عامر هادي العيساوي
منذ أوائل القرن الماضي والأحداث الكبرى في العراق تصنعها وتسوقها قوى خارجية أو داخلية مرتبطة وبعيدة كل البعد عن مصالح العراقيين.وإذا علمنا إن التاريخ يكتبه عادة المنتصرون, وإذا علمنا أن الشعب العراقي لم ينتصر في يوم ما فان الذي كتب التاريخ في هذه الحالة هم أناس يمثلون قوى منتصرة وغريبة عن العراق وأهله. إن تاريخ العراق الحديث مقلوب على رأسه وهو بحاجة إلى من يعمل من اجل إيقافه على قدميه.
لقد تراجع عدد نفوس العراق في أواخر العهد العثماني إلى ما يزيد قليلا على المليون إنسان بسبب الجوع والمرض والحرمان والاضطهاد, وقد كان أكثر من 90% من العراقيين يعيشون في الأرياف ويوفرون من خلال الزراعة حياة الكفاف ولا يقصدون المدن إلا في حالات نادرة للحصول على الشاي والسكر والتبوغ . إن العراق كما نعلم تحيطه من كل الجهات هضبة واسعة لذلك كانت المدن العراقية في العهد العثماني عرضة لنزوح الكثير من الوافدين مع المحتلين من هذه الهضاب والاستقرار فيها , وهذا ما يفسر التناحر الشديد بين ثقافة الريف والمدينة والذي ما زالت ذيوله قائمة حتى ألان,لقد كان أبناء العشائر ينظرون إلى سكان المدن على أنهم وضيعون ولا يترددون عن مزاولة الإعمال التي يرونها حقيرة وهذا يشمل جميع النشاطات الحرفية كالحياكة والنجارة وغيرها بينما كان أبناء المدن يعتبرون الريفيين إعرابا ومتخلفين و(معدانا) في تلك الفترة كانت أوربا تعتبر الإمبراطورية العثمانية (رجلا مريضا) وهي على أبواب الحرب العالمية الأولى, ومن حسن الحظ إن الرجل المريض وقف إلى جانب ألمانيا الطرف الخاسر لاحقا في تلك الحرب0
في أواخر عام 1914 بدأت الآلة العسكرية البريطانية بالتحرك صوب العراق حيث تم احتلال الفاو دون مقاومة تذكر,وفي22 تشرين الثاني من العام نفسه دخل الانكليز البصرة ثم واصلت القوات البريطانية تقدمها باتجاه بغداد ولكنها لاقت مقاومة عنيفة اضطرتها إلى التراجع إلى الكوت حيث تم حصارها هناك حتى استسلمت واسر قائدها الجنرال طاوربند واخذ إلى بغداد0وحين استمرت المقاومة فكر الانكليز بالاتصال بمن سمي في حينه بالضباط العرب وهم في الحقيقة من بقايا الجيش العثماني وهم فئة متعلمة وارستقراطية ومتحللة في دينها تعيش في قصور فاخرة ابتنتها على أطراف بغداد وعلى ضفاف دجلة وفي مدينتي الموصل والبصرة يعشقون معاقرة الخمور ولا يملون سهر الليالي قساة القلوب كأنها قدت من حجر ولا يتورعون عن ارتكاب أبشع الجرائم ضد خصومهم وهم بارعون في حياكة المؤامرات والدسائس ويتقنون فنون السياسة وألاعيبها , انتهازيون أنانيون ولا يترددون عن خوض اقسي المعارك حين يتعلق الأمر بمصالحهم, لقد نجح هؤلاء في زرع الطائفية السياسية في العراق منذ ذلك التاريخ مستفيدين من تطابق معتقداتهم المذهبية مع قسم من العراقيين حيث نجحوا في إقناعهم بان اقتراب الشيعة من نيل حقوقهم معناه انسلاخ العراق عن محيطه العربي والارتماء في حضن إيران مما جعلهم اكبر اللاعبين في الساحة السياسية العراقية في ذلك الوقت ولهذه الأسباب فكر الانكليز كما قلنا بالاتصال بهؤلاء واختاروا لهذه المهمة احد زعمائهم وهو سليمان فيضي ولكن محاولتهم باءت بالفشل لان سليمان فيضي اخبر لورنس الذي التقى به بان خلافاتهم مع الأتراك خلافات داخلية0
لقد نجح هؤلاء العسكريون الذين أصبحوا يسمون بالضباط العرب وعبر براعتهم في إطلاق أكثر الشعارات القومية بريقا وهم يعلمون سلفا أن هذه الشعارات غير قابلة للتطبيق أو على الأقل هم قادرون على عرقلة تطبيقها متى أرادوا أقول لقد نجحوا في خداع الكثير من العراقيين ومن مختلف الطوائف لكي تلتف حولهم. وحين يئست بريطانيا من تنظيم الثورة أو التمرد على السلطات التركية من قبل الضباط العرب أو العشائر العربية في الوسط والجنوب التي كانت تعامل باحتقار وازدراء من قبل الأتراك قررت الاعتماد على نفسها فعززت قواتها وأعطت القيادة إلى الجنرال مود الذي استطاع دخول بغداد في 11 آذار 1917 0
بعد سقوط بغداد تغير موقف (الضباط العرب )وراحوا يتسابقون للتفاوض مع الانكليز من اجل رسم شكل الدولة العراقية الجديدة , وفي هذا الباب يقول السير بيرسي كوكس (ما إن انتشرت أنباء سقوط بغداد حتى وجدت نفسي غارقا في سيل من الزوار المهنئين من الضباط العرب ومن شيوخ العشائر الذين بدا الكثير منهم وكأنهم لم يخضعوا للحكومة التركية وكانوا غرباء تماما عن بغداد ) . لقد أثبتت إيران وتركيا إنهما قادرتان عشية الغزو البريطاني للعراق على تحريك الشارع العراقيوفقا لمصلحتيهما ,وإذا كان طالب النقيب ومن يقف خلفه ينادي ببناء عراق جمهوري برئاسته يعتمد الطائفية أساسا فان عشائر الوسط والجنوب العراقي شرعت بإعلان ثورة العشرين. لقد أحيطت تلك الثورة بهالة من المهابة والتقديس المتعمد من اجل منع الباحثين والمتخصصين من تناولها بأسلوب نقدي وتحليلي لاستخلاص العبر والدروس منها0وهنا تتفجر إمامنا مجموعة من الأسئلة اعترف إني لا املك الشجاعة الكافية للإجابة عليها لذلك فسوف اتركها إلى من يهمه الأمر من المثقفين والباحثين خاصة وان ثورة العشرين لم تكن عملا عفويا بل كان عملا منظما له قياداته وأهدافه القريبة والبعيدة0
لماذا اشتعلت شرارة الثورة في وسط العراق الذي عانى الأمرين من الحكم التركي ولم تشتعل في مناطق أخرى؟ وما هي أهداف تلك الثورة ؟ ولو قدر لها النجاح في طرد الانكليز فهل سيعود الأتراك إلى الحكم؟ ولماذا وقف الضباط العرب ضد الثورة خاصة وان موقف طالب النقيب وهو ( الشقاوة) المعروف في تفريق الثوار المجتمعين في الحيدرخانة غني عن التعريف؟ ولماذا أصبح الخبز والعتاد شحيحا على الثوار بعد بضعة أشهر مما أدى إلى ضعفهم وانهيارهم فيما بعد؟ وهل ثمة صفقة بين الانكليز وبين دولة إقليمية قد حصلت؟.وأسئلة أخرى كثيرة والله اعلم
https://telegram.me/buratha