخلوا بين هذا الرجل وبين يزيد, فلعمري أنه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين.(11)
فرماه الشمر بسهم, وقال: اسكت أسكت الله نأمتك, أبرمتنا بكثرة كلامك.
فقال زهير: يا بن البوال على عقبيه! ما إياك أخاطب إنما أنت بهيمة والله ما أضنك تحكم من كتاب الله آيتين, فابشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم. فقال الشمر: إن الله قاتلك وصاحبك, عن ساعة. فابشر الخزي يوم القيامة والعذاب الاليم قال : افبالموت تخوفني ؟. فواللّه للموت معه احب الي من الخلد معكم , قال : ثم اقبل على الناس رافعا صوته , فقال : عباد اللّه يـغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه , فو اللّه لا تنال شفاعة محمد (ص ) قوما هرقوا دماء ذريـتـه وأهل بيته , وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم قال : فناداه رجل فقال له : قال : فناداه رجل ، فقال له : إن أبا عبد الله يقول لك :
أقبل : فلعمري ، لئن كان مؤمن ، آل فرعون نصح لقومه ، وأبلغ في الدعاء لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت ، لو نفع النصح والإبلاغ ".(12)
وقد خرج بعدها بعدما دار النقاش بينه وبينهم فوضع يده على منكب الحسين(عليه السلام) وقال مستأذنا:
اقدم هديت هاديا مهديا***فاليوم القى جدك النبيا
وحسنا والمرتضى عليا***واسد الله الشهيد الحيا
فقال الحسين(عليه السلام)وانا القاهما على اثرك.
فجعل يقاتل قتالا لم ير مثله، ولم يسمع بشبهه، واخذ يحمل على القوم ويقول:
انا زهير و انا ابن القين***اذودكم بالسيف عن الحسين
إن حسينا احد السبطين***من عترة البر التقي الزين
ياليت نفسي قسمت قسمين
فقتل مائة وعشرون منهم، ثم عطف عليه كثير بن عبد الله الشعبي، والمهاجر بن اوس فقتلاه.
فوقف عليه الحسين وقال: لا يبعدنك الله يا زهير ولعن الله قاتليك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير.
وقال الامام المهدي(عليه السلام)في زيارة الناحية:
(( السلام على زهير بن القين البجلي، القائل للحسين(عليه السلام)وقد اذن له في الانصراف : لا والله لا يكون ذلك ابدا؛ اترك ابن رسول الله(صلى الله عليه وآله)اسيرا في يد الاعداء وانجو انا !! لا اراني الله ذلك اليوم)).(13)
ويقول المؤرخون: إن بعض أصحاب الإمام خطب بالقوم بعد خطبة الإمام الأولى، وأنّ الإمام (عليه السلام) أخذ مصحفاً ونشره على رأسه ووقف بإزاء القوم فخاطبهم للمرة الثانية بقوله : يا قوم! إنّ بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) ثم استشهدهم عن نفسه المقدسة وما عليه من سيف النبي (صلَّى الله عليه وآله) ودرعه وعمامته فأجابوه بالتصديق فسألهم عمّا أقدمهم على قتله، قالوا: طاعةً للأمير عبيد الله ابن زياد، فقال(عليه السلام): {تباً لكم أيتها الجماعَةُ وترحاً أحين استصرختمونا(14)والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحَشَشْتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم فأصبحتم إلباً(15)لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلاّ ـ لكم الويلاتُ ـ تركتمونا والسيفُ مشيم والجأش طامن والرأي لمّا يستحصفْ! ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدَّبا(16)، وتداعيتم عليها كتهافُتِ الفراش، ثم نقضتموها فسُحْقاً لكم يا عبيدَ الأمة وشُذّاذَ الأحزابِ و نبذة الكتابِ ومحرّفي الكلِمِ وعصبة الإثمِ ونفثةَ الشيطان ومطفئي السُنَنِ، ويْحَكم! أهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون؟ أجل! والله غدرٌ فيكم قديم، وشجت عليه اُصولكم وتأزرت فروعكم، فكنتم أخبثَ ثمر، شجىً للناظر وأكلةً للغاصب. ألا وإن الدعيَّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السِّلة والذلة. وهيهات منا الذلة! يأبى اللهُ لنا ذلك ورسولُه والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطَهُرَتْ واُنوفٌ حميةٌ ونفوسٌ أبيّةٌ من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر. ثم أنشدَ أبياتِ فروة بن مسيك المرادي:
فاِنْ نَهْزِمْ فهزّامون قِدْما = ن نُهْزَمْ فغيْرُ مهزَّمينا
وما إن طبَّنا جُبْنٌ ولكن = منايانا ودولةُ آخرينا
فَقُلْ للشامتين بنا أفيقوا = سَيَلْقى الشامتون كما لقينا
إذا ما الموتُ رَفَّعَ عن اُناس = كلاكله أناخ بآخرينا(17)
أما والله لا تلبثون بعدها إلاكريثما يُركبُ الفرس، حتى تدور بكم دور الرَّحى، و تقلق بكم قلق المحور، عهد عهده إليّ أبي عن جدي رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ)(18)(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(19). ثم رفع يديه نحو السماء وقال: (اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنينَ كسنيّ يوسف وسلِّطْ عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبَّرةً، فإنهم كذّبونا وخذلونا وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك المصير}.(20)
كل ذلك وعمر بن سعد مُصرّ على قتال الحسين(عليه السلام)، والإمام الحسين(عليه السلام) يحاور وينصح ويدفع القوم بالتي هي أحسن. ولما لم يجد النصح مجدياً قال لابن سعد: {أيْ عمر أتزعم أنك تقتلني ويوليك الدعيّ بلاد الري وجرجان؟والله لا تتهنّأ بذلك، عهد معهود، فاصنع ما أنت صانع، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأني برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ويتخذونه غرضاً بينهم} فصرف ابن سعد وجهه عنه مغضباً.(21)
وهنا نتوقف عند خطاب الأمام فنجده فيه من المعاني البلاغية الشيء الكثير وفيه من البلاغة ما يعجز الإحاطة به وكيف ما يكون خطابه هكذا وهو أبن سيد البلغاء وإمام البيان وفد نهل كل ذلك الفصاحة والبلاغة من حجر جده وأبيه فكان خطابه يحوي كل المعاني والعبارات التي لا يأتي بها إلا من علمه جده وأبيه وأمه(صلوات الله عليهم أجمعين) ثم نلاحظ الربط بين الآيات الكريمة في القرآن العظيم وخطابه ثم دعائه على هذا معسكر أبن زياد المجرم ليستجيب دعائه في كل ما دعا به من قبل الله سبحانه وتعالى وإكراماً للشهيد الخالد وسيد الشهداء خامس أصحاب الكساء وليسلط عليهم المختار الثقفي(رض) ليجتث كل تلك الزمر المجرمة ويسومهم وسوء العذاب وليلقى المجرم أبن سعد نفس المصير الأسود الذي دعا به الأمام عليه وليكون بعد ذلك عبرة لمن أعتبر لكل أهل الكوفة والذين خذلوا وكذبوا أبن بنت نبيهم وليلقى كل مجرم شارك في سفك دمه الشريف وأهل بيته وأصحابه المنتجبين مصير أسود واللعنة عليهم وعلى مدى الزمان وليصبحوا رمز للأجرام والغدر وليتم رميهم في أقذر مزبلة للتاريخ ومع فرعون والنمرود وكل مجرم ذكر في التاريخ.
وهنا نرجع إلى لقب الأمام الإباء عن الضيم ، حتى لُقّب ( عليه السلام ) بـ ( أَبيّ الضيم ) .وهي من أعظم ألقابه ( عليه السلام ) ذيوعاً وانتشاراً بين الناس ، فقد كان المَثَل الأعلى لهذه الظاهرة .
فهو الذي رفع شِعار الكرامة الإنسانية ، ورسم طريق الشرَف والعِزّة ، فلم يخنع ، ولم يخضع لقرود بني أمية ، فآثر ( عليه السلام ) الموت تحت ظِلال الأَسِنّة .
فيقول الشاعر عبد العزيز بن نباتة السعدي :
وَالحُسَين الذي رَأى المَوتَ فِي العِـزّ***حَياةٌ وَالعَيش فِي الذّلِّ قَتلاً
فقد علّم أبو الأحرار ( عليه السلام ) الناسَ نُبل الإباء ونبل التضحية، ويقول فيه مصعب ابن الزبير : واختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة .
وقد كانت كلماته ( عليه السلام ) يوم الطف من أروع ما أُثِرَ من الكلام العربي ، في تصوير العِزة ، والمنعة ، والاعتداد بالنفس ولهذا ووقف ( عليه السلام ) يوم الطف كالجبل الصامد ، غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة من جيوش الردّة الأموية. ولهذا عندما ربط بين السلة والذلة وبين وصف الإمام إباء الضيم فقد كان الإمام الحسين عليه السلام كإمام عدلّ وولي من أوليائه بل من خاصة أوليائه كان مخير بين أمرين إن يستل السيف ويحارب أو إن يرضى بالظلم ويسكت وهذا الرضى والسكوت يؤدي إلى التعاكس عن الجهاد ومحاربة أهل الفسوق وقد أوضح الإمام علي عليه السلام الأمور المستوجبة على تارك الجهاد من هبوط منزلته وذله وهوانه على الله فالإمام الحسين أبى إن يعطل فرض الجهاد للسببين أولاهما
مايترتب على تارك الجهاد من الذل والهوان كما المح إليه الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة. السبب الأخر وهو ما يفترضه عليه منصبه كونه إمام هدى يقع عليه ويترتب عليه صلاح الأمة فترك الجهاد ضد طاغية عصره يزيد كان موجبا للترك الصلاة والفسق والفجور وشرب الخمور والفواحش إذا إن الإمام عليه السلام قال موضحا سبب خروجه ورغم ان علمه ان سيقتل اذا قال((من لحق بي استشهد ))
كان مصراً على موقف واحد وهو عدم الرضوخ للظلم وعدم مبايعة يزيد فقد قال لأخيه محمد بن الحنفية : ( يا أخي لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية )معلنا لجميع ان يزيد لايصلح لولاية امور المسلمين. ومن هنا إن الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء فرق بين الذلّة المادية والذلّة المبدئية، فكيف وما معنى ذلك ؟! ولهذا فان رفض الإمام الحسين الذلة المادية حيث نلاحظ وتأكيداً لما نقول في رواية عن الأمام علي بن الحسين عن وضعية أهل البيت والتي رفضها الأمام الحسين حيث تذكر الرواية :
قال ابن اعثم: خرج علي بن الحسين (عليه السلام) ذات يوم، فجعل يمشي في أسواق دمشق، فاستقبله المنهال بن عمروالصحابي فقال له: كيف أمسيت يا ابن رسول الله؟
قال: أمسينا كبني اسرائيل في آل فرعون، يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، يا منهال أمست العرب تفتخر على العجم بانّ محمّداً منهم، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأنّ محمّداً منها، وأمسينا أهل بيت محمّد ونحن مغصوبون مظلومون مقهورون مقتّلون مثبورون مطرّدون، فانّا لله وإنّا إليه راجعون على ما أمسينا فيه يا منهال.(22)ومن هنا رفض الأمام إن يصبح في هذا الموقف وأبى هذا الضيم أن يلحق به.
وفي جزئنا القادم سوف نتم ونكمل ما جرى في يوم عاشوراء الخالد من مصارع أصحابه المنتجبين وأهل البيت الكرام ومصرع الأمام إن شاء الله إن كان لنا في العمر بقية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر :
1 ـ الإرشاد: 2 / 98، إعلام الورى: 1/459.
2 ـ [هود : 91] .
3 ـ نهضة الحسين (عليه السلام(تأليف :السيّد هبة الدين الحسيني الشهرستاني. ص 139.
4 ـ الإرشاد ، المفيد : 2/97 ـ 99. المجالس العاشورية في المآتم الحسينية ::: 361 ـ 375.
5 ـ الإرشاد : 2 / 99 ، الفتوح : 5 / 113، بحار الأنوار : 5 / 15.
6 ـ المجالس العاشورية في المآتم الحسينية ::: 366.
7 ـ مقتل الحسين ، للمقرم: 277 .
8 ـ مقتل الحسين ، للمقرم: 277 ، تاريخ الطبري : 3 / 318.
9 ـ وقال ذلك في جواب عن سؤال وُجه اليه بهذا الخصوص في برنامج "مع سماحة المفتي" بُث من فضائية "المجد" رابط اليوتيوب هو
http://www.youtube.com/watch?v=v0Yoeg7k1s4
10 ـ كتاب اللهوف على قتلى الطفوف للسيد بن طاووس ص155 تحقيق الشيخ فارس تبريزيان«الحسون». المكتبة العقائدية. نسخة مركز الأبحاث العقائدية.
11 ـ مقتل الحسين لأبي مخنف: 119.
12 ـ كتاب كلمة الإمام المهدي عليه السلام تأليف: السيد حسن الشيرازي (قدس سره).زيارة الشهداء الهامش الخاص بزهير بن القين البجلي. تاريخ الطبري ج4ص323 .البداية والنهاية ج8ص179 . الكامل في التاريخ ج2ص171.
13 ـ المصدر / معالم الانسانية في نهضة الامام الحسين(عليه السلام) / الشيخ جعفر الحائري.
14 ـ استصرختمونا: طلبتم نجدتنا.
15 ـ إلباً: مجتمعين متضامنين ضدنا.
16 ـ الدَّبا : الجراد الصغير.
17 ـ تاريخ ابن عساكر: 69/265، اللهوف في قتلى الطفوف، ابن طاووس: 59 و 124.
18 ـ يونس (10): 71 و هود (11) : 56 .
19 ـ [ يونس : 71 و هود : 56]
20 ـ مقتل الحسين، للمقرم: ص289 ـ 286، مقتل الحسين للخوارزمي : 2 / 6، تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين(عليه السلام) : 216، راجع إعلام الورى : 1 / 458.
21 ـ مقتل الحسين للمقرم: 289.
22 ـ الإرشاد: 2 / 101 ، اللهوف : 100، إعلام الورى : 1 / 461.
https://telegram.me/buratha