د.أمل الأسدي ||
لا شك أن الدين يهدف إلی خدمة الإنسان والسعي إلی رقيه وتحضره وحفظ كرامته، وبعيدا عن الخوض في الواقع بين النظرية والتطبيق، سنعالج الموضوع بالوقوف عند صور حفظ كرامة الإنسان في القرآن الكريم ثم في فكر الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام) وخطابه، وسننطلق من حياة
الفقراء وكرامتهم، فواقع الفقير مختلفٌ عن غيره، واقع عامرٌ بالكرامةِ والتوكل علی الله، واقع يرتدي عِزّةَ النفس، ويتنفّس التسليمَ لله، وقلبه ينبض أملا بالله ورزقه الواسع، وأبوابه المُفتّحة، واقع الفقراء الذين يعيشون برأسٍ عالٍ، ويدٍ مبسوطة، وابتسامةٍ ناضجة، فصباح الفقراء كظهيرتهم اللذيذة،إذ يعودون وبأيديهم بعض ما تحتاجه الأسرة من قوت، وكأنهم يحملون جنةً صغيرةً،لا بل كبيرة!!
فهم يحملون الحلال!!
وهولاء الفقراء تحدث عنهم الباري عزّ وجل قائلا:((لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)) فصوّرهم وصوّر وعيهم العالي، فهم لايطلبون حاجاتهم من مخلوقٍ ضعيف، ويتركون الخالق العظيم الذي خلقه وخلقهم!!
هولاء الفقراء الذين يتنفسون كرامةً، يظهرون دوما بحال الغني الميسور، ويحافظون علی ماء وجوههم، قد حفظ الله كرامتهم ورفع شأنهم حتی في الخطاب وسياقه الوارد في الآية، إذ حذف المبتدا( الصدقات) وأبقی متعلق الخبر، كي لا نقول ونردد :" الصدقات للفقراء" وحتی لاتصل كلمة" الصدقة" الی مسامعهم، فتؤذيهم وتكسر هيبتهم، وتسفح ماء وجوههم، وتبدد كرامتهم!!
وحتی يربينا القرآن علی العطاء من دون مَنٍّ ورياء، ويربينا علی ابتلاع أي كلمةٍ تجرح الإنسان وتنال من كرامته، وهذه التربية القرآنية تبني الذوق الإنساني، وتدعم الخُلق الرفيع، وتسعی الی تنظيم الحياة وإشاعة العدل من دون أن تُمَسَّ كرامة الفرد!!
ونجد مثل هذه التربية في فكر الإمام السجاد(ع) وخطابه، إذ اهتم بتنمية الذات، وتشجيعها، وتقوية أملها بالله تعالی، وحده لاشريك له، فهو الخالق وهو الفتاح الرزاق الكريم العليم، فنجده(ع) يقول:((اللَّهُمَّ، وَلِي إلَيكَ حَاجَةٌ قَـد قَصَّرَ عَنهَـا جُهدِي، وَتَقَطَّعَت دُونَهَا حِيَلِي، وَسَوَّلَت لِي نَفسِي رَفعَهَا إلَى مَن يَرفَعُ حَوَائِجَهُ إلَيكَ، وَلاَ يَستَغنِي فِي طَلِبَاتِهِ عَنكَ، وَهِيَ زَلَّةٌ مِن زَلَلِ الخَاطِئِينَ، وَعَثرَةٌ مِن عَثَراتِ المُذنِبِينَ، ثُمَّ انتَبَهتُ بِتَذكِيرِكَ لِي مِن غَفلَتِي وَنَهَضتُ بِتَوفِيقِكَ مِن زَلَّتِي، وَنَكَصتُ بِتَسـدِيدِكَ عَن عَثـرَتِي وَقُلتُ: سُبحَانَ رَبّي كَيفَ يَسأَلُ مُحتَاجٌ مُحتَاجـاً، وَأَنَّى يَرغَبُ مُعدِمٌ إلَى مُعدِم؟! فَقَصَدتُكَ يا إلهِي بِالرَّغبَةِ، وَأَوفَدتُ عَلَيكَ رَجَائِي بِالثِّقَةِ بِكَ، وَعَلِمتُ أَنَّ كَثِيرَ مَا أَسأَلُكَ يَسِيرٌ فِي وُجدِكَ، وَأَنَّ خَطِيرَ مَا أَستَوهِبُكَ حَقِيرٌ فِي وُسعِكَ، وَأَنَّ كَرَمَكَ لاَ يَضِيقُ عَن سُؤَالِ أحَدٍ، وَأَنَّ يَدَكَ بِالعَطايا أَعلَى مِن كُلِّ يَد...)
فيفتح بدعائه الباب لكل من ظنّ في لحظةٍ ما، أن حاجته بيد فلان من الناس، ليعود إلی ربه، الی الله تعالی، ثم يضاعف الإمامُ جرعةَ التربية، فيشكر الله الذي ذكّره وأعاده إلی رشده وأنقذه من عثرته وغفلته!! فحتی ذكرنا لله وشكرنا وتوبتنا تستدعي شكرا آخر عليها !! فلولا توفيق الله ما عدنا ولاذكرنا ولادعونا!!
ثم يوجه الإمامُ(ع) لنا صعقةَ أملٍ جديدة تعيد فينا النبض، وتمنحنا الاستمرار، متمثلةً في معرفةِ أن كلّ ما نحلم به، ونرجو تحققه، ونراه أمرا مُعجِزا وخطيرا، أن كل ذلك هو شأن يسير حقير بسيط بإزاء قدرة الخالق العظيم!! وماعلينا إلا أن نفعّل ثقتنا بربنا، ونتوكل عليه، ونتوجه إليه، ليفتح لنا أبواب خيره، ويبقينا علی قيد الفطرة السليمة، والذات المتزنة، التي لا تميل الی الإفراط فتتورم ويغتالها الوهم!!
ولا تميل إلی التفريط فتضعف وتهون وتبتلعها الدونية!!
فما أجمل هذه التربية!! وما أعظم قلوب الفقراء!
وما أعمق وعيهم!
ـــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha