قاسم ال ماضي ||
الهمهمه، هي الكلام البعيد غير المفهوم
في مستشفى:
السبب: إجراء عملية لأحد الأخوه.
كان الدكتور صديق قديم ولذلك بسبب تلك العلاقة جعلني انتظر في غرفة بين مقاعد الأنتظار العامة وبين غرفة العمليات، مكان اشبه بـبرزخ بين الصحة والمرض، أنتظر انتهاء العملية الجراحية.
ساد صمت مطبق .. استغرقت في تأمل ما أجمله... والهدوء في عالم الضجيج وكنت أسمع بين الحين والحين "همهمات" من غرف العمليات وكذا من الجانب الآخر، أي من مقاعد الأنتظار وقد شاح فكري بالذكريات، فتذكرت تلك الهمهمات التي كنت أسمعها حين كنت في زنزانات المخابرات أيام حكم الطاغيه صدام المقبور.
كنت أجهد نفسي في محاولة معرفة معنى لتلك الهمهمات التي كان مصدرها غرفة حرس السجن، .. كنت أحاول فك شفرة تلك الهمهمات لكي أحصل ولو على معلومة، أحاول أن أُركّب ما تقطع من الحروف الباقية غير المسموعة أو أن اتخلل ببقايا كلمة اوماوصل منها حرف وحرف آخر خمنتها، أي شيء عن الدينا خارج هذا القفص الأحمر، أحمر الجدران، وأحمر الضوء وحتى ما نرتديه كان أحمر .. يا لجبروت الإنسان حين يطغى على إنسان.
همهمات لا إنتاج فيها ولا شيء مفهوم ولا شيء واضح أو ربما كان من أجل رشوة أو طعام سُرق من ذوي السجناء أو ربما كانوا يتبادلون المزاح الساخر عن حالنا فَهُم لا يشعرون بـآلامنا .. أو يسخرون منها ومن قضيتنا أو لعلهم يقولون لِمَ نتحمل كل هذا الألم و التعذيب من أجل كلام عن الحرية أو العقيدة أو حق في التعبير عن كل ما حرمنا منه أيام الزمن الهزيل الذي يسميه المنافقين "الزمن الجميل".
ثم قفز فكري إلى حالنا اليوم، فقلت: ياله من شبه؟! أترى صدفة ام هلاوس وهواجس أو ربما استوحى قادة البلد وساسته تلك الفترة أو من حراس سجون بلادنا فأصبحوا يهمهمون دون كلام مفهوم فلا أحد منهم يفهم الآخر ولا نحن نفهم ما يهمهمون.
أظن إنهم لا يتحدثون، فقط يهمهمون ولو تحدثوا لفهم أحدهم الآخر... وقد يكون نفس الموضوع، حراس زنزانتنا عن لقمة سرقت أو عن سخرية بهذا الشعب ومطالبهِ أو رشاوى بيع المناصب والضمائر والقضايا أو عن شيء لا نفهمهُ، واعتقد إنهم أيضاً لا يفهمون الـ"همهمه" فلا نتاج فيها ولا منهاج ولا شيء مفهوم.
فاستبشرت خيرًا رغم كل هذا البؤس ذلك فإنهم كما رحل الطاغية وحرسه .. فهم راحلون، كما لعن الطاغية وزمانه وجلاوزته فإنهم ملعونون .. واننا باقون حتى اذا صرنا شواهد قبور، المهم انهم راحلون...