د.أمل الأسدي ||
لم تكن الأمُّ في السيتينات كما هي الآن، كانت لصيقةً ببيتها وزوجها وأولادها حدّ الأنفاس، فلا فيسبوك ولا فضائيات ولابرامج تحرضها علی ترك بيتها، والترفع عن خدمة زوجها وأولادها!! كانت الأم تستلذ الحياة المنزلية، وتهوی(لمة الأهل)،ولم يكن في معجمها مفردات الملل، والمن، والضجر، والتكبر، والكراهية، والمنفعة، والمادة...الخ
وفي بغداد، وكرادتها الأنيقة، كانت البيوت عامرةً بقصص المحبة والاحترام، فمنذ الفجر تفوح رائحة الچاي المهيل والحطب، لتجتذب القلوب، وتبدأ حكايات الشمس المشرقة مع الجيران، وعند عتبة بيت الشيخ جاسم الشيخ محمد الأسدي، يجتمع الأحبة ليستمعوا إلی قصصه الحكيمة، وليستمتعوا بـ(استكان الچاي) ومنظر(القوري الفرفوري) والجمر، ثم ينصرف الجميع لأعمالهم قُبيل الساعة الثامنة، وتدخل السيدة النخلة(العلوية مريم) لتبدأ عملها المنزلي الذي تحبه، وبينما ينشغل البنات وزوجة الابن بأعمالهن حتی تفوح رائحة النظافة، وتشرق صورة البساطة المنظمة بدقة!! بينما يحدث ذلك؛ تكون العلوية قد عجنت العجين، وطبخت، وسينضج طعامها قريبا، ورائحة البامية والعنبر ملأت الغرف!!
وها هو العجين قد اختمر، وستخبزه الآن في تنورها الطيني، وتخبز معه محبتها وضحكتها، لتقدمها ساخنة لأولادها وزوجها!!
خبزت ونزلت ووجها الأبيض قد تشرّب بحمرةٍ ساحرة، ومع تعبها مازالت الابتسامة تعلو وجهها!! جلست ومدّدت رجليها وأخذت تجمع الخبز، وتتحدث إلی بناتها وتوصيهن:" يمة من أموت گولن:
فرشت عبايتها ونامت
ومن شافت الخطار گامت
وگولن: لاعلموني علی الگليل
ولاركبوا جدر الصغير
آنه مدللة ورباة خيّر
ومع كلمة " اسم الله عليچ، عمرچ طويل يمة" رُفع أذان الظهر، واقترب موعد عودة(الشيخ جاسم) من الحسينية... وما إن وصل أسرعت العلوية لتسكب الطعام بنفسها، ولابد أن يكون أول ماعون له، وأفضل قطع لحم وأكبرها له! هكذا تصنع العلوية في كل يوم، محبة واحتراما لرب الأسرة!!
جلسوا جميعا لتناول الطعام ، الذي بدا شهيا أكثر مع صوت الأب الحنون وكلامه الجميل، وحكمه الفريدة، ومثل كل يوم، يخرج الأب قطع اللحم ويضعها أمام زوجة ابنه وبناته، ومهما قالوا له: كل أنت فأطباقنا فيها لحم أيضا، لايسمع ولايرضی، فسعادته فيما يفعل!!
مع هذه اللمة وفي هذه الظهرية، يخدر الچاي، وتفوح رائحته، ويفوح معها عبقُ زمنٍ نقيٍّ، كله وجوه رحيمة!!
فالسلام علی أهلنا وطيبتهم، وفطرتهم ومحبتهم!
والسلام علی تلك الظهرية المليئة برضا الله وطاعته، المليئة بالأدب والذوق والحنان.
ــــــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha