حسن الهاشمي
نشوء الأمم والحضارات هل هو نابع من وحدة الأصل في الأفراد، أو الماضي البطولي للشعوب، أو الجانب الاقتصادي، أو الجانب الديني والعقدي، هذه أربع نظريات تتبناها الشعوب وتعتبرها هي الأصل في تكوين الأمة المتحضرة وتميزها عن باقي المجتمعات المتخلفة، ونحن وفي هذه المقالة نحاول أن نسلط الضوء عليها ونرى أي من هذه النظريات مطابق للواقع وأي منها مجاف له؟! وإن حركة الشعوب في التغيير تجنح إلى أي من تلك العوامل؟ والبحث يدور هاهنا عن المحور الأساس في نشوء الأمم التي قد تكون جميعها أو بعضها متبناة في تلك المذاهب. الشعب هو مجموع الجماعات المقيمة على أرض معينة ترتبط فيما بينها بفعل عوامل تعود للماضي، وتتصل بالحاضر والمستقبل، تصهر الشعب في بوتقة واحدة لتخلق منه كيانا متميزا عن باقي المجتمعات البدائية، ومن هذه العوامل العادات والأخلاق والدين واللغة والثقافة والجنس ووحدة الأهداف والشعور والتاريخ المشترك وغير ذلك، فإن هذه العوامل وغيرها هي التي توثق الصلات بين أفراد المجتمع، وتشد بينهم الروابط، وتقوي من وحدتهم، وتزيد من تضامنهم وتآلفهم هذا المجموع يؤدي إلى نشأة الأمة ويقومها.فالأمة هذه تتطور إلى أن تصل مرحلة النضج بفعل تضامن جهود الجماعات البشرية وتضافرها من أجل حماية سيادتها واستقلالها وحماية مصالحها، فتتميز بذلك الأمة المتطورة عن باقي المجتمعات البدائية، وتوحد الجماعات المقيمة على إقليم معين وتنظمها قانونيا بخضوعها لسلطة دائمة تتجسد بالدولة، فالدولة إذن قوامها الأمة، والذي يشكل الأمة مجموعة عناصر، وقد اختلفت المذاهب والنظريات في تحديد هذه العناصر، وقد تمحورت حول أربع نظريات:الأولى: النظرية الموضوعية، وتتمثل بالفكرة الألمانية المرتكزة على عدة عوامل أهمها وحدة الأصل، أي السلالة واللغة والدين والتقاليد.الثانية: النظرية الشخصية، وترسخت أكثر في الفكر الفرنسي، وقوامها أن الأمة تجد أسسها في الحس التضامني الذي يوحد إرادة الأفراد على العيش معا، فالأمة بحسب هذه النظرية تستند على الماضي البطولي والتجارب المشتركة، وعلى التضامن الكبير والتضحيات التي بذلت والتي ستبذل في المستقبل، هذه الذكريات والتعاطف المتبادل بين أعضاء الأمة ووحدة المشاعر تقوي الشعور القومي بين الأفراد، وتحثهم على الإتحاد فيما بينهم تحت حكم واحد ودولة قوية.الثالثة: النظرية المادية أو العضوية، وتستند على النواحي الاجتماعية والاقتصادية حسب النظرية الماركسية، التي تقول بأن الرابطة الاقتصادية هي أساس الرابطة الاجتماعية، والقوة الموجهة، بل المحركة لرابطة الاجتماع السياسي، وعليه فإن وحدة المصالح الاقتصادية هي التي تقرر العلاقات جميعها بين الأفراد، وتصهرهم في نظام اجتماعي موحد، فالتفاعل الحاصل بين الإنسان ومحيطه بدافع الحاجة المادية وتأمين حياة أفضل هو الحافز لوحدة الجماعات البشرية، وعليه تجعل العقيدة الشيوعية من وحدة المصالح الاقتصادية العنصر الأول في تكوين الأمة. الرابعة: النظرية الإسلامية فإنها تقدم مبدأ الدين على أواصر القرابة والجنس والقومية واللغة وغيرها، حيث أنها جعلت من الدين أساسا للتضامن والتلاحم والتوحد، فالدين هو العنصر الحقيقي في تكوين الأمة، ومن بعده تأتي باقي العناصر المشتركة الأخرى، باعتبار أن أهم عنصر يحرك الإنسان ويدفعه هو الفكر والعقيدة، فإذا كانت العقيدة واحدة كان السبب الأقوى في منشأ الأمة وفي توحيدها وتماسكها ووسطيتها ورساليتها.ومما لا ريب فيه أن العوامل الاقتصادية تؤثر على حياة الأفراد وعلى مجرى الأحداث التاريخية، إلا أنه من الخطأ اعتبارها العامل الأساسي الوحيد في تكوين الأمة، إذ المصالح الاقتصادية بدلا من أن تكون عامل توحيد بين الجماعات البشرية قد تصبح عامل تفرقة عندما تتشعب مصالح الجماعات وتتباين كما هو الملحوظ في الصراع الدائم بين القوى المختلفة قديما وحديثا بين الدول والشعوب والقبائل وما أشبه ذلك.فالروابط الاجتماعية لا تقتصر فقط على المصالح الاقتصادية، بل تتعداها إلى العوامل الفكرية والثقافية والعاطفية والتاريخية التي تشد أواصر التعاون بين الأفراد وتزيد التلاحم القومي، والظاهر أن مجموع النظريات المذكورة كل منها قد نظر إلى جهة من جهة الحاجة البشرية والضرورة الاجتماعية، ولذلك لم تخرج هذه النظريات متكاملة في تكوين الأمة للأساس الذي تقوم عليه الدولة.فإن اللغة التي اعتمدت عليها النظرية الموضوعية أو الجنس أو الثقافة وما أشبه ذلك، وإن كان لها بعض المدخلية في تكوين الأمة أو تنشئة الضمير القومي وتطوره في الأمم إلا أنها ليس العامل الوحيد، بداهة وجود أمم عديدة لازالت قائمة على الأرض تتعدد لغاتها وأقوامها وتواريخها، كما هو الحال بالنسبة لبلجيكا وكندا والولايات المتحدة، مثلا في سويسرا توجد أربع لغات هي: الألمانية والفرنسية والايطالية والرومانشية، وفي بلجيكا توجد لغتان: الفرنسية والفلامندية، وعليه فإن هذه العوامل وحدها ليست سببا حقيقيا وكاملا لتنشئة الأمة، وإن العوامل المادية لم تكن من الأسس الأصيلة في تكوين الأمم، نعم هي تعتبر من العوامل المساعدة والمسهلة لقيامها، وهذا يجري في النظرية الموضوعية والنظرية الشخصية أيضا.الوازع الديني والعقدي الذي تعتمد عليه النظرية الإسلامية هو الذي يقوم بترشيد العوامل الجنسية والتاريخية والاقتصادية خدمة للنوع البشري وإيغالا في الترابط والتلاحم الوطني، بيد أن مشكلة الأمم الإسلامية اليوم في بلوغ أهدافها في التحرر والتقدم والازدهار وجود بعض الأفكار الشوفينية المتعصبة مذهبيا وقوميا بين أوساطها، وهو ما يعادي بالضرورة مبدأ الإسلام الذي يقوم على أساس التسامح والصفح والدعوة بالتي هي أحسن ومبدأ إن أكرمكم عند الله أتقاكم، علاوة على ما يعتور الكثير من تلك الشعوب من آفات الجهل والانطواء على الذات، وهي أمور غريبة عن مبدأ التوحيد الذي يؤلف الأمم على التقوى والتعلم والأخوة والمحبة، وهي متوفرة بالدين كمبدأ وبعيدة عن الكثير من المسلمين كمنهج.
https://telegram.me/buratha