المقالات

متى يُظهر (إخوة ماسون) رأسهم من جديد؟

1568 19:28:00 2008-09-19

( بقلم : د. رياض الأسدي )

يروى إن الأمير عبد القادر الجزائري أثناء رحلته إلى المنفى وفي طريقه إلى البحر من الإسكندرية كان قد أستوقفه احد (إخوة ماسون) بالقرب من الباخرة التي ستقله إلى المجهول، وطلب منه الانتماء إلى (المحفل الماسوني) الجديد في الإسكندرية، فقال له عبد القادر الجزائري: وإلام تدعو الماسونية يا هذا؟ فأجاب الأخ الماسوني: إنها تدعو إلى وحدة الأديان. فما كان من عبد القادر إلا أن أجابه: وديني يدعو إلى ذلك أيضا، فما يلزمني للانتماء أليك؟! هكذا كان بعض الرهط من المفكرين والثوار والأدباء العرب على حذر دائم من الأفكار والدعوات المختلفة التي ترد عن الغرب: يدققون ويتحرون ويحاولون معرفة الدوافع والأهداف ما كان إلى ذلك سبيلا. لكن تلك الروح المدققة والحذرة التي لا تقبل بكل (قادم) على علاته لم تلبث أن أصبحت ضعيفة إزاء كل ما هو غريب.

وكانت ثورة الرابع عشر من تموز الوطنية عام 1958 قد أصدرت لأول مرة في تاريخ العراق السياسي المعاصر مرسوما جمهوريا يتضمن منع المحافل الماسونية وتحريم الانتماء أليها في العراق، حيث كان أول محفل ماسوني في البصرة قد تأسس إبان الاحتلال البريطاني للبصرة عام 1914 ثم تبعه محفل آخر في بغداد والموصل، وكانت تلك الخطوة واحدة من أهم معالم الثورة الوطنية آنذاك. وكذلك فعلت الأمر نفسه ثورة مصر عام 1952 في عهد الرئيس عبد الناصر.

وتعد الماسونية واحدة من الحركات المعادية لتطلعات الشعوب الوطنية والقومية وقد ارتبطت منذ البداية في خدمة المستعمرين بكل ألوانهم وأشكالهم. وبما إن القوى الاستعمارية قد عادت إلى منطقة الشرق الأوسط بثوب جديد الآن، فإن السؤال يتجدد: هل ستعود الماسونية للعمل مرة أخرى في العراق أو في أي بلد يخضع للاحتلال بهذا المقدار او ذاك لتأثيرات القوة الغاشمة الجديدة؟ وما الذي يمكن للماسونية أن تقدمه من خدمات جديدة إلى المحتلين الجدد؟ هل ستعاد المحافل الماسونية في العالم العربي والإسلامي إلى العمل تحت يافطة حرية الرأي والتعبير مثلا؟! وما الدور الذي سيضطلع به المثقفون الوطنيون للعمل على فضح ومحاربة تلك الحركات الخطيرة؟ ربما تكون الماسونية من أكثر الحركات غموضا وسرية وإثارة في التاريخ الإنساني، وهي من أشد الأفكار التي واصلت العيش طوال قرون مختلفة من الحروب والصراعات القومية والدينية والمذهبية في أوربا. لذلك لابد من معرفة الأسباب الكامنة وراء هذه (الحيوية) الفريدة من نوعها. كما إنها من أكثر الحركات انتشارا على الكرة الأرضية، ومن أقدرها بقاء على سطح التأثير الإعلامي منذ حقبة طويلة من الزمن رغم الكم الهائل من الشائعات وحكايات الغموض عن أسرارها الخفية والأقاويل حولها. كانت الماسونية – وما زالت- تهدف إلى (هدم) القيم والمثل والأخلاقيات التي ترتكز عليها المجتمعات خاصة. وقد عملت في السابق في الاتجاه نفسه بجدّ وبطرق خفية وظاهرة، ويبقى السؤال دائما: لصالح من يجري كلّ هذا العمل الكبير على مستوى العالم طوال قرون من العمل المتواصل؟ وكيف يمكننا الفصل بين (التوجهات) الإنسانية الأولى للماسونية وما آلت إليه بعد ذلك؟ وهل ثمة جانب من الحقيقة في تلك (التوجهات) فعلا؟

من الصعب معرفة المدة التاريخية التي تحولت فيها الماسونية كحركة (أنسنة) في منظومتها الفكرية وتوجهاتها العامة إلى قناة للصهيونية تتحكم فيها الجماعات اليهودية المتطرفة. لكن ثمة أدلة كثيرة على تحول الماسونية إلى واجهة صهيونية من خلال اتفاقها المبرم منذ وقت طويل حول ما يعرف بالعودة إلى (جبل صهيون) في القدس وهي الفكرة الرئيسة لقدوم المهاجرين اليهود إلى فلسطين، وكذلك بناء (هيكل سليمان) وما يعرف بعد ذلك بالحكومة العالمية؛ فتعدّ فكرة بناء الهيكل واحدة من أهم توجهات الماسونية في وقت مبكر من ظهورها في أوربا إبان عصر النهضة. ومن هنا فإن كثير من الباحثين في شؤون الحركات السرية في العالم يرون إن الماسونية قد هيأت الأرض لظهور الأفكار الصهيونية على يد مؤسس الحركة الصهيونية اليهودي الصحفي النمساوي تيودور هرتزل في أواخر القرن التاسع عشر.

ويرى الباحث العراقي المرحوم هادي العلوي – كما هي الموجة التي سادت في عقد السبعينات من القرن الماضي في (تجذير) كلّ ما هو غربي عربيا!- إن الماسونية تمتد جذورها إلى الأصناف والنقابات العربية في العصر العباسي الثاني، واستدلّ الباحث برأيه على استخدامها ما يكفي من الكلمات العربية المستعملة لدى أهل الحرف والأصناف ككلمات الشرط والأستاذ والأستاذ الأعظم وغيرها.. ويبدو إن أدوات العمارة كالخيط والشاهول والمجرفة الصغيرة من الأدوات التي تميز الماسونيين؛ حتى إن المرء يمكنه أن يعرف الماسوني القديم من خلال وضعه أدوات بناء صغيرة على صدره للتعريف بانتمائه للمحفل الماسوني. كانت فكرة البناء والعمران ملاصقة لعموم توجهات الماسونيين القدامى والجدد.

ورغم ذلك الترميز المتعمد والقديم للماسونية والمنتمين لها من (إخوة ماسون) فإنها تبقى من أشد الحركات اهتماما بالسرية وحياة النخبة وخاصة المثقفين والعلماء والفنانين وذوي الاختصاصات العلمية النادرة كالأطباء وصناع الأدوية حتى إن ثمة مقاربة واضحة بين كلمتي صيدلية pharmacy والماسونية. ومن المفيد الذكر إن العراقيين في العصر الملكي كانت كلمة ماسوني تستعمل (فرمسوني) وهي سبة بالطبع، وكذلك أصحاب رؤوس الأموال والبنكيين وكبار التجار.

ويمتاز الماسونيون بنظام انتماء دقيق قلما توافرت عليه حركة دينية من قبل. كما أنها تجعل روادها منتمين إليها مدى الحياة: وهذه من أهم الأفكار التي تساعد الماسونيين على البقاء لأطول مدة على سطح الثقافة والفكر والمعارف. ويعد الماسونيون الأوائل (البناؤن) من المولعين بفن العمارة وحرية الفكر معا منذ عصر النهضة في أوربا. ويمكنك معرفة الماسوني في أوربا وهو يضع أي أداة بناء كنموذج مصغر معلقة على صدره كما كان يفعل ذلك الأديب والقاص الأميركي المعروف ادغار ألن بو: كانت تلك الرموز من طرق تعارف الماسونيين القدماء ومن الصعب معرفة طرقهم في الوقت الحاضر بعد انتشار الاقتصاد المعرفي والثورة المعلوماتية وتعقيد طرق الاتصال بين الناس، لكنها بالطبع تكون قد سهلت – برأيي- من طرق تعارف وانضمام الماسونيين في وقت بقيت تعاليم الماسونية ووسائل عملها طي الكتمان لقرون خلت.

وإذا كانت الماسونية قد ظهرت كحركة لتوحيد الأديان – كما هو إعلانها التاريخي بالدرجة الأساس - فإنها طفقت تدعو إلى وحدة القوميات والأعراق والطوائف والجماعات ثم التخلي عن الهويات المحلية بكل أنواعها وصولا إلى ما يعرف بالإخوة الماسونية الإنسانية: إنها حركة سبقت الشيوعية والعولمة والنزعات الإنسانية المؤدلجة في التنظير للعالم أيضا. وتعد مدينة الإسكندرية في مصر من أوائل المدن التي احتضنت الحركة الماسونية في الشرق، حيث تكون أول محفل ماسوني ( محفل الشرق) في أواخر القرن التاسع عشر. كما بات من المعروف إن نابليون بونابرت هو من أوائل الماسونيين الغازين للشرق إلى جانب غورو وكليبر والجنرال أللنبي فاتح فلسطين وغيرهم من عتاة الاستعماريين القدماء.

لكن الماسونيين لا يظهرون ماسونيتهم علنا إلا في الوقت الذي يطلب منهم ذلك. وهكذا يعد التنظيم الماسوني من اشد التنظيمات (الدينية) والسياسية تماسكا وحفاظا على التقاليد السرّية. فمن المعروف إن الدخول في الماسونية لا يفترض الخروج منها إلا (ميتا)!! إذ يكون الخارج عنها قد عرف الكثير من الأسرار الخاصة بتلك الحركة، مما يحول دون الإدلاء بها إلا عن طريق التصفية الجسدية. وهكذا يمكن اعتبار الماسونية من أوائل الحركات الإرهابية في العالم التي مارست العنف ضد الخارجين عنها. ولذلك ليس اعتباطا أننا لا نجد الكثير من الكتب والأبحاث الجادة والموثقة حول الماسونية تتناسب وطول عمرها والكاريزما المنسوجة حولها والأسرار الموضوعة فيها؟ وإن جميع تلك الكتب والأبحاث تقع غالبا في دائرة الترويج الإعلامي ورسم الهالات الكبيرة عنها فحسب فليس ثمة دراسات بالعربية او مترجمة تحتوي ما يكفي عن تلك الحركة التي تمتاز بما يكفي من البقاء.

ومن الشائع إن الماسونية تعمل بين صفوف رجال الأعمال وبيوتات المال والأثرياء خاصة وكذلك رجالات الفكر والدين من مختلف المنابع والأدباء والفنانين: أي أنها غير معنية تماما بالطبقات الفقيرة او المسحوقة في أي مجتمع لأن تلك الطبقات لا تأثير لها – كما ترى الماسونية- في صنع القرارات في البلدان. لكنها تعنى ثقافيا بأولئك الكتاب الذين يظهرون مقدارا كبيرا من الوهج الإنساني أيضا: وهذه مسألة خطيرة جدا. ولا تكمن خطورة الماسونية في سريتها فحسب بل في إمكاناتها على تدريب وإدخال كبار الكتاب والصحفيين إلى الدوائر الماسونية دون أن يشعروا بذلك! بل قد يقوم العديد من الكتاب بتقديم خدمات جليلة للماسونية دون أن يشعر بذلك حتى بعد مماتهم أيضا: وهنا مكمن الخطورة الكبرى لهذه الحركة. وهكذا فهي حركة فكر بالدرجة الأساس هدفها تحويل العالم باتجاه واحد!

وتتخذ الماسونية من الأشخاص (اللامعين) في كلّ مجتمع بغض النظر عن ديانتهم او توجهاتهم السياسية والفكرية وسيلة للعمل من خلالهم. كما أنها تقدم لهم (التسهيلات) وتفتح أمامهم الأبواب المغلقة من اجل خدمة المثل والقيم الماسونية في النهاية. ولعل من أهم الأفكار التي تتسم بها هذه الحركة الخطيرة يكمن في إنها لا تشترط من المنتسب إليها التخلي عن دينه أو مذهبه وحتى حزبه السياسي وتوجهه الثقافي؛ وهكذا فهي تحاول كسب الأفراد من مختلف المجتمعات والتوجهات ومن ثم تحويلهم بعد مدة طويلة من الزمن إلى (خدم) للتوجهات الماسونية التي غالبا ما تكون محاطة بهالة من الأسرار، فقد يصل الماسوني إلى درجة عالية من السلم الوظيفي لدى هذه الجماعة، لكنه يبقى غير محيط بالأسرار الكبرى لها جميعا أيضا. ويعد (الأستاذ الأعظم) وهي مرتبة عليا في الماسونية – وهي أعلى مرتبة كما هو في الموروث الماسوني الثقافي- وربما توكل إلى أكثر من شخص واحدة من المناصب التي تحتوي على جزء من (الأسرار الماسونية). أما كيف يمكننا الاستدلال على ماسونية الشخص - حتى وإن كان غير منتم لهذه الجماعة رسميا- فيكون من خلال الطرق والمظاهر التالية:

- يحاول الماسوني أن يسفه او يرفض او ينسف الأفكار الدينية لمجتمعه مهما كانت، او يقدم لها بعض الطروحات النقدية من باب حرية مناقشة الموروث الديني، ولا تكتسب مناقشة الماسوني للأفكار السائدة في مجتمعه رغبة في العلمية بل إن هدفه (الهدم) دائما.- يستخدم الماسوني جميع وسائل الاتصال بالنخبة في مجتمعه ويحاول أن يقدم التسهيلات المختلفة لها من خلال عمله الدؤوب على تغيير المثل والقيم السائدة و في المجتمع باتجاه التحلل الخلقي خاصة. وتعد الماسونية فكرة تهديم الأخلاق العامة في العالم واحدة من أهدافها الكبرى.- يحاول الماسوني (تحرير) النخبة – وهي الفئة القائدة فكريا لأي مجتمع- من مثل القومية والوطنية والدين وصولا إلى ما يعرف بالأخوة العالمية المزعومة.- تهتم الحركة الماسونية بالتجارة والعمل الاقتصادي الحر وتحاول تقديم ما يكفي من تسهيلات مصرفية إلى أتباعها وأعوانها.- تستخدم الماسونية يافطات مختلفة للعمل بين النخبة من أهمها الدعوة إلى الحريات الدينية والسياسية وهي تعمل على تفتيت المجتمعات والعودة بها إلى أثنياتها.- تعمد الماسونية الثقافية الجديدة إلى مساعدة جميع الحركات التغريبية الدينية، وتدعم بقوة حركات الانفصال القومي والعرقي والمذهبي وتؤسس من اجل ذلك الفضائيات المختلفة وتقدم الدعم المادي والمعنوي لدعاة التجزئة أينما كانوا. ويمكن للقارئ الكريم أن يضيف ما يشاء من مظاهر جديدة في قادم الأيام.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
محمود الراشدي : نبارك لكم هذا العمل الجبار اللذي طال إنتظاره بتنظيف قلب بغداد منطقة البتاويين وشارع السعدون من عصابات ...
الموضوع :
باشراف الوزير ولأول مرة منذ 2003.. اعلان النتائج الاولية لـ"صولة البتاوين" بعد انطلاقها فجرًا
الانسان : لانه الوزارة ملك ابوه، لو حكومة بيها خير كان طردوه ، لكن الحكومة ما تحب تزعل الاكراد ...
الموضوع :
رغم الأحداث الدبلوماسية الكبيرة في العراق.. وزير الخارجية متخلف عن أداء مهامه منذ وفاة زوجته
عمر بلقاضي : يا عيب يا عيبُ من ملكٍ أضحى بلا شَرَفٍ قد أسلمَ القدسَ للصُّ،هيونِ وانبَطَحا بل قامَ يَدفعُ ...
الموضوع :
قصيدة حلَّ الأجل بمناسبة وفاة القرضاوي
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
فيسبوك