مرّتْ على واقعة كربلاء قرون طويلة من السنين , وقد حدث خلالها ما حدث , وتعاقبت فيها على الحكم , دولٌ وحكومات , وحكم فيها خلفاء , وتملّك ملوك , وترأس رؤساء , ومع كل هذا وذاك , فأن هذه الثورة العظيمة , تجذّرتْ في نفوس محبّيها وعشّاقها , وأمستْ وبحق , ملكاً وإرثاً إنسانياً عظيماً , يتفاخر به الملأ من دعاة الحرية والعدل وتتغنى بها القلوب الولهى والمحبة للسلام والتائقة لمبادىء الحرية , لا بل انها اصبحت ملكا للإنسانية جمعاء , بغض النظر عن ميولها واتجاهاتها الدينية والفكرية والسياسية . أنها ثورة عظيمة في كل شيء ... برجالها وأبطالها وبتضحياتها وبأهدافها . لقد ضمّتْ هذه الثورة في صفحاتها من الخصائص : الإيثار والتضحية وروح الإقتحام والإباء والشجاعة النادرة , وقلّ أن تجد لمثلها ثورة في تاريخ البشرية , من حيث المبادىء والإنتصار للحرية والعدل ورفض الظلم والإخلاص لله تعالى , وهذا هو الذي جعل من هذا الإمام المظلوم والمنتصر في آن واحد , مع إخوته وأهل بيته وصحبه , يُخلّدونَ في أعظم صفحات التأريخ والى الأبد . أن شخصا كالحسين عليه السلام والذي بكته الأرض قبل ملائكة السماء , وأكبر من ذلك , بكاه وقبل إستشهاده , جدّه سيّد الكائنات على الإطلاق , حريٌ بمنزلته أنْ تكون في سويداء قلوب الأجيال المتعاقبة والى ما شاء الله . وبعد هذه المقدمة البسيطة , يمكننا الوقوف ولو بعجالة , على أهم العوامل الرئيسية التي ساهمت بشكل أو بآخر , في تفجير هذه الواقعة الأليمة والثورة الفريدة .
ان أبرزالعوامل التي اسهمت بشكل فاعل وأثّرت في قيام نهضة الحسين (ع) , بوجه طغمة الدكتاتورية الأموية الفاسدة يمكن إجمالها بثلاثة عوامل مهمة : ــ
1ــ العامل الأول هو قضية البيعة ليزيد والمحاولات المتكررة والملحة من سلطة يزيد الغاشمة لإجبار الإمام الحسين (ع) على الرضوخ لمطلبهم .
2ــ إعلان أهل الكوفة نصرتهم للإمام من خلال آلآف الرسائل التي بعثوا بها اليه .
3 ــ عامل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , الذي رأى الأمام في ضوءه , أن تكليفه الشرعي يوجب عليه العمل بمحتواه لمواجهة الأوضاع الفاسدة .
وأمّا العامل الأول ( البيعة ليزيد ) فلم يكن هذا الأمر بالجديد على الأمام , ولا كان غائبا عن تفكيره , فلطالما كان هذا الأمر يؤرق معاوية أيام خلافته , وقد سعى جاهدا من أجل التمهيد لإنتقال سلطة الخلافة من بعده لإبنه يزيد , والتاريخ يذكر لنا , أن معاوية قد ذهب بنفسه أيام خلافته الى المدينة لكي يمهد لهذا الأمر , بعد أن نقض شروط الصلح مع الأمام الحسن (ع) فقام بتدبير موته بالسم , والتقى ببعض وجهائها , وكان أبرز الذين إلتقاهم , عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر والحسين بن علي , وحاول من خلال ما عُرف به من دهاء ,إيصال فكرة إستخلاف أبنه يزيد من بعده , ولكن الوقائع التاريخية تقول انه أخفق في ذلك , وبعد وفاته سارع ابنه يزيد , بإرسال مبعوث عنه الى المدينة , محمّلاً إيّاه رسالتين في وقت واحد , كانت الأولى تحمل نبأ وفاة معاوية الى أهل المدينة , بينما كانت الثانية يطلب يزيد فيها من عامل المدينة , بأن يستدعي الحسين ويأخذ البيعة منه عنوة وقسرا , وإنْ رفض ذلك فلا خيار لك في قتله, " خذ الحسين بالبيعة أخذا شديدا ".
لكن الإمام لم يستجب لهم ورفض ان يبايع ليزيد , وكان هذا الرفض من جانب الحسين (ع) يعني الشيء الكثير بالنسبة لمستقبل خلافة يزيد , وبعد ان تدارس الإمام وضعه , قرر الإنتقال من المدينة الى مكة , وكان في قرارة نفسه , يعرف أن يزيدا سوف لا يتركه دون ان يخطط لإغتياله , وفعلا كان حدس الإمام صحيحا وفي مكانه , إذْ أنّ يزيد أرسل ثلاثين رجلا ليقوموا باغتيال الإمام , أمّا رأي الإمام في هذه البيعة ورفضه لها فقد شاع خبره بين الناس : " مثلي لا يبايع مثله أبدا " . وفي كلام آخر للإمام (ع) بيّن فيه للناس حقيقة يزيد وما هو عليه من فساد : " وعلى الإسلام السلام, إذ ْ بُليتْ الأمة براعٍ مثل يزيد " ,
أمّا العامل الثاني، فهو دعوة أهل الكوفة للإمام ومؤازرتهم له والطلب اليه التوجه الى العراق، وهم قد سمعوا حتما أخبار رفض الإمام البيعة ليزيد وعدم رضوخه لسلطته الجائرة، ومن المعروف ان الكوفيين كانوا قد ذاقوا مرارة سياسة معاوية تجاههم فضلا عن قيامه بقتل بعض الرموز البارزة من الكوفيين، إذن والحال هذه، فأن التكليف الشرعي يدعو الإمام الحسين (ع) لأن يستجيب لدعوة الكوفيين له، طالما أبْدوا له تأييدهم وإستعدادهم للوقوف الى جانبه، إضافة الى أن هذه الدعوة هي بمثابة حجة على الإمام القاها الكوفيون في عنقه، وعليه، ينبغي الإستجابة لهذه الدعوة لأنها تلتقي ضمنيا مع مبدأ الأمر بالمعروف الذي هو العامل الثالث من عوامل الثورة،
والحقيقة ان فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تعتبر الأكثر حضورا في ذهن وتخطيط الإمام (ع) خاصة وهو يرصد عن وعي، ما آلت اليه الأمور من الفساد والجور وانتهاك حدود الله في ظل حاكم فاسد مثل يزيد، والدليل على ان الحسين (ع) كان جُلّ تفكيره منصبا للعمل بموجب مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو ما نراه في خطاباته وحواراته في تلك الفترة، والتي عبّرت بشكل أو بآخر عن رفض الإمام المطلق لسلطة يزيد اللاشرعية، وان هذه الخطابات والمراسلات، كانت تشير بوضوح الى انه كان يتحرك وفقا لمعيار الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى انه عليه السلام قد ذكر ذلك صراحة، معتبرا هذا المبدأ شعاره الرئيسي الذي ينبغي السعي الى تحويل محتواه الى واقع عملي ملموس، ونجد ذلك في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية
إذْ يقول: " إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وانما خرجت لطلب الإصلاح في امة جدي أريد أن أأمر بالمعروف وأنهي عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي ". وعلى العموم يمكننا في الختام أن نلمس بعض الترابط الذي يجمع ما بين هذه العوامل الثلاثة رغم خصوصية كل منهما.. فنستطيع القول: انه وبناء على موقف الإمام الرافض وبشدة لبيعة يزيد، وتحركه من المدينة الى مكة، فهذا التحرك، يعني من ضمن ما يعنيه، أن موقف الإمام وفي هذا الظرف بالذات كان موقفا دفاعيا عن النفس، ولكنه بوجهه الآخر ينطلق من موقف مبدأي للامام فحواه، ان هذا الرفض للبيعة هو امتناع عن فعل منكر لأن البيعة لفاسد من أنكر المنكرات،
بينما العامل الثاني واقصد به إستجابة الإمام لدعوة اهل الكوفة له والتوجه الى العراق، إذْ ناصروه من خلال آلآف الرسائل الموجهة اليه منهم، فأنه يعني التكليف الشرعي للإمام، يجيز له قبول هذه الدعوة لأن هذه الدعوة تعني في أحد وجوهها، أنها حجة ملقاة على الإمام وانه ليدرك ذلك تماما، بينما وجهها الآخر في حالة إستجابته لدعوة الكوفيين، فأن الإمام سيكون قد انتقل من محدودية ظرف العامل الأول والتي كانت كما قلنا، مرحلة دفاع عن النفس الى مرحلة اخرى تكون في مرتبتها الأولى التهيؤ والإستعداد، بينما مراحلها اللاحقة سيكون من شأنها توفير بعض عناصر القوة التي يستطيع الإمام من خلالها الإنتقال من مرحلة الدفاع المحض عن النفس الى مرحلة الهجوم إنْ تطلبت المرحلة ذلك....
أما العامل الثالث، واعني به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأن هذا العامل هو الحاكم على العاملين السابقين، لا بل هو الميزان الذي يزن به الأمام كل المستجدات والتطورات وعلى كل الاصعدة، بحيث ان الإمام (ع) جعله الشعار المركزي لنهضته منذ تحركه من المدينة المنورة مرورا بمكة والى لحظة إستشهاده، هو وأهل بيته وصحبه سلام الله عليهم اجمعين.
https://telegram.me/buratha