بقلم: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
ما بعد البداية:مثل سقوط جدار برلين (1961-1989) احد اهم مؤشرات نهاية مشروع ما بعد الحرب العالمية الثانية (1938-1945) التي شكلت الحرب الباردة بين المعسكرين (الاشتراكي والرأسمالي)، من جانب آخر مثل هذا السقوط بداية لانهيار المنظومة الاشتراكية التي سجلت انحدارا سريعا ادى الى تفكيك الاتحاد السوفياتي (1922-1991) وسقوط الفكر الماركسي مما اعتبر نهاية عصر الاشتراكية، لكن في الوقت الذي سارعت فيه الولايات المتحدة الامريكية لاعلان هيمنتها القطبية على السياسية العالمية فشل الاتحاد الاوربي في اغتنام الفرصة واضطر للخضوع للموقف الامريكي رابطا مصير الاتحاد بالقرار الامريكي في السياسات الخارجية الى حد كبير، وقد قادت الحكومة البريطانية هذا الاتجاه من منطلقات عرقية (انكلوسكسونية) ومواقف ايديولجية ودينية، وحاولت اقناع الاطراف الاوربية الاخرى بالسياسات الامريكية التي شكل منعطف (11/9/2001) اهم مراحلها. بعد ان تبنى الموقف الامريكي كاملا فشل الاتحاد الاوربي في ان يصبح قوة فاعلة موازنة للسياسات الامريكية مما اتاح الفرصة كاملة لتعود روسيا الى الساحة الدولية عبر (الاتحاد الروسي) وليدخل التنين الصيني المنظومة الدولية كقوة اقتصادية موازنة، ولتظهر ايران بعد ذلك كقوة اقليمية مؤثرة، مما اعتبرته التقارير الدولية مؤشرا لبوادر ضعف الاقتصاد الرأسمالي الغربي الذي تأكد بالازمة المالية العالمية وانهيار المصارف الامريكية والاوربية (اندلعت بداية سنة 2007 وتفاعلت في سنة 2008 وقد تجاوزت الخسائر اكثر من 700 مليار دولار امريكي) ولن تكون آخر تفاعلاتها ازمة دبي المالية ومديونيتها (59 مليار دولار امريكي حتى الان).فشل المنظومة الرأسمالية:شكلت قضية نهاية التاريخ احد اهم الاتجاهات في دراسات فلسفة التاريخ بشكل سبق بقرون بل الاف السنين طروحات (فرانشيسكو فوكوياما) التي تمثلت في كتابه (نهاية التاريخ والرجل الاخير) فعلى الرغم من اننا اشبعنا هذه النظرية بحثا وفندنا آرائها في العديد من بحوثنا ودراساتنا منذ اوائل التسعينات من القرن الماضي وحتى الان، الا ان التطرق اليها في هذه المرحلة يختص بقرب نهاية عصر الراسمالية بعد ان سقطت المنظومة الاشتراكية، مما يؤكد الحاجة لظهور منظومة سياسية واقتصادية واجتماعية تحكم العالم وتقود الاتجاه العقلاني.فبينما سجلت بداية العشرة سنوات الاخيرة من القرن الماضي (القرن العشرين) انهيار الفكر الاشتراكي وفشل الشيوعية في قيادة ما عرف بالكتلة الشرقية، شهدت نهاية العشرة الاولى من القرن الواحد والعشرين بداية نهاية المنظومة الرأسمالية متمثلة بانهيار اسواق المال في الولايات المتحدة منذ (2007) وتطورها في (2008) واستمرار تأثيراتها حاليا ثم ازمة دبي المالية وتلك المديونية الكبيرة تركت آثارها على قطاع المصارف البريطانية الذي كان الاكثر تاثرا يليه القطاع الامريكي، وقد ذكر تقارير مؤسسةCMA) ) المتخصصة بمراقبة اسواق الائتمان ان امكانية ان تعجز حكومة دبي عن سداد يونها وفي مقدمتها ( شركة دبي العالمية) التي تقدر مديونيتها بحدود 60 مليار دولار امريكي) ، وتشير التقارير الاوربية الحديثة: ( بان النتائج المباشرة قد تكون محدودة قياسا للانهيار العالمي لكن تاثيراتها ستصيب النظام الاقتصادي بالشلل) وحتى لو اضطرت دبي لبيع عقاراتها الغالية باسعار رخيصة ضمانا لتوفير السيولة المالية فان ذلك سيؤدي الى تباطؤ تعافي الاقتصاد العالمي ككل. وقد اثر كل ذلك على الصناعات المصرفية حيث اضطرت عدد من المصارف للمطالبة بديونها التي عجزت دبي عن سدادها حتى ان احد اكبر البنوك الاسكتلندية (رويال بنك أوف سكوتلاند) قد وضع يده على الموجودات والعقارات التابعة لدبي في بريطانيا سدادا لقروضه التي سبق وان قدمها لدبي، وكذلك بنك ((HSBC الذي كان قد ساهم في شركة النخيل.هزيمة الثروات السريعة:كانت دبي قد مثلت مشروعا للاقتصاد العالمي الحديث وفشلها يعتبر فشل المشروع الراسمالي في الاستثمارات الدولية مما سيعني ضرورة البحث عن منهج اقتصادي معاصر لا يتبنى النظرية الرأسمالية خاصة وان الولاياتع المتحدة سبق وان فشلت في تكوين مشروعا مستقبليا للاقتصاد فانهار الحلم الامريكي وانهارت به كل الاقتصادات الاخرى التابعة له.فعندما فشلت النظرية الاشتراكية في التأسيس لمنظومة اقتصادية عالمية، اعتقد الكثير من فلاسفة الاقتصاد والتاريخ ان حركة التاريخ قد اتخذت مسارا لصالح المنظومة الراسمالية متجاهلين بذلك اهم عوامل نشوء وانهيار الحضارات:اولا: السنن الالهية القائلة بوجود نهاية لكل حدث.ثانيا: العلاقة بين الانسان والله.ففي الاولى فان الفناء ونهاية الاحداث يخضع لحتمية وجودية وتاريخية تمنع من الاستمرار إذ لابقاء إلا لوجهه الكريم، وما ذاك إلا لأن الوجود وجميع تأثيراته (محدث) اي مخلوق والمخلوق هو غير الخالق اي انه لايمتلك صفات الخالق الازلية.وفي الثانية فان الغاء علاقة الانسان بالله ومحاولة فك الارتباط بين الله والتاريخ سيؤدي الى حدوث تناقض معرفي يقود الى ان يتحول النسبي اي (الانسان) الى مطلق (الله) وهذا ينتج عنه تأليه الانسان للانسان، وهذا ما سعت اليه كل من الفلسفتين الوضعيتين (المادية والاشتراكية) فادت حركة التاريخ الى نهاية الفكر الاشتراكي لانه الاقل تعقيدا من ناحية المنظومة التسلسلية في تتابع الوقائع، وهذا يكشف امكانية انهيار المنظومة الرأسمالية الاكثر تعقيدا في ضوء توفر الظروف التاريخية للانهيار.من جانب آخر فان محاولة تزييف الحقائق ووضع معايير مادية لقيم الانسان وتأليه المادي على حساب الروحي يؤدي الى تكوين مفهوم الفساد الذي حاربه القرآن:" وإذا اردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ". الاسراء/16.لاشك ان الذي حدث في الولايات المتحدة وفي اوربا وما يحدث الان في الخليج من انهيار وتداعي لقوة المال، هو بسبب الافساد المستمر الذي اصبح منهجا للحياة على حساب القيم الالهية، فالعلية (السببية) هنا واضحة، فما يسمى بالرفاهية وقوة المال ما هي إلا مفاهيم وضعية لم تقل بها الرسالات السماوية بل حاربتها على الدوام (حاربت الفساد والافساد) وهذه الثروات ستصير عبئا ما لم تكن تتبع غايات الهية:" قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الايات لقوم يعلمون ". الاعراف/32.فالله عزوجل لا يحرم الزينة ولا الطيبات من الرزق ولكنه يريد ان يوظفها الانسان في الاتجاه الالهي، والاشارة الى الطيبات من الرزق تعني ان يكون ذلك حلالا، والحلال هو ليس فقط المصدر اي ان يكون مصدر المال حلالا، ولكن الاتجاهات التي يصرف ويوظف فيها المال، وما ينتج عن ذلك، فقد يكون المال حلالا ولكنه يوظف سلبا وبطرق غير مشروعة. الاسلام نهاية التاريخ:إذا آمنا بان الاسلام نهاية التاريخ (أي ان الاسلام فكرا وعقيدة وتطبيقا وفلسفة الهية) هي نهاية كل ما سيبقى بعد فناء الفكر والفلسفات الوضعية، فهذا يعني ان كل النظم الحياتية والاقتصادية والاجتماعية التي ستسود العالم هي النظم الاسلامية، وبالتالي فلا بقاء للفكر او القانون الوضعي، باعتبار ان فطرة الانسان هي موحدة (ألهية) وليست مادية، فالفلسفات التي ادعت ان مذاهبها قاطعة وجازمة قد زال معظمها، وما بقي منها ففي طريقه للزوال، لانها حملت جرثومة فنائها منذ ولادتها، لانها اعتمدت التجربة والظن في حين ان الفكر والعقيدة الاسلامية مبنية على اليقين وهي ترفض مبدأ الشك أو الظن:" ومالهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لايغني من الحق شيئا ".النجم/28.فالمعيار الالهي هو الفكر اليقيني الذي لايقبل الشك والظن، ومن جانب آخر فان انتشار النظريات المادية في القرن الثامن عشر وتوسعها في القرن التاسع عشر هو ليس نتاجا لتطور النظريات العلمية وتوسع الفكر التجريبي كما يدعي فلاسفة الماديين حيث ان الفكر المادي كان قد سبق هذه المرحلة بقرون عديدة، وساد بين الطبقات والجماعات المثقفة والجاهلة على السواء، فما يسمى بقوة المال والثروة كات قد شكلت احد اشكال الصراع الحضاري قبل الاسلام، بل كانت احد اشكال ومعايير الصراع القبلي في مختلف العصور، لكن اتباع النظرية المادية يرفضون اية علاقة بين الانسان والخالق ويفسرون آرائهم منطلقا من هذا الاتجاه فهنا يقول (برتراند راسل) الذي يصف نفسه بانه مادي الى حد بعيد:" إن البشرية وليدة عوامل لم توجد وفق تدبير مسبق، او غاية مقصودة، فاصل الانسان هو النمو والتطور وحتى عواطفه مثل الامل والخوف والحب والعقيدة فانها ليست إلا مظهرا من مظاهر التلاقي العشوائي للذرات المختلفلة ". الله يتجلى في عصر العلم، ط/3/99.لا شك ان هذه المقولة تتفق مع مقولات نظرية (الصدفة) التي تم تفنيدها تماما لكن البعض لايزال يتشبث بارائها متجاوزا حقيقة العلم. ونحن عندما نناقش هذه الفكرة في بحثنا هذا فلانها تكشف الاتجاهات المادية في التنظير، وتأثير هذا الاتجاه في حركة الشعوب. فتقييم المال باعتباره المحرك الوحيد للافراد للشعوب، وسلخ هؤلاء عن اليقين الالهي سيوقع الجميع في فخ البحث عن المزيد من الثروات دون اعتبار لمصادرها وكيفية انفاقها.كما ان محاولة ربط الفكر المادي بالتقدم او باعتباره فكرا متطورا (ثوريا) وتعريف الفكر الديني بالخمول والانكفاء يعني تفضيل وتقديم المادي على الديني واعطاء المادي شكلا ايجابيا في حين نجد ان الماديين يحاولون الباس الالهي ثوبا سلبيا. لقد فشلت هذه النظرة المغلوطة على الدوام فانهيار الفكر المادي قد صار جليا سواء بالاتجاه الاشتراكي او الرأسمالي، وسقطت بذلك فلسفته الاقتصادية والسياسية على السواء إن كان (بمشاعة المال)، أو باحتكار (رأس المال)، وفي الاونة الاخيرة وبسبب مظاهر الثراء والهيمنة عند اتباع النظرية الاشتراكية صار التفريق بينها وبين الراسمالية صعبا بعد ان صار الفلاحون قياصرة في العصر الحديث.في حين نجد ان الفكر الديني الالهي يترفع عن سلبيات المادي باعتبار ان مصادر الفكر الديني ترتبط بالتعالي (الله) او (الغيب)، وهو يمثل الكمال المطلق قبال المادي الذي هو آني وغير متكامل.من جانب آخر يصور الله عزوجل علاقة بالمؤمنين بالاسلام (عقيدة وشريعة) كتجارة يكون الربح فيها غير ذلك الذي عرفه التجار فيقول الحق سبحانه: " يا ايها الذين آمنوا هل ادلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله باموالكم وانفسكم ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم * ". الصف/10-12.لاشك ان فلسفة هذا المشروع التجاري بين المتعاقدين (الله والانسان) تقوم على اخضاع المادي للجانب الروحي، فالمجاهدة بالاموال والانفس هي دعوة للخروج من المادي الى الالهي، غير انه من المؤسف ان تحاول البشرية التخلي عن هذا المشروع بتبنيها فكرة عيش الاخرة في الحاضر تحت حجة صناعة جنة الارض.
الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
https://telegram.me/buratha