د.أمل الأسدي ||
يحمل الإنسانُ وطنَه في داخله،فهو مخلوق طينيٌّ بكل ما تحمله هذه المفردة من تصور ذهني،وحضور في المخيلة،فقد قال تعالی:(( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ۞خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ۞يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ)) سورة الطارق،الآيات:٥-٧
فهنا يتحدث النص عن تكوين الإنسان،فهذا الماء الذي خُلق منه يتكون من مجموعة من المعادن والأحماض والبروتينات،وهذه المكونات تُنتَج بحسب دورة التفاعل الحياتي والتغذية ،أي أن الجسم يحتاج الی تغذية وطعام وشراب كي يقوم ويعيش وتكتمل بنيته، وهو بذلك يشرب من بيئته ويأكل منها،كما أكل والداه وشربا منها من قبل!! إذن هو يحمل ذرات تلك الأرض في داخله،فهي والماء الذي يجري فيها كونا طينته،فعُجن بها،وعُجنت به وتمازجا، ومن هنا صار لونه من لونها،وشكله من شكلها،وهذا ما يفسر اختلاف الأشكال بين الشعوب من حيث اللون والسحنة والتفاصيل و أغلب الصفات الاجتماعية والنفسية،فهي متوارثة جيلا بعد جيل،وعلی هذا يمكننا رصد خصائص الشعوب وتمييزها،وإذا ما تحدثنا عن العراق ،ذلك البلد الذي يمتلك رصيدا حضاريا فريدا من نوعه وعلی الأصعدة كافة،سنجد سمات تميز شعبه وبحسب مناطق سكناهم،فبلاد ما بين النهرين كانت منطلقا أولا لكل الأفعال الحضارية والإنسانية التي من شأنها أن تُمَدِّنَ الإنسان وتُحَضِّره،فهي أرض الشعر والتراتيل،وهي أرض التعددية الدينية.وهي أرض الكتابة والقوانيين،وهذه الصفات جعلت من سكان هذه المنطقة يتحلون بذكاء متقد،وشاعرية فذة،وفطرة متفردة،فلو تحدثنا عن( سرجون الأكادي) وإمبراطوريته وحكمه الذي دام قرابة قرن،كان قائما علی رؤية سياسية واعية اتكأت علی توحيد الآلهة وتوحيد الخطاب الذي مكّنه من قيادة دولته،وأوكل هذه المهمة الی ابنته (انهيدوانا) تلك الشاعرة الرائدة التي لعبت دورا ثقافيا داعما لأركان الدولة، وساندا لحكومة والدها،بطريقة ذكية إذ وحدّت الآلهة المحلية السومرية وجعلت لها تراتيل وصلوات مشتركة،وهذه التراتيل كانت حافزا ودافعا روحيا دائما للناس تجاه الحفاظ علی مملكتهم ومقاتلة المتمردين والمتربصين بها( يُنظر:انخيدوانا،شاعرة سومر،د.قاسم الأسدي:٣٢-٣٣
إذن سكان سومر يمتازون بالتفاعل مع الجوانب الروحية والدينية والطقوس العبادية، وكذلك هم شعب عاطفي سريع التأثر بالشعر والموسيقی والتراتيل،وهم أيضا يمتلكون روحا حضارية متمدنة،فمعابدهم وبخورهم وعطورهم وموسيقاهم وحقولهم ومواسم حصادهم كلها علامات تمدن واستقرار وحضارة،وكذلك هم بلد متعدد الآلهة ولا إشكال عنده في ذلك، فمن طبعه قبول الآخر والتعايش معه،كل هذه السمات والظواهر ورثها الأبناء عن الأجداد؛لذا حين تعرض العراق الی هجمة تنظيم داعش الإرهابي وصدرت فتوی الجهاد الكفائي بتأريخ 2014,3,13 من المرجع الأعلی السيد علي السيستاني (دام ظله) استجاب السومريون وهرعوا بكل فئاتهم العمرية لساحات القتال، فهم أبناء تلك الجدة السومرية،هم أبناء الحضارة فكيف يسمحون لشراذم رجعية تكفيرية أن تستبيح أراضيهم وتهتك أعراضهم وتحارب الإنسانية، فتقتل وتُمثِّل وتُهجِّر وتُفسد وتسرق وتُدمِّر هذه البقعة الحضارية؟!
هبّ الحشد السومري قائلا :لا
وهم بذلك يصطفون تحت راية موحدة،راية العراق الخفاقة التي ترعاها القلوب المُحبِّة لمحمد وآل محمد(صلوات الله عليهم) والتي رفعتها كف المرجعية الرشيدة!
فهبوا غير مبالين ولاخائفين، واضعين أرواحهم رهن إشارة الوطن،وهم بذلك يتماهون تماهيا تاما مع منظومتهم الدينية والعقدية،كما كان أجدادهم سابقا!!
إن الحشد الشعبي نشأ نشأةً تلقائية اضطرارية،فلم يكن تنظيما أو منظومةً عسكرية مُعَدَّا لها مسبقا، فهو رد فعل آني إنساني ضد من يهدد الأرض والعرض، وعلی ذلك لم يشهد وجود قوة ناعمة فاعلة في عمله الميداني،وإنما شهد فعاليات لوجستية داعمة ؛ولكنها تلقائية،بدافع الوحدة والمحبة والوطنية،فقد رأينا كرنفالات ملونة مدهشة، فهنا نساء يصنعن الطعام ويرسلنه،وهناك نساء يخبزن،وأسواق ومعارض تُقام لأيام وتجمع الأموال وترسل دعما للحشد،وهنا مهرجانات شعرية داعمة في الجامعات والكليات والمعاهد،وتضامن شعبي فاعل من قبل كل فئات المجتمع،حتی الطفولة كان لها دور بارز في الإنشاد والتغني ببطولات الحشد،وذلك نوع من العرفان والشكر والامتنان،ونوع من الاحتفاء والفخر بهذه البطولات العراقية،أما الآن وبعد أن ثبت الحشد الشعبي كقوة عسكريةفي منظومة الدولة،وبعد تغير المعادلات السياسية، وبعد الهجمات والاستهدافات التي يتعرض لها واقعا وميدانا وافتراضا،فقد صار لزاما علی هذه المؤسسة أن تهتم بموضوعة القوة الناعمة،فهي سلاح مُشهَر ضد الحشد،وعليه يجب ردعها بمثلها وأقوی،فإن خلت المنظومة الحشدية من القوة الناعمة؛لأنها تنظيم عسكري تلقائي كما قلنا،فلا يجب أن تغفل عن ذلك الآن!
ولاننسی أن كل التحديات التي تواجه الحشد تقوضها الحقيقة الواقعية ألا وهي :إنه قوة عسكرية ميدانية تحمي العراق وتحفظ كرامته وتصونها من أي اعتداء آنيٍّ أو مستقبليٍّ.
من كتاب
وأنبتنا الحشـــــــد_نباتا