د. أمل محمد الأسدي *||
*(أستاذة في جامعة بغداد)
حين نتحدث عن الأجناس الأدبية التي تتصدر المشهد الثقافي العربي عامة، والعراقي خاصة، نُشَخِّص تصدر الرواية كجنس أدبي وكنمط سرديِّ يستوعب كل مشكلات الحياة, ويهضم كل مسارتِها, ويواكب عجلة التطور السريعة، فهي الأقرب الى النفس البشرية, وتأثيرها هو الأكثر ديمومةًً من غيره من الأجناس الأدبية، وهي الأكثر متعة وتشويقا للمتلقي.
أود هنا التحدث عن رواية ( عروس الفرات ) لكاتبها ( علي المؤمن ) وهي رواية سياسية اجتماعية تاريخية، وكما هو معلوم أن السرد الروائي يقوم على مجموعة من العناصر التي يربطها الروائي ببعضها لتشكل النظام العلائقي السردي، ومن أهم هذه العناصر ( الشخصية).
والشخصية : هي العنصر المحوري في النظام السردي , وهي القطب الذي يقوم عليه الخطاب السردي، وتُعد العمود الفقري والركيزة الرئيسة في العمل الروائي. أما الشخصية من المنظور السيكولوجي فهي مجموع الاستعدادات والميول والداوفع والقوى الفطرية الموروثة، والصفات والاستعدادات والميول المكتسبة، وعليه فدراسة الشخصية وفق هذا المنظور تعني الاهتمام بتلك الصفات والاستعدادات، وتحليلها بالشكل الذي يجعل لكل شخصية صفاتها التي تميزها عن غيرها، والتي تؤثر تبعا لذلك في دورها المُعد لها في العمل الروائي، ولاننسى أن الروائي يجعلُ الدمَ يسري في أنحاء الجسد السردي عن طريق أنسنة تلك الشخصيات، بحيث يترك لها المجالَ والفضاءَ الحر للسير والتحرك داخل العالم السردي المحبوك, ولعل هذه الصفة هي الأبرز في رواية (عروس الفرات)؛ إذ ترك المؤمن المسرح السردي حرا طلقا من غير تقييد مما أدى الى سلاسة السرد وتلقائيته الممتعة.
وبناءً على ذلك يمكننا تتبعَ الشخصياتِ النسوية في الرواية و التي اهتم بها المؤلف وسعی إلی بيان أبعادها النفسية والفكرية وإبراز ملامحها الخارجية كذلك، بحسب أهمية دور الشخصية وحضورها في الرواية ،ومن هذه الشخصيات:
١-شخصية "حليمة" : فقد أظهر السارد صفاتها وهي صفات المرأة العراقية الأصيلة، فهي المرأة والأم الحنون التي تبذل مهجتها لأجل أولادها، وتسخر حياتها من أجل سعادة أسرتها, هذه الأم البسيطة الطيبة كانت ذكيةً وحدسُها متفوقا, ربما لأن الأم بقلبها تشعر بأولادها وتدرك الخطر المحيط بهم قبل وقوعه !!هذه الأم التي تعرضت لأقسى المواقف إذ شتتوا أسرتها، وغيبوا أولادها، وجردوها من الكرامة، وخلعوا حجابها، فجهوها بابنها (صلاح) وقتلوا ابنها وهو طفل في المرحلة المتوسطة أمام عينيها، لم يكن لها بعد ذلك إلا أن تفقد عقلها, وتبقى تعيش كجسدٍ خاو، رجلٌ في الدنيا، وأخرى في الآخرة، حتى تقطّع الألغامُ جسدها على الحدود العراقية الإيرانية إبان رحلة التسفير القهرية، لتحلق روحُها المُعذَّبة ملتحقةً بأولادها.
2- شخصية "شيماء" : الابنة الوحيدة الجميلة, رسم السارد شخصيتها وأظهر طباعها التي تجمع بين الأنوثة والطفولة ورجاحة العقل, فهي طالبة في كلية طب الكوفة، وعلاقتها بإخوتها علاقة صداقة ومحبة، اعتقلت أيضا مع عائلتها، وكانت قوية كنخلة شامخة، لم تلن ولم تتنازل، فهي من تلك الأسرة المؤمنة بقضيتها!! عذبوها وأهانوها ولم ينالوا منها، اتخذوها وسيلةً للضغط على والدها الذي كان يحاول إسكاتها خوفا عليها، ومن ثم لم يفلح فقد جردوا عنها ثيابها واغتصبوها أمام والدها وصراخها وصل الى عنان السماء !! فارق الوالد حياتَه على أثر ذلك واقتديت شيماء الى الإعدام وهي تنظر الى الأرض المليئة بالدماء، تحاور نفسها: هذه دماءُ من ياترى؟ بعد قليل ستنتعش هذه البقع بدميَ الجديد .
لقد صور لنا السارد حالتها النفسية وسماتها الداخلية، فهي قوية وثورية، لم تخف يوماً، شجاعة وصلبة، حتى لحظة الاعتداء عليها كانت تقاومهم!. كانت تشكو لوالدها من صعوبة الموقف، فقد ستر ظلام الليل عريها فكيف الحال إذا بزغ النهار؟! توقعت ما سيقومون به وبالفعل حدث!! وبقيت شامخة حتى أعدموها وتدلى رأسها وارتفع مقامها.
3- شخصية "ياسمين": شخصية نامية في الرواية , بدأت هادئة تحرص على سعادتها, تحاول الحفاظ على ولدها وحيدها. وظف السارد تقنية ( الاسترجاع ) ليجعل ياسمين هي المحور الفاعل من بعد أحمد، فهي التي أكملت تفاصيل الرواية, وهي التي تولت مهمة تتمة النظام العلائقي السردي، فهي التي شاهدت كلَّ عذابات الأسرة بعد غياب أحمد، شهدت مقتل ياسر، وحال عمتها( أم عادل ) إذ طاش عقلها من هول المصائب وعذابات عمها (أبو عادل) وثباته على عقيدته، والأفظع من ذلك أنهم قتلوا ابنها الصغير أمام عينيها، ورأته كالطائر المذبوح يستنجد بها!!
بدت شخصيتها مهزوزةً حين تعلق الأمر بابنها، توسلت بالضابط، قالت له: أقبُّل أقدامَك، دع ابني، سأعترف بما تريد، فقط اترك ولدي!! لكنها لم تفلح في الحفاظ عليه! فالمجرمون لايفرقون بين صغير وكبير فهم بلا ضمير !!
(ياسمين ) كانت تسمع صراخ ( شيماء) فتلوذ بعمتها ( أم عادل) التي لا تشعر بشيء من حولها!! وبعد إعدام شيماء , شهدت موت عمتها المسكينة باللغم الذي قطع جسدها, وهنا انهارت وأخذت تصرخ: هل هذا مصير امرأة ربت أولادها وتعبت كي تعيش معهم؟!!
واختتم السارد الرواية بحوارية بين أحمد وزوجته ياسمين، أحمد الذي بدا في تلك الآونة كبركان أخرس، يحاول كبتَ نيرانه، يحاول تكميمَ بئرِ صرخاته من هول ما سمع!! ثم تماسك وقال لزوجته: ((فداء للعقيدة ياحبيبتي، عبد الرزاق الموسوي سيبقى حياً بحفيده (علي )الذي سيولد من جديد!)).
لقد اختار السارد هذه النهاية التي تفتح الأفقَ لبدايةٍ جديدةٍ, فالحق حقٌّ, ودماء الشهداء تنبت وتنمو! (سيولد) السين: حرف الاستقبال للزمن القريب، مع الفعل المضارع المبني للمجهول، الذي يوحي بعظمة الجهة الواهبة للولادة وهي ( الله جل جلاله) وكلمة ( جديد) محملة بالدلالة الإيجابية والتحفيز.
ولايفوتنا أن نذكر أن (عروس الفرات) هو عنوان يُحيل المتلقي مباشرة إحالةً تأريخية متمثلة بـ ( عروس النيل ) تلك الأسطورة المصرية الراسخة في ذهن المتلقي العربي، إذ كانت تُزيَّن الفتاة كعروس وترمى في النيل كي يرضى عن الناس فيكفّ فيضانَه عنهم، والعامل المشترك هنا هو مفهوم التضحية ودفع الظلم، فكما كانت عروسُ النيل كبشا للتضحية والفداء بوجه الظلم، كانت عروسُ الفرات مفهوما للتضحية والفداء بوجه نظامٍ سياسي جائر، بدأ مسيرته بالقمع والقتل والتهميش والإقصاء.
إذن؛ قد تكون "عروس الفرات" هي ( شيماء ) تلك الضحية البهية وماتعرضت له من ظلم واعتداء !! أو ربما تكون "عروس الفرات" هي العائلة َ كلَّها ( عائلة عبد الرزاق الموسوي)؛ لأنها تعرضت للظلم والتنكيل والتهجير والقتل! أو تكون هي "ياسمين" التي استمر حضورها الی نهاية آخر مشهد في الرواية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للحصول على نسخة من الرواية (Pdf)، ادخل على الرابط التالي في تلغرام: https://t.me/alialmomen64
ــــــــــــ
https://telegram.me/buratha