د.أمل الأسدي ||
وددت أن أدعوكم إلی سياحةٍ روحية نبوية، لكنها ليست سياحة عامة؛ وإنما سياحة مرتبطة بالواقع الذي نعيشه، والأمراض التي يعاني منها الكثير من الناس؛ لذا سأنطلق من الواقع كمقدمات تؤدي إلی ضرورة العودة إلی الحديث الشريف ودعاء الرسول الأعظم وأهل بيته(صلوات الله عليهم)، إذ لم نكن ـ سابقاـ نسمع بالزهايمر وضمور خلايا الدماغ كثيرا ؛ لأن هذا المرض وغيره من الأمراض المشابهة، كانت حالات ولم تكن ظواهر منتشرة، ولكننا الآن نسمع ونری معاناة كبار السن، بل وحتی الشباب ولاسيما بعد جائحة كورونا!! إذ يفقدون ذاكرتهم ويعودون إلی الماضي، وينسون كل الأفعال التي تمكنهم من العيش والحياة الفاعلة بما في ذلك المشي والأكل والشرب!!
فيصبح الإنسان ثقيلا، محمولا علی أكتاف الآخرين، محتاجا إلی رعاية خاصة وتكاليف علاجية باهظة!!
ويبدو أن هناك علاقة طردية بين هذه الأمراض والوحدة والعزلة والتفكك الأسري وانشغال الناس بوسائل التواصل الاجتماعي، فكلما ازدادت وحدة الإنسان ولاسيما الوالدان، ازداد خطر تعرضهم لهذه الأمراض، وكلما تفككت الأسرة وابتعد الأبناء والأحفاد عن البيت الكبير وعن أجدادهم، ازداد خطر الإصابة بهذه الأمراض، وعلی هذا فإن مجتمعنا الآن يسير نحو التفكك وعزلة الأفراد بشكل مخيف، فوسائل التواصل الافتراضية غير المقننة تسرق جُلَّ الوقت، وتعزل الأبناء عن أهليهم، والمناهج التربوية التي تغيرت وأصبحت حملا ثقيلا ؛ باتت تعزل الأبناء عن أسرهم وتبعدهم عن العلاقات الأسرية والتواصل مع الأجداد والأقارب، ثم انتشار التيارات الفكرية المنحرفة التي تسير بالمجتمع نحو المادية الجامدة كالإلحاد والعدمية وغيرها، كل ذلك أدی إلی جفافٍ روحي، وجمودٍ في العواطف، وعزلة قاتلة، وصار معظم الناس ـ الآن ـ في دائرة الخطر، خطر الإصابة بهذه الأمراض، فتخيل أنك لا تتذكر ابنك ولا تتذكر اسمك ولاتتذكر منزلك، ولاتتذكر كيف تمشي وتتحرك، وتتحول إلی حجر ثقيل ملقی علی الأرض!!
وبناءً علی ذلك، عدت إلی المنابع الجارية، منابع الروح والرحمة، عدت إلی رسول الله وأهل بيته وأحاديثهم ودعواتهم؛ لأقف عند رؤية الرسول أو تناوله لموضوع التحكم بالحواس وقدرة الإنسان علی ذلك، فوجدت أحاديث مدهشةً وعميقةً من ذلك قول الرسول(صلی الله عليه وآله):((اللَّهُمَّ مَتِّعْنِي بِسَمْعِي، وَبَصَرِي، وَاجْعَلْهُمَا الْوَارِثَ مِنِّي، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ يَظْلِمُنِي، وَخُذْ مِنْهُ بِثَأْرِي))(١)
فنلاحظ دعاء الرسول وسؤاله الله بدوام التمتع بالسمع والبصر، ونلاحظ عبارة" واجعلهما الوارث مني" فهي عبارة مدهشة، واستعارة فريدة، فالرسول يريد أن يحل سمعه وبصره محل الوارث، وينزلا منزل الوارث لجميع قواه، يريد لهما البقاء علی قيد الحياة حتی مجيء الموت الحتمي!! وهذا عينه مانحتاجه لمواجهة الأمراض التي باتت تنتشر بشكل مخيف كما بيّنا في المقدمة!!
وقد ورد عنه أيضا (صلی الله عليه وآله) أنه كان يردد هذا الدعاء دوما: ((اللَّهُمَّ، اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ مَعَاصِيكَ ، وَ مِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ ، وَ مِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا ، وَ مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَ أَبْصَارِنَا وَ قُوَانَا مَا أَحْيَيْتَنَا ، وَ اجْعَلْهُ الْوَارِثَ منّا..))(٢) وهنا أيضا يدعو الرسول بالحياة المقترنة بالطاعة والخشية والثبات، حياة العافية والتمتع بالقوة والتحكم بالسمع والبصر حتی الموت وتحول الإنسان ليكون موروثا، ويكون الوارث منه هو فاعلية السمع والبصر والتمتع بهما!!
أيها المسلمون، عليكم العودة إلی حديث الرسول، العودة إلی قلبه الرؤوف المشفق، يجب أن تحفظوا هذا الدعاء، ويجب أن يردده الكبار والصغار، ويجب أن يُكتب ويعلق في كل منزل، كي يكون أمامنا دوما، فلا يوجد ألذ من التمتع بالسمع والبصر، فهما الإدراك، وهما الدليل علی العافية، تلك العافية التي من دونها يفقد الإنسان قيمته ومكانته وهيبته!!
ومثل دعاء الرسول(صلی الله عليه وآله) ما ورد عن الإمام الحسين(ع) في دعاء "عرفة" :((اللَّهُمَّ اجْعَلْ غِنَايَ فِي نَفْسِي ، وَ الْيَقِينَ فِي قَلْبِي ، وَ الْإِخْلَاصَ فِي عَمَلِي ، وَ النُّورَ فِي بَصَرِي ، وَ الْبَصِيرَةَ فِي دِينِي ، وَ مَتِّعْنِي بِجَوَارِحِي ، وَ اجْعَلْ سَمْعِي وَ بَصَرِي الْوَارِثَيْنِ مِنِّي ...))(٣) والجوارح هي الأعضاء الكاسبة، الفاعلة في جسد الإنسان، وهي سبعة: العين والأذن والفم واللسان واليد والرجل والفرج(٤).
فالإمام (ع) يسأل الله من بعد الطاعة واليقين والإخلاص في العبادة والثبات، يسأله التمتع بالجوارح، أي أنه يطلب فاعليتها التي تشكل مجتمعةً عافية الإنسان التامة المبنية علی سلامة القلب وخلوص النية، ثم يخص السمع والبصر بالبقاء والوراثة لسائر القوی والجوارح، وهذا يتناسب مع حال الموت وتوقف أعضاء الجسد مع بقاء بابي الإدراك والوعي(السمع والبصر).
ومن ذلك أيضا ما كان يدعو به الإمام الصادق(ع):
(( اللهم، اجعلني أخشاك كأني أراك، وأسعدني بتقواك، ولا تشقني، بنشطي لمعاصيك، وخر لي في قضائك. وبارك لي في قدرك؛ حتى لا أحب تأخير ما عجلت ولا تعجيل ما أخرت، واجعل غناي في نفسي، ومَتِّعْنِي بِسَمْعِي وَ بَصَرِي وَ اجْعَلْهُمَا الْوَارِثَيْنِ... ))(٥)
وبعد ذلك يا أحبة، علينا أن نعود إلی منابع الرحمة الخالدة(محمد وآل محمد) ونعتاد علی سبلهم ودعواتهم، ونردد كلماتهم، فهي تخرج بقصدية وهدف معين، فرسائلهم ليست كرسائل عامة البشر، فالرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله):((وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ۞
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ))(٦).
ــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha