كتب د. معن بن علي الدويش الجربا ـ باحث في الشأن العربي والإسلامي
أكتب هذا المقال بعد أن أُجريت بالأمس في العراق مراسم إنهاء مهمة بعثة الأمم المتحدة بعد عملٍ دام أكثر من عقدين من الزمان، وحضر تلك المراسم أمين عام المنظمة الدولية "أنطونيو غوتيريش" الذي أشار إلى أن العراق أصبح دولة ناضجة ولا تحتاج إلى وصاية أو دعم سياسي خارجي، وبالتالي فإن العملية السياسية العراقية أصبحت أكثر مهنية وحوكمة، وأكثر خبرة في إدارة الملفات الداخلية والخارجية وتشكيل الحكومات دون الحاجة إلى مساعدة الآخرين.. هذا البيان له جانبين، جانب مشرق وجانب مظلم، الجانب المظلم هو الاشارة أن العراق لم يكن ناضجاً ثم اصبح كذلك وهذه من المغالطات المضحكة المبكية التي نتحفظ عليها، أما الجانب المشرق فهو إلزام الأمم المتحدة نفسها بأن العراق والعملية السياسية أصبحت ناضجة بما يكفي ولا تحتاج وصاية من أحد.. فلو سلم العراق من تدخلات امريكا والغرب لأصبح من أكثر دول العالم تأثيرا اقتصادا وسياسيا لما يملكه من مقومات لا تتوفر لدي الدول الأخرى.
ولكني هنا أريد أن أعود الى أصل القصة من أولها حتى نستفيد من أخطاء الماضي.. كنت أسمع ما تحاول الشعوب الأخرى النَّيل به من سمعة شعب بلاد الرافدين زورا وبهتانا، حيث أني نشأت بعيدا عن العراق جُلَّ حياتي، فكنت أسمع ما يقال عنه "بدون رتوش او مجاملات"، وقد كانت كتب علي الوردي هي الخنجر المسموم الذي يُطعن به العراق من الظهر، بحيث يقال دائما "وشهد شاهدٌ من أهلها".. ولكن وبعد أن نضجت فكريا وعلميا أصبح واضحا لي بجلاء أن مصدر هذا الهجوم على العراق كان هو "الحسد" لتاريخ العراق ومكانته في الحاضر والماضي، فقد كان العراق محسودا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولا يستغرباً أحداً هذا الطرح فالحسد آفة إنسانية سقط بها حتى أبناء الأنبياء كما فعل أبناء يعقوب عليه السلام، فالعراق يمتلك بشكل "مستفز" كل الصفات التي تجعله يُحسَد من الشعوب الأخرى.
لذلك قررت أن ابحث بنفسي في كتب الوردي لأعرف ما هو الدافع وراء ما ذهب اليه. وبما أننا هنا نكتب مقالاً وليس بحثاً او كتاباً فإننا سنعتمد على اسلوب الومضات الفكرية فقط، دون الدخول بالتفاصيل الدقيقة، بحيث نقدم للقارئ الكريم طرف الخيط الذي يمسك به ثم يكمل هو البحث بنفسه وبطريقته الخاصة.
نتكلم هنا عن الدكتور علي حسين محسن الوردي الذي ولد عام 1913- وتوفي عام 1995. هو عالم اجتماع عراقي اشتهر بتبنيه النظريات الاجتماعية الحديثة في تحليل الشخصية العراقية وتحليل الأحداث التاريخية أيضا. يعتبر من أبرز رواد العلمانية المتطرفة والمعادية للمتديين في العراق، وذلك نظرا لخلفيته الثقافية والتعليمية حيث أنه كما يبدو كان متأثرا بشكل واضح بعقدة "الخواجة" وعقدة السيد المتفوق والعبد المتخلف.. فمثلا في عام 1932 استبدل زيه العراقي التقليدي ولبس البدلة الإفرنجية ثم أُرسل ببعثة دراسية إلى الجامعة الأمريكية وحصل منها على البكالوريوس، وبعد ذلك أرسل إلى جامعة تكساس الأمريكية ببعثة دراسية أخرى ونال منها الماجستير والدكتوراه بين عامي 1948- 1950.
عاد علي الوردي من أمريكا متحمسا في محاولات مستميته لتسقيط الشخصية العراقية وهز ثقتها بنفسها عن طريق قتل روحها المعنوية، وذلك لأهداف لم تكن مفهومة لعامة الناس آنذاك.. والعجيب ورغم اعتراف علي الوردي بنفسه أنه غير واثق من أطروحاته في علم الاجتماع، وأنها كانت مجرد مقالات متفرقه ومتناثره هنا وهناك، وأنها لا ترقى لمستوى الطرح العلمي الأكاديمي، وأنه لم يستطع تقديم أي دليل على صحتها، وان أطروحاته لم تستند الى معايير وأدوات واستبيانات وقواعد علمية. الا اننا نلاحظ بأن هناك آلة ومكنة إعلامية إقليمية ودولية تعمل بكل ما أوتيت من قوة لرفع مستوى الرجل الى درجة (نبي) في علم الاجتماع الحديث، او على أقل تقدير رفعه لدرجة أن يكون (إبن خلدون) عصره وزمانه.. حقيقةً إن اهتمام الآلة الإعلامية الإقليمية والدولية بتمجيد الرجل ومحاولة جعل أطروحاته الإجتماعية وكأنها قرآنا معصوما لا تقبل الطعن، تدور حولها ألف علامة استفهام وتثير الشبهات بشكل جدي لأسباب عديدة سوف نطرحها بشكلٍ سريع في هذا المقال.
اليوم أصبحنا نعرف بشكل واضح ان منتصف القرن العشرين الذي اشتهرت به أطروحات الوردي كان زاخرا بالعديد من النظريات الخاصة بعلـم النفس الإنساني وكيـفية السيطرة على سلوك شعوب العالم الثالث واخضاعها للقوى العالمية الاستعمارية، وكما هو معلوم للباحثين المختصين بأن أجـهزة الـمخابرات الأمريكية التقطت هذه النظريات وأنتجت مشـروعاً يسمى مونارك "monarch" عام 1955 وهو مشروعاً تم تطويره عن مشروعٍ ألماني نازي عام 1945 كان هدفه غسل الأدمغة والتـحكـم في الأفكار الإنسانية والأمم والشعوب من خلال ما يعرف اليوم بالبرمجة العقلية او البرمجة اللغوية العصبية..
وحول ذلك تحدث المفكر الأمريكي "ناعوم تشومسكي" عن الوثيقة السرية التي تم الكشف عنها بعنوان (الأسلحة الصامتة لخوض الحروب الهادئة)، تتحدث هذه الوثيقة عن استراتيجيات تبناها واعتمدها أصحاب النُّفوذ العالمي من ساسة ورأسماليين منذ عقود طويله مضت للسيطرة على عقول ومُقدرات وأموال الشعوب، وهذه الاستراتيجيات تعتمد بشكل اساسي على قتل الروح المعنوية للشعوب المستهدفه وإقناعها بأنها شعوب جاهله غبيه مبتذلة، وان هناك قوى عالمية متطورة تعرف مصلحتها أكثر منها. كذلك محاولة إقناع تلك الشعوب بأنها هي المسؤول الأول والأخير عن فشلهم وتخلفهم وسوء حال المجتمع وليست القوى العالمية التي تحاول امتصاص خيراتهم.. كما تعتمد هذه الطريقة أيضا محاولة القضاء على التفكير العقلاني والنقدي لتلك الشعوب من خلال إثارة الحالة العاطفية و تأليه الرموز العلمية، وتوسيع الفجوة بين النخبة وبين المستويات الدنيا من المجتمع.
ومن خلال قراءة سيرة وأطروحات الدكتور علي الوردي سنجد أنه حاول (عن قصد او دون قصد) برمجة العقل العراقي على انه شعب همجي متناقض ازدواجي حائر لا يعرف مصلحته.. وكأن الوردي هنا جند نفسه لهدم الشخصية العراقية معنويا ونفسيا لأهداف تخدم قوى النفوذ العالمي التي تريد الهيمنة على خيرات هذا الشعب وتروج بأحقية صاحب السلطة بالتعامل مع هذا الشعب بالعنف والجبروت لأنه شعب يستحق ذلك.. من خلال ذلك نعتقد ان علي الوردي شارك بأكبر جريمة بحق الشعب العراقي من خلال محاولته كسر روحه المعنوية ومحاولة اقناعه بأنه شعب مزدوج الشخصية متخلف همجي لا يستطيع إدارة نفسه. مبررا بذلك ان يقبل الشعب العراقي بشكل لا واعي أن يدار من خلال قوى عالمية متطورة بحسب رأيهم.. وهنا نستذكر الحديث النبوي الشريف حيث قال عليه الصلاة والسلام "من قال هلك الناس، فهو أهلكهم"، أي من أشاع بين الناس الروح المعنوية السلبية وثبط هممهم ودمر روحهم المعنوية فهو السبب الحقيقي في هلاكهم.. ومعلوم ان من أهم الأسلحة لهزيمة اي شعب او حتى جيش عسكري هي تدمير روحهم المعنوية، لذلك نعتقد بأن هذا الحديث الشريف ينطبق على الدكتور علي الوردي بشكل كبير.
حاولت دائما ان أتبنى وجهة نظر محبي الدكتور علي الوردي من القراء الذين يقولون إن ما يراه الناس أخطاءً للوردي إنما هي في الحقيقة "حياد الباحث العلمي والأكاديمي" .. ولكني كلما تعمقت اكثر في اطروحات الدكتور علي الوردي لا أجد عقلي وضميري يركن ويطمئن لهذا الطرح من وجهة نظر محبيه.. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كيف لمن يهاجم المتديين دائما، وكيف لمن يتجرأ على مقام الإمام علي ابن أبي طالب ليغمزه ويلمزه من طرف خفي، يعود بنفس الوقت ليمجد شخصيات تدعو لمشاريع دينية أخرى لا ترقى لمستوى نعل علي ابن أبي طالب.. فمن عجائب علي الوردي أنه لم يجد حرجاً ولا غضاضة في لمز الإمام علي ابن أبي طالب حيث قال: "لم يشهد التاريخ رجلاً فرق الجماعة كعلي بن أبي طالب، الذي لم يكتفِ بتفريق جماعة المسلمين بنفسه، بل أورث نزعته هذه لأولاده من بعده".. بينما نجد الوردي من جهة اخرى يكيل المدح والثناء على شخصية دينية نسائية مثيرة للجدل تدعى "قرة العين" كانت تبشر "بدينٍ جديد"، حيث ألف علي الوردي كتاباً عن حياة تلك المرأة وفضائلها بعنوان "هكذا قتلوا قرة العين"، وقال عنها: "انها امرأة عظيمة لم أكن اعتقد انها موجودة، او يمكن ان توجد امرأة لديها من القوة والشجاعة ما يعجز عنه اعظم الرجال".. لمن لا يعرف قرة العين تلك، فهي إمرأة شغلت المجتمع العراقي في القرن التاسع عشر، إذ أنها أول إمرأة في الشرق قاطبةً دعت للسفور وارتقت المنابر وخطبت في الناس قائلة: "أيها الأحباب، اعلموا أن أحكام شريعة نبي الإسلام محمد قد نسخت الآن بظهور "الديانة البهائية"، وإن اشتغالكم بالصوم والصلاة والزكاة وسائر ما أتى به محمد كله عمل لغو وفعل باطل، ولا يعمل بها بعد الآن إلا كل غافل وجاهل".. هنا ألا يتفق معي القارئ الكريم أن أمر علي الوردي عجيب ومحير، فكيف لمن كرس حياته لمهاجمة المتدينين يتحول فجاة لمدح إمرأة تدعو لدين جديد !!؟.. عجيبٌ أمر الوردي الذي تجرأ على مهاجمة رجل أجمعت الأمة سنة وشيعة على علمه وفضله وسابقته في الاسلام ودوره في تحريك الأحداث التاريخية نحو تحقيق العدالة الإنسانية، وقد شهد بذلك اعداءه قبل أصحابه كما ورد في تقرير الأمم المتحدة الذي قال " إن علي بن أبي طالب يعتبر من أعدل حكام الأرض، وأن سيرته يجب أن تدرس في الجامعات الحقوقية العالمية لتكون احد مصادر التشريع للقانون الدولي". بينما ذهب الوردي بنفس الوقت لمدح شخصية دينية اخرى "قرة العين" والتي تدور حولها الشبهات، حيث وصفها الوردي بالشخصية العبقرية وانها سبقت زمانها بمئة عام..
من ناحية أخرى فمن العجب أن علي الوردي لم يستخدم تفكيره التحليلي النقدي ليكتشف أن علي ابن أبي طالب هو الذي "جمع الأمة" عندما كادت أن تتفرق في سقيفة بني ساعدة، فلو ان علي ابن أبي طالب رفع سيفه لأرتفعت معه نصف سيوف المهاجرين والانصار ولقامت حرب أهلية لن تبقى من الاسلام شيئا ولا تذر، خصوصا وأن الاسلام كان في مهده والأخطار تحيط به من كل جانب، ولكن علي ابن ابي طالب آثر وحدة الأمة على ما كان يراه حقه الشرعي والعرفي والقانوني.. لو اتعب علي الوردي نفسه قليلا لعرف أن سبب تفرق الأمة ليس علياً بل من كان يحسد علياً بسبب "كماله" في دينه وحسبه ونسبه وفضله، حيث قال الناس قولتهم المعروفة والتي اصبحت مثلا يردد عبر الأجيال "ليس حباً بمعاوية ولكن كرهاً بعلي" أي اننا وقفنا مع معاوية ليس لفضل معاوية ولكن حسدا لعلي.. لو دقق علي الوردي النظر قليلا لوجد أن الأمة اجتمعت وتوحدت كلمتها عندما كانت "المعارضة" تتمثل بمدرسة علي ابن أبي طالب "الإيمانية" والتي قدمت مصلحة الأمة على المصالح الخاصة، بينما تفرقت الأمة عندما اصبحت "المعارضة" تتمثل بمدرسة معاوية "اللاايمانية" والتي قدمت مصالحها الخاصة على مصالح الأمة.. عجيب أمر علي الوردي الذي وعلى ما يبدو أنه أراد مهاجمة كل ما يمت للإمام علي ابن أبي طالب بصلة فختار البدء بمهاجمة العراق والعراقيين، عاصمة الإمام علي وخاصته.
ما ذكرناه في الأعلى كان على سبيل المثال لا الحصر على تناقضات الوردي وشخصيته الحائرة.. اما في ما يتعلق بسطحية أطروحات علي الوردي، نأخذ هنا على سبيل المثال إصرار الوردي وهوسه بإزدواجية الشخصية العراقية وبداوتها، وهو يرجع ذلك إلى ما يسميه بصراع الحضارة والبداوة والحالة الدينية والصفة الجدلية التي يتصف بها الشعب العراقي بحسب زعمه، وقال الوردي ان هذه الصفات صفات ملازمة للشعب العراقي عبر التاريخ.. ولكن الوردي تناسى بشكل فج ان تلك الشخصية العراقية التي ألصق بها كل تلك الصفات هي نفسها الشخصية التي استطاعت أن تبني أعظم الحضارات الانسانية عبر التاريخ على أرض الرافدين وكان آخرها العصر الذهبي للاسلام والعلم والأدب في بغداد. فكيف لشعب يتمتع بصفات سيئة كهذه يكون قادرا على أن يبني حضارة سومر وبابل واشور وكلدان والحضارة الاسلامية في بغداد، فمن الملاحظ انه لا توجد ارض ولا شعب في العالم استطاع ان يبني سلسلة حضارات عظيمة على نفس الارض وعلى امتداد زمني يصل لآلاف السنين كما فعل الشعب العراقي على هذه الارض المباركة التي خرج منها أغلب الأنبياء لإصلاح سلوك البشرية. فكما هو معروف أن جميع الأديان الثلاثة الرئيسية والتي تشكل ثلثي سكان العالم تقريبا يعود أصلها الى العراق حيث ولد ونشأ فيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأن أغلب المذاهب الاسلامية خرجت من العراق، وأغلب الانتاج الفكري والأدبي خرج من العراق، ونستطيع ان نقول بدون مبالغة أنه لا يكاد علم أو خير خرج للإنسانية إلا وله صلة بالعراق بطريقة او بأخرى.. العجيب أن الوردي نسي أو تناسى قبل ان يصف الشعب العراقي بالإزدواجية والتناقض أن أي إنسان وأن أي شعب على وجه هذا الكوكب هو "بالأصالة" يحمل داخله جميع التناقضات من روح وجسد وعقل وعاطفة وخير وشر وايمان وشك، وقد ثبَّت القران الكريم هذه الحقيقة حيث قال تعالى " وألهمها فجورها وتقواها"، ولكن ولأن الشعب العراقي "مميز" فجميع الأنظار تراقبه وتضخم أخطاءه، كما يحصل مع أي شخصية عامة أو شخصية مشهورة عندما يخطئ خطأً بسيطاً يتم تسليط الضوء عليه ويتم تضخيمه، رغم أن جميع الناس يفعلون ذلك الخطأ البشري.. كيف تناسى الوردي ان الانسان الناجح والإنساني الخيِّر حسب علم الإجتماع هو ذلك الإنسان الذي يستطيع ان يوازن بين المتناقضات الموجودة به "بالأصالة وبالخلقه الربانية"، ثم يوجهها بالإتجاة الصحيح، وهذا ما أثبته الشعب العراقي عبر التاريخ البعيد والقريب، بدليل أنه من اكثر شعوب الأرض التي استطاعت ان تبني حضارات انسانية عظيمة، ولا يستطيع فعل ذلك إلا شعب ذو شخصية متوازنة خيِّره بطبعها.
اما نظرية صراع البداوة والحضارة التي طرحها الوردي إن سلمنا بوجودها والذي اعتبرها الوردي صفةً سلبية.. فمن المستغرب أن الوردي لم يلتفت الى أن ذلك الذي يسميه صراعا سلبياً كان في حقيقته حسب الأحداث التاريخية تكاملاً ايجابياً ضرورياً لبناء اي حضارة بشكل سليم وصحي، حيث ان البداوة كانت دائما وعبر التاريخ تغذي المجتمعات بالصفات الأخلاقية الضرورية لبناء الحضارة من شجاعة وكرم وصدق ووفاء وحكمة وصبر، فأهل البادية وبسبب بعد السلطة المركزية عنهم وغياب الأمن والأمان ركزوا على القيم الأخلاقية والرقابة الذاتية لحماية المجتمع، بينما أهل المدن وبسبب قربهم من السلطة المركزية ووجود الأمن والأمان فقد ركزوا على العلم والثقافة والصناعة، وبالتالي وبإزدواجية الحضارة والبداوة وبإندماج الإنتاج العلمي والفكري مع الإنتاج الأخلاقي والسلوكي تبنى الحضارات الصحِّية والمتينة.
حيث قال علماء التاريخ والإجتماع أن الحضارات تهدم عندما تغيب الأخلاق، وقال الحكماء "إنما الأمم الاخلاق ما بقية، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا".. ثم ان الدكتور الوردي نسي بأن ازدواجية الحضارة والبداوة حصلت في أوروبا أيضا، وكان من محصلتها إنتاج ما يراه من الحضارة الغربية اليوم، حيث حصل تلاقح ايجابي بين القيم والموروث القبلي الجرماني "قبائل الانجلوسكسون والقوط والغال والفرنج والفايكنج" مع الحضارة الرومانية العلمية التي نخرها الفساد الأخلاقي آنذاك، مما انتج في نهاية المطاف الحضارة الغربية اليوم بعد هذا التلاقح الإيجابي. فمن المعلوم ان أغلب شعوب الدول الأوروبية وعوائلها الحاكمة الكبرى اليوم تعود لأصول القبائل الجرمانية، بل وحتى اللغة الأولى في العالم اليوم " اللغة الانجليزية" هي من إنتاج القبائل الجرمانية "البربرية" كما كان يحلو للرومان أن يسموهم.. فهل تناسى الوردي ذلك ام نسي؟!.
أما الصفة الجدلية التي يعتقد الوردي انها من اهم صفات الشعب العراقي، والتي يعتقد الوردي انها كانت السبب الرئيسي فى صفة "النفاق" التي تحاول بعض الشعوب الأخرى وصف الشعب العراقي بها.. نقول هنا هل نسي الوردي أن الصفة الجدلية التي تمتع بها الشعب الإغريقي في "أثينا واليونان" هي التي أنتجت للعالم علوم الفلسفة والمنطق وأعظم عظماء الفلاسفة، فهل المهارة الجدلية التي كان يتمتع بها شعب أثينا كانت صفة نفاق أم صفة علم وحضارة؟!.. اي عجب واي طرح سطحي هذا؟! .. ثم من المستغرب ان الوردي لم يتعب نفسه لقراءة التاريخ ليعرف من هي الشخصيات الذي حاولت أن تلصق هذه الصفة بالشعب العراقي زورا وبهتانا ؟!.. فهل الوردي يجهل ام يتجاهل ان الآلة الاعلامية الأموية والحجاج ابن يوسف الثقفي الذين خرجوا من مدينة مكة والطائف في الجزيرة العربية، هم الذين حاولوا وصف الشعب العراقي بهذه الصفة لأسباب معروفة للجميع، وأولها والتي يحاول الإعلام عدم تسليط الضوء عليها تتلخص بالمثل القائل "رمتني بدائها وانسلت"، حيث أن بعض قبائل الجزيرة العربية تشعر بعقدة "صفة النفاق" التي التصقت بها، والتي أطلقها عليهم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، حيث كما هو معلوم أن "سورة المنافقين" تصف بعض قبائل الجزيرة العربية هناك ومن أبرزهم أسرة "بني أمية" الذين كانوا من "الطلقاء" ثم ارتدوا عن الإسلام بعد غزوة "حنين" في الطائف مدينة الحجاج ابن يوسف الثقفي عدو العراق والعراقيين.. فلا نعلم هل الدكتور الوردي يطلب منا أن نكذب القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ونصدقه هو والحجاج الأموي وزمرته الذين هدموا الكعبة المشرفة واستباحوا المدينةالمنورة وقتلوا اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعترته الشريفة؟! ..
يقول الوردي ان العراق بلد لا يتمتع بالاستقرار السياسي عبر التاريخ لأن شعبه شعب همجي ثائر، وهنا نعود لنحتكم للمنطق العقلي الذي يقول ان الحضارة لا يمكن ان تنشأ في بلد لا يتمتع شعبه بالانضباط ولا تتمتع أرضه بالاستقرار، وكما هو معلوم ان العراق هو أكثر منطقة نشأت بها حضارات عالمية، فكيف يكون شعبها شعبا فوضويا غير مستقر.. كما ان الدكتور الوردي من جهة أخرى نسي أو تناسى ان العراق يعتبر رأس الهرم لهذه الأمة حيث قالت العرب بضرس قاطع "العراق جمجمة العرب ورمح الاسلام"، وذلك بسبب موقعه الجغرافي المميز وعمقه الحضاري والعلمي وشكيمة شعبه وصلابته، فمن الطبيعي ان يكون العراق هو اول البلاد العربية والإسلامية التي تواجه هجمات الأعداء، وأن يكون هو المدافع الأول عن الأمة العربية والإسلامية، وبالتالي فالعراق والشعب العراقي كان دائما هو من يحمل عبئ الدفاع عن هذه الأمة ويتحمل الهزات المصاحبة لذلك، ولكنه ورغم كل هذا كان يستطيع دائما إعادة توازنه بسرعة لبناء الحضارات كما حصل في العصر الذهبي للاسلام في بغداد بالأمس القريب.
الحقيقة ومن خلال البحث العميق وجدنا ان علي الوردي لم يكن يصف الشعب العراقي بقدر ما كان يصف نفسه. فكما يبدو ان الوردي كان يحلل شخصيته هو، ثم إعتقد أو إفترض بعد ذلك أن كل العراقيين يشبهونه.. فنحن من خلال أطروحات الدكتور الوردي الحائرة والمتناقضة والمزدوجة والتي لم تكن منضبطة بأي قواعد بحث علمي، نكتشف انه هو من كان يتمتع بشخصية ازدواجية حائرة وغير منضبطة وفوضوية وليس الشعب العراقي الذي كل الشواهد التاريخية والحضارية والأدبية تثبت أنه عكس ذلك.
إن الكارثة الكبرى تحدث عندما تقع الشعوب في فخ "الصنمية"، بمعنى أن الشعوب تقع في شبه "تأليه" العلماء السابقين وتعتقد انهم لا يخطؤن ولا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، وبناء على ذلك تتوارث الأجيال الأخطاء التي وقع بها العلماء السابقين وذلك بسبب غياب النقد الموضوعي للأخطاء والتي أحيانا تكون واضحة وضوح الشمس، ولكن الناس تمتنع عن النقد بسبب حالة "الصنمية" او "التأليه المجازي"..
وفخ الصنمية هذا لا تقع فيه عامة الشعوب فقط، بل أحيانا حتى أكابر العلماء والفلاسفة يقعون بذلك الفخ، وعلى سبيل المثال لا الحصر "ابن رشد" نفسه وقع في فخ الصنمية مع استاذه "ارسطو" في نظرية "أزلية العالم مع الله سبحانه وتعالى"، حيث ذهب ابن رشد مع استاذه ارسطو بتأييد هذه النظرية ظنا منهما أنهما يدافعون عن "صفة القدرة لله عزوجل"، حيث ان ارسطو وابن رشد قالوا أن العالم أزلي مع الله تعالى لأن القول بغير ذلك يعني أن الله لم يكن قادرا على خلق العالم ثم بعد ذلك اصبح قادرا. ويقولون "هذا لا يجوز في حق الله عزوجل لأن صفاته أزلية وليست حادثة".. ورغم ان ارسطو وتلميذه ابن رشد حاولا الدفاع عن الذات الإلهية من النقص إلا أنهما وقعا في محضور آخر وهو "كيف يكون العالم أزلي مع الله رغم انه سبحانه هو خالق كل شيء".. وهنا نجد أن إنبهار ابن رشد باستاذه ارسطو جعله يغفل عن النقد الموضوعي البسيط والواضح للعيان خصوصا وان ابن رشد خلفيته اسلامية قرآنية. فالقران الكريم قد حل هذه المعضلة الفلسفية بكل بسهوله ومنطقيه، حيث أن الله سبحانه وتعالى كما وأن من صفاته "القدرة" فإنه عزوجل له صفة "الإرادة" أيضا، أي أنه يخلق العالم متى أراد هو لحكمةٍ هو يعلمها، وبهذا حل القرآن الكريم ببساطة تلك المعضلة الفلسفية التي حار بها ارسطو.. ونلاحظ هنا ان إفتتان ابن رشد باستاذه ارسطو جعله يغفل عن أبجديات القرآن الكريم التي حل هذه المعضلة الفلسفية بأبسط الطرق واعمقها بنفس الوقت.. لذلك فنحن هنا نذكر بأن أطروحات علي الوردي ما هي إلا آراء شخصية لا ترقى لمستوى الطرح العلمي، لذلك لا يجب ابداً التهيب او الخوف من نقده نقدا علمياً رصيناً.. مما يبهج النفس أني وجدت أطروحات راقية من شبابٍ عراقيٍ مثقف اخذوا على عاتقهم مهمة الرد على اطروحات علي الوردي بكل منهجية علمية وحياد، وكان أهمها ما قرأته في أطروحة سماحة الشيخ قيس الخزعلي في كتابه العلمي المنهجي (جدلية فرضيات الوردي وآرائه)، حيث استفدت من هذا الكتاب كثيرا وشجعني ذلك على فكرة النقد العلمي المتزن، واعتقد انه لابد ان تدرس مثل هذه الأطروحات في مناهج التعليم لإعادة الروح المعنوية للشعب العراقي ومعرفة ما يدور حوله.
أخيرا أود أن أذكر القارئ الكريم بحديثٍ شريف حيث قال الله عزوجل لإبراهيم عليه السلام عن أهل العراق "إني جعلت فيهم خزائن علمي ورحمتي وأسكنت الرحمة قلوبهم". هذا الحديث النبوي الشريف يظهر تكريم الله تعالى لأهل العراق ويبرز أهمية العلم والرحمة فيهم، ورغم ذلك يوجد هناك من يتعمد إخفائه عن الناس أو يحاول تضعيفه "سندا" رغم أن الحديث الشريف ينطبق على الواقع بكل تفاصيله، حيث أن جميع الحضارات التي نشرت العلوم التي تستفاد منها البشرية خرجت من العراق، ولا يوجد أمة رحمها عزوجل ورفع عنها العذاب بعد أن نزل الا أهل العراق حيث قال تعالى "فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ"، تصور عندما يستني الله عزوجل شعب العراق فقط من قاعدة ربانية، اي خصوصية خصها الله لهذا الشعب وأي كرامة؟!.. كما انه لا يوجد شعب زرع الله فيه الحمية والغيرة والفزعة والرحمة للمظلوم والمكروب والمحتاج كما هو في الشعب العراقي، حتى انه عُرِف بين شعوب المنطقة بشعب "الغيرة والحمية".. حفظ الله تعالى العراق واهله والأمة العربية والإسلامية وجميع الإنسانية.
https://telegram.me/buratha

