المقالات

المساحة الوطنية في السياسة الخارجية العراقية

1207 09:04:00 2009-09-27

هادي والي الظالمي

لم تعد الاعتبارات العقائدية تتحكم بالعلاقات الدولية ، فعالم اليوم اكثر ادراكا لدواعي التعايش السلمي على اسس من التنوع والاختلاف ، بعد ان دفعت البشرية ثمنا باهضا لصراعاتها الايديولوجية ، وقد زاد من هذا الادراك ثورة الاتصالات والتقنيات الحديثة والمعطيات العلمية المتجددة ، و التي جعلت العالم قرية صغيرة ومفتوحة ، مما ازال الكثير من الهواجس والمخاوف التي كانت متوارية وراء الستر الحديدية ، وردم الفجوة الثقافية القائمة بين الشعوب ،كما سحب احتكار صناعة وتسويق الثقافة الواحدية المتمثلة بثقافة الحاكم ورؤيته العقائدية ، حتى قيل ( الناس على دين ملوكهم ) . العقائد ذاتها لم تكن سوى نظرية لادارة صراع المصالح وممارستها ، فهي في النهاية تمثل رؤية احادية وشمولية لما يجب ان تكون عليه الاشياء والعلاقات ، و ان التعاطي مع المستجدات يجب ان ينبثق عنها ولا يخرج عن معاييرها .

الا ان مصالح الشعوب في الصراعات الايديولوجية التي شهدها العالم انتهت الى واد غير الذي كان فيه الحكام . اخيرا سقطت تلك الانظمة بعد ان ادركت شعوبها تفاهة تلك الاسطورة التي استنزفت قواها ، وهي تزجها في صراعات مع اعداء من الوهم . ان البشرية في سلم تطورها وهي تغادر الايديولوجيات كموجهات لادارة مصالح الشعوب ، بعد تجربتها المريرة في هذا المضمار، لم يكن لها ممكنا مغادرة تلك المصالح او البحث عن اساليب فاعلة لادارتها في اطار من الشراكة والتنافس . كما ان انظمة الحكم المختلفة ديمقراطية او شبه ديمقراطية باتت محكومة بهذه المعادلة التي تغلب مصلحة الدول على اية اعتبارات اخرى ، فصارت مصالح الدولة لاعقيدتها (الدينية او السياسية ) هي التي تتحكم في رسم وتحديد مسارات سياستها الخارجية وعلاقاتها الدولية ، باستثناء عدد قليل من الانظمة التي ترفض الانخراط في الواقع الجديد لدولها ، لاستشعارها الخطر الذي يتهدد وجودها من خطوة كهذه ، وهي تضع نفسها وشعوبها في مواجهة غير متكافئة مع عالم يمتلك مقومات كبيرة من القوة الحقيقية .

في العراق كان نظام البعث يتبنى العقيدة القومية ، وقد سجل تضاعف الموارد المالية الناجمة عن ارتفاع اسعار النفط في عقد السبعينات من القرن الماضي كانتصار للعقيدة القومية ، خاصة بتزامنه مع تحقيق الجيوش العربية لانتصارات على اسرائيل في حرب اكتوبر1973 ، على الاقل ، كما صورتها وسائل الاعلام العربية . لقد كان لتلك المتغيرات تاثيرات نفسية مهمة على الانسان العربي المنكسر امام خيبة المشروع العربي ، وعلى العراقيين الذين بدات حياتهم المعيشية والاقتصادية تتحسن بوتائر متصاعدة مع وضع الحكومة لماعرف انئذ بخطط التنمية الانفجارية . الا ان الذي لم يكن يعلمه غالبية الناس ان تلك المعطيات الايجابية في تحسن احوالهم المعيشية لم يكن ناشئا عن فاعلية السياسة الاقتصادية للحكومة او تحسن في اداراتها ، بل انه يعود فقط الى تنامي العوائد النفطية للعراق ، وقد استطاع النظام ايجاد فرص عمل في القطاع الحكومي لجميع الراغبين بغض النظر عن مؤهلاتهم او اعمارهم او الحاجة الفعلية لخدماتهم . وكان النظام لايتورع عن تصوير تلك التحولات الايجابية وكانها نتاج عقيدته القومية التي تمثل الحل الامثل والاوحد للنهوض وتجاوز اشكالات الماضي الحاضرة في مقارناته ، ولم تجد تلك الممارسات في بداياتها سوى معارضة النخب المثقفة بدوافع دعوتها الى التعددية السياسية ، وتشخيصها المبكر للنزعة الدكتاتورية التي كانت جنينا في رحم النظام . وباستخدام مقدرات البلد الاقتصادية ذاتها دعم النظام من حضوره على الساحة العربية والدولية في افريقيا واسيا وامريكا اللاتينية واوربا الشرقية ، وكان معظم ذلك لايصب في المصلحة الحقيقية للبلد بقدر ارتباطه بتلميع صورة النظام . وحظي النظام في تلك الفترة بدعم شعبي كبير في الداخل وبعلاقات عربية ودولية مميزة ، مكنته من ادارة حرب طاحنة مع ايران لثمان سنوات بكفاءة عسكرية وسياسية لاغبار عليها . ومن خلال تبنيه للعقيدة القومية في المعركة والادارة الاعلامية البارعة لها اجبرخصومه العقائديين الى الوقوف الى جانبه في تلك المعركة .

الا ان راس النظام الذي تفرد بالسلطة مسفرا عن وجهه الدكتاتوري اخطأ في حساباته عندما قام بغزو الكويت في وقت لم يعد العالم منقسما على اسس ايديولوجية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط المعسكر الشرقي ، مما دفع حلفاء الامس مضغوطين تحت تهديد امنهم ومصالحهم للوقوف ضد التوجه العدواني لنظام صدام حسين . ان النظام العالمي الجديد المتشكل على انقاض الحرب الباردة ، بدى مهددا في بداياته من قبل العراق ‘ مع مارافقه من الترويج لمفاهيم العولمة والتجارة الحرة والرفاه والوفرة . ووجد العالم المتوافق على مصالحه في القيم والمفاهيم الجديدة توافقا في الوقوف بوجه التحدي والتهديد الذي يمثله النظام العراقي ، فكانت حرب تحرير الكويت مع ماسبقها ورافقها واعقبها من العقوبات والقرارات الدولية الجماعية التي انتهت الى حصار اممي شامل امتد الى مابعد سقوط النظام في العام 2003 ورزوح العراق تحت طائلة البند السابع من ميثاق الامم المتحدة ونظام العقوبات حتى اليوم .بعد اسقاط نظام صدام في العام 2003 وبسبب التقديرات الخاطئة للسياسة الامريكية ، واعتمادا على تفاهمات قوى المعارضة العراقية ، قبل ان تصل الى السلطة ، تم اعتماد نظام المحاصصة السياسية ( اصبح فيما بعد نظاما شاملا ) ،وقد اعتمدت قوى المحاصصة الجديدة الخطاب الطائفي والقومي التحريضي لتحقيق مكاسب على الارض ، بغياب مشروع بناء حقيقي ، كون تلك المكاسب لاتتحقق في النظام الديمقراطي الجديد الا من خلال الانتخابات التي تقرر وجود ونفوذ تلك القوى في الواقع الراهن .

ان الخطاب الطائفي الذي كان موجها اساسا الى الداخل لاستقطاب المؤيدين ، والحصول على دعمهم في الانتخابات التي صارت سمة ملازمة لمؤسسات الدولة الجديدة ، اعاد الى الاذهان من جديد الصراعات القائمة على اسس ايديولوجية امتدت في تاثيراتها الى السياسة الخارجية للعراق .وباتت دول الجوارتخشى تكرار تجربة العدوان العراقي بوجوه جديدة . ولم تكن السياسة الخارجية العراقية قادرة على تقديم التطمينات الى دول الجوار خصوصا ، بخضوع مؤسساتها للمحاصصة السياسية القائمة على التمييز بين الدول على اساس طائفي لايعتمد المصلحة الحقيقية للبلد ، كما انها فشلت في ازالة مخاوف دول الجوار من ان النموذج العراقي الديمقراطي الجديد لايمثل تهديدا لانظمتها ومصالحها ، منساقة دون وعي وراء المقولات الامريكية في اطروحة الشرق الاوسط الجديد التي تبدأ رياحها من العراق . كما ان رسائل الطمأنة لم تعد ذات مفاعيل تذكر مع تنامي التحريض الطائفي وتجذيره في الثقافة الاجتماعية باستعداء دول الجوار على اسس عقائدية . في النهاية اصبحت السياسة الخارجية تمثل انعكاسا للاوضاع الداخلية للبلد والتي تعاني من انقسامات حادة تم صناعتها سياسيا ، مفتقدة للقدرة على المبادرة من اجل خلق علاقات تعاون مع دول الجوار ترتد بايجابياتها على الوضع الداخلي . وبالتالي فان القول بان السياسة العراقية ساهمت بجزء كبير من توتير العلاقة مع دول الجوار وما نتج عنها من استهداف لشعب العراق ومصالحه قول لايحتاج الى مزيد من الشجاعة ، وكانت تلك السياسة مخادعة ولامسؤولة بتوجيه الغليان والغضب الشعبي على الاوضاع الامنية والاقتصادية المزرية في الداخل باتجاه الخارج .

ومرة اخرى لم تستطع الحكومة استثمار الدعم الامريكي عندما كان العراق اولوية في السياسة الامريكية ، لتسوية الملفات المهمة سواء في اخراج العراق من طائلة البند السابع لميثاق الامم المتحدة ، او انهاء ملف التعويضات لدولة الكويت ، او غلق موضوع الديون العربية على العراق ، او موضوع المياه مع ايران وتركيا والذي اصبح يشكل تهديدا جديا للحياة والبيئة في العراق ، ويمثل عاملا لابتزاز وتركيع العراق في المستقبل واضعاف موقفه مع دول الجوار . كما ان الحكومة وقفت عاجزة عن استشراف المتغيرات في السياسة الامريكية مابعد مرحلة بوش وما يرافقها من معطيات دولية واقليمية على حساب تراجع موقف العراق وموقعه في المعادلة الجديدة . وقد جاءت الازمة الاقتصادية العالمية وتراجع الطلب على النفط وانخفاض اسعاره ودخول ايران وسوريا في دائرة الغزل الامريكي ضمن صفقة شاملة في المنطقة لانهاء الصراع في الشرق الاوسط والذي بات يرهق الاقتصاد الامريكي ويثير تذمر دافع الضرائب ، لتضيف خطوات الى الوراء في تراجع القضية العراقية ضمن الملفات الامريكية الساخنة .

ان تصدر العراق لاهتمامات السياسة الامريكية بوجود نظام صدام الذي كان يهدد المصالح الامريكية وحلفاءها في المنطقة لم يعد قائما ، كما فشلت الادارة الامريكية في اقامة النموذج الديمقراطي الذي راهنت لان يكون منارا لشعوب المنطقة والذي اصطدم بحجم الخسائر الباهضة لتحقيقه وهول الفساد السياسي الذي رافقه وتولد عنه ، كما انها لم تنجح في دفع الحكومة العراقية الى زيادة انتاج النفط العراقي وهي عوامل ساهمت بمجملها في تراجع الاهمية المفترضة للعراق في الستراتيجية الامريكية لمنطقة الشرق الاوسط .امام تلك المعطيات التي يمكن ان تتحرك نحو الاسوء ، على الحكومة العراقية ان تطور ستراتيجية سياسية مستقلة في علاقاتها الخارجية ، وخصوصا العربية والاقليمية ، تعتمد لغة الحوار والتفاهمات ودبلوماسية المصالح ، الا انها لن تكون قادرة على المضي في تنفيذها مالم تغير من خطابها الطائفي الذي يستعدي دول الجوار على حساب البعض الاخر ، وتلك الخطوات بحاجة الى قدر من الجدية والشجاعة يخرجها من نطاق الالاعيب السياسية والمزايدات الانتخابية ، اذ ان المصالح العليا للبلد ينبغي ان تسير وتتطوربمعزل عن المصالح السياسية الفئوية او الجهوية للاحزاب او لمكونات دون غيرها .

ان الحكومة القادمة لن تكون قادرة على التعاطي مع ملف السياسة الخارجية للعراق بحساسيته المفرطة اذا ماجاءت استنساخا للحكومة القائمة في اعتمادها العقائدية في التعامل مع المصالح الوطنية و ان عليها ايضا ان تضع في اعتبارها عدم اعتماد المبالغة في الموقع الدولي للعراق في عالم تقاس فيه الدول على اساس حجومها الاقتصادية ، فالعراق لايمتلك اية مقومات اقتصادية حاضرة او واعدة في المستقبل القريب ، فاقتصاده احادي في اعتماده على النفط فقط ، والذي يتأثر بمجموعة من المتغيرات لا تضعه في دائرة الثقة الاقتصادية دائما ، اضافة الى ان كميات النفط المصدرة لن تكون قادرة على الاستجابة لمتطلبات وضع العراق في ركب الدول المجاورة في وقت قريب . مما يستدعي معالجة الخلل الاقتصادي بتمتين علاقات العراق الاقتصادية ومصالحه واقامة الشراكات مع دول الجوار ومن ثم توظيف الاقتصاد العراقي في الاعمار والبناء والنهوض بالخدمات بدلا من تسخيره واستنزافه في مجالات فرض الامن والذي يعاني خللا كبيرا بسبب تدخلات دول الجوار في شؤونه ناجما عن رسائل عدم الثقة المتبادلة والتي تتحمل الحكومة العراقية جانبا كبيرا فيها ، الا ان ما يضاعف تلك المسؤولية ان العراق يعيش ظروفا قاسية تختلف عن دول الجوار التي تمتلك خيارات وبدائل ليست متاحة للجانب العراقي مما يحتم ان يكون تعامله مع ملفات العلاقات الخارجية معها متسما بمزيد من الحرص والمرونة .

هادي والي الظالميالعراق - السماوة

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
محمود الراشدي : نبارك لكم هذا العمل الجبار اللذي طال إنتظاره بتنظيف قلب بغداد منطقة البتاويين وشارع السعدون من عصابات ...
الموضوع :
باشراف الوزير ولأول مرة منذ 2003.. اعلان النتائج الاولية لـ"صولة البتاوين" بعد انطلاقها فجرًا
الانسان : لانه الوزارة ملك ابوه، لو حكومة بيها خير كان طردوه ، لكن الحكومة ما تحب تزعل الاكراد ...
الموضوع :
رغم الأحداث الدبلوماسية الكبيرة في العراق.. وزير الخارجية متخلف عن أداء مهامه منذ وفاة زوجته
عمر بلقاضي : يا عيب يا عيبُ من ملكٍ أضحى بلا شَرَفٍ قد أسلمَ القدسَ للصُّ،هيونِ وانبَطَحا بل قامَ يَدفعُ ...
الموضوع :
قصيدة حلَّ الأجل بمناسبة وفاة القرضاوي
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
فيسبوك