د.أمل الأسدي ||
وكأني أسمع صوتها:
أماه، هذا الألم رهيب، يداي يشتعل فيهما الوجع، وجع التقييد، وجع التعليق!
أماه، ضميني إليكِ، ظهري تيبّس وازرق جلدي!
أماه، كيف يحتمل جسدي هذه" التوثية"؟
أماه، كتبوا عليها" البعث طريقنا" هل طريقهم تعذيب الأبرياء؟
أماه، يقولون: اعترفي!
بماذا أعترف؟ بدعاءٍ في وقت الغروب؟ بصلاةٍ خاشعةٍ لله؟ بزيارة؟ هل أعترف علی زيارة عاشوراء؟
أماه، أنا أحب بغداد، أحبها مع أنها مازالت أسيرة، حزينة!
أماه، أنا أحبكم جميعا، لماذا تفرقنا؟
أماه، ضاع عمري، عوضني الله بالشهادة!
لم يكن في بال( أمل عباس الربيعي)وهي الشابة الهادئة، المؤدبة، التي تفكر في كل كلمة تخرج من فمها؛ تخشی أن تمس أحدا أو تجرحه، لم يكن في بالها أن الدعاء جريمةٌ، والصلاة جريمة، والعفة جريمة، والتمسك بالهوية جريمة، لم يكن في بالها أنهم سيسرقون سني عمرها ويبعثرون أحلامها بمنتهی الوحشية!!
تعالوا معي، سأفتح لكم نافذةً تطل علی عام 1982
في هذا العام كانت هناك عائلة مؤمنة ملتزمة، تسكن الكرادة، وابنتهم الكبيرة أمل، كان عمرها(22) عاما، تخرجت من معهد الزراعة، وتمت خطبتها من المهندس صباح طابو المالكي، وتوظفت في مصنع تعليب كربلاء، وبدأت الدنيا تضحك لها، فهي تجهز لحياتها الجديدة مايلزم من ملابس ومفارش...الخ فتذهب مع العائلة وصديقتها الی شارع النهر، وتختار الألوان الفاتحة، وتفضل اللون الكريمي، ولا تعلم أن البعث يحب الألوان القاتمة، وأنه وحشٌ ينتظر ذروة الفرحة ليفترسهم!!
اعتقلوا خطيبها، واعتقلوا أمل وأختها سندس وأخاها وعمتها....تعرضت أمل إلی أشد أنواع التعذيب، ستة شهور من التعليق والفلقة والضرب بالكيبلات والعصي الخشبية والكهربائية...
اعترفي.. اعترفي..
بماذا تعترف؟!!
حتی حكموا عليها بالإعدام وحكموا علی أختها بالمؤبد
،نقلوها الی سجن الرشاد وبقيت كما هي، تحيط بها هالة النور الجاذبة، هادئة، مطمئنة، مسلِّمة..
وخطيبها المهندس قد حكموا عليه بالإعدام أيضا!
ثلاثة أشهر في سجن الرشاد، ثلاثة أشهر من العبادة والتبتل والاستعداد للرحيل!
حتی جاء يوم التنفيذ، ذهبت أمل مع فاطمة علي الحسيني، وعواطف الحمداني الی( أبي غريب)، في الطريق كانت أمل تودع بغداد وتتحدث إليها معاتبة، فبغداد حبيبتها!!
وصلن إلی السجن، أنزلوهن في قاعة كبيرة، يفصل يينهم وبين قاعة الرجال نافذة صغيرة، وكُنّ يسمعن دوي الرجال، الكل يقرأ القرآن ويصلي، ويقرأ زيارة عاشوراء، ثم بدأ الدوي يخفت تدريجيا، شيئا فشيئا، إنه مهرجان الإعدام الجماعي!!
كانت أمل تشاهد بعينيها الوجوه المتعبة، والأجساد النحيلة، تشاهد الأرواح المستعدة للرحيل الی عالمٍ يخلو من نجاسة البعث!! سحبوا الرجال مجموعةً مجموعة ... وحين انتهوا أخرجوا النساء وأخذوا الشهيدة العلوية فاطمة، بينما بقيت أمل وعواطف الحمداني...
بدأت أمل تقرأ ماكتبه الإخوة علی الجدران، عبارات توديع ووصايا ...ثم وقعت عيناها علی رسالة" هل من فاعل خير يقرأ رسالتي ويبلغ اهلي علی هذا الرقم(...) انهم سيعدمونني بعد دقائق"
صعقت أمل ولم تصدق مامكتوب!!
فالرقم؛ رقم خالها، والاسم؛ اسم خالها!!!
ثم سحبوا جثث الشهداء كأسراب نورٍ تجرّ خلفها أذيال السكينة!!
لحظاااات وإذا بها تری خالها يسحبونه جثةً هامدةً صادروا أيامها!! اشتعل قلبها وتبخرت حسراتها وجعا!!
قرر الجلاوزة إعادة أمل وعواطف الی سجن الرشاد، وها هي أمل تتحدث إلی بغداد من جديد: بغداد، هل حقا أراك من جديد؟
حبيبة الروح، ظننت أني لن أراك مجددا!!
وسرعان ما جاءت الرقيبة" سميرة ناصر" لتخبر الأخوات السجينات: "البنات رجعن من ابو غريب"
فركض الجميع نحو الباب فإذا بـ أمل وعواطف عادتا من دون فاطمة!!
جلست أمل وهي في حال ذهول لما رأته؛ جلست تقص علی السجينات ما رأته وما قرأته علی الجدران!!
إنه يوم الموت الأحمر...
وربما تكون عودتهما فسحةً للتزود للآخرة كما قالت أمل!
عشرون يوما يا أمل، وسترحلين من جديد، كانت تعرف أنها لن تعود هذه المرة، إذ قالت لأخواتها: هذه المرة سيقتلونني ولن أعود!!
اغتسلت غسل الشهادة، ولبست الكفن الأبيض، وقد كُتب عليه دعاء الجوشن الكبير، وحانت ساعة الوداع أو ساعة الراحة!
إنه وقت الضحی، نهاية عام 1982 وصلت الوردة المُحلِّقة أمل إلی( أبي غريب) تم إعدامها شنقا حتی الموت...سلموها إلی أهلها مع الصمت والتحذير، آثار الحبل علی رقبتها... في مشهدٍ يفجِّر الآهات!(١)
لكنّ الصراخ ممنوعٌ، والبكاء ممنوع، والأنفاس تحصی!!
رحلت أمل... وبقيت خلفها النداءات:
أمـــــاه، سلامي إلی بغداد...
أمـــــاه، متی موعد الشروق؟
أمــــاه، أختاه، متی موعد اللقاء؟(٢)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١- ينظر مذكرات سجــينة، فاطمة العراقي، علي العراقي:
٣٥٦- ٣٨٢.
٢- لمزيد من الاطلاع: مراجعة رواية عواطف وأمل، كمال السيد
ـــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha