بقلم / المرحوم المهندس الإستشاري رضا صاحب المؤمن
· من مذكرات المرحوم المهندس الإستشاري السيد رضا المؤمن
(1)
كنت أخرج عن صمتي بين حين وآخر خلال لقاءاتي مع الموظفين الذين كنت أعتبر البعض منهم ثقات فأتجرأ وأنتقد الوضع السياسي بالإشارات تارة والتصريحات تارة أخرى مطمئناً بأن أحاديثي لن تصل خارج جدران غرفتي في إدارة معمل طابوق الديوانية حديث الإنشاء آنذاك، حتى أنني تحدثت عن رغبتي بأن ألبس ولدي أحمد (3 سنوات حينها) عمامة السيد الخميني "رض" بإسلوب الطرفة البريئة .
(2)
لكن يبدو أن بعض الموظفين الفاسدين كانوا يتربصون على حركاتي وسكناتي بل حتى على أنفاسي على أمل أن يصدر مني ما يُمكن أن يُستخدم ضدي لدى أجهزة القمع البعثية من أمن ومُخابرات وما شابه، كل ذلك لأني كنت أمثل بالنسبة لهُم حَجَر عَثرة أمام أطماعهم في إستغلال مَنصبي وصلاحياتي لتمرير صفقاتهم الفاسدة في بيع الطابوق والأرباح غير القانونية التي كانوا يُريدون تحقيقها دون جدوى بسبب عدم إستجابتي لأطماعهم . حينها وجدوا ضالتهم من خلال تكليف موظفة بعثية مكلفة من الأمن بتسجيل ما يدور من كلام لي خلال إجتماعات العمل . فقامت بتسجيل كلام مُجتزأ لي أقول فيه : (إن شاء الله سألبس ولدي "أحمد" عمامة الخميني ...)، وكذلك قامت هذه البعثية بسرقة قصاصات بخط يدي عليها رسومات وكتابات عشوائية كنت أسعى خلالها أن أشرح تفاصيل العمل الهندسي للمهندسين والفنيين في إدارة المعمل .
(3)
بعد أيام قلائل وتحديداً صباح يوم الجمعة 3 آب 1983م طُرق باب منزلي في حي الغدير في النجف آنذاك وما أن فتحته حتى وجدت مجموعة رجال بزي مدني خلفهم سيارة نوع لاندكروز مُظللة تستخدمها أجهزة الأمن وحزب البعث عادة وهُم يطلبون مني بلهجة رسمية : أستاذ نريدك أن تأتي معنا الآن لأمر هام يخص العمل .
ولأنني أعرف الأساليب البعثية المجرمة في تغييب وإعدام وإعتقال من يستهدفونه فإنني أحسست أنها ساعة الوداع بلا شك ولا ريب فطلبت منهم إمهالي دقائق لأرتدي ملابسي، حينها لم أخبر زوجتي بالأمر وإكتفيت بتوصيتها على أبنائي (أحمد) و(مقبل) وأنني سأذهب للعمل في أمر طاريء .
خلال الطريق تزاحمت وتسارعت الأفكار في رأسي عن سبب الإعتقال خصوصاً وأنني لم أتصرف مؤخراً أي تصرف يستفز البعثيين والأجهزة القمعية لأني كنت حذراً منهُم بشدة، توقعت أن يكون السبب هو قرابتي من نسيبي الخطيب الحسيني العلامة السيد جابر أغائي رحمه الله المقيم في الكويت آنذاك والذي غادر العراق مطلع عام 1980 وهو شخصية كانت لها مواقف بارزة ضد النظام البعثي، ثم توقعت أن يكون سبب إعتقالي قرابتي من أبناء عمومتي الذين تم إعتقالهم وإعدامهم دون أن يُعرف مكان قبورهم أو حتى أن يكون السبب وجود أقارب لي في إيران وهو أمر كان يعتبر جريمة كبرى ومؤشر خطير .
بعدها إنطلقت بنا السيارة لنصل إلى مُديرية أمن كربلاء وتبدأ بعدها طريقة التعامل معي بالتغير كما توقعت وبعدها أركبوني سيارة أخرى مُباشرة إلى ما يُسمى بمقر الحاكمية (المخابرات) في بغداد والتي ما أن وصلنا إلى بوابتها حتى ألبسوني عصابة على عيوني لمنعي من رؤية الطريق المؤدي إلى أقسامها وغرفها .
(4)
وعند نزولي في الحاكمية إقتادوني إلى إحدى الغرف في أحد طوابق بنايتها وكنت أسمع خلال المسير فيها ممراتها وأنا مُعصب العينين أصوات صرخات وأنين التعذيب بشكل واضح، وبعد وصولي إلى غرفة صغيرة لا تتجاوز مساحتها أكثر من 4 × 4 متر مربع رفعوا العصابة عن عيني فرأيت ثلاث أشخاص يجلسون على ميز أمامه كرسي مُعد لي .
جلست فبدأ أول شخص منهُم بسؤالي عن إسمي وعن عائلتي بإسلوب ناعم وكأنه كان يريد التهيؤ لأسئلة أخرى، وفعلاً .. لم يدم الأمر إلا لحظات ليبدأ الشخص الثاني الرئيسي الجالس بجانبه بسرد مجموعة من الإتهامات منها :
ـ أنك تعمل وتخطط ضد الحزب والثورة !
ـ أنك تخطط لأعمال تخريبية تضر بالثورة ومسيرتها العظيمة !
ـ أنك تريد تجنيد العراقيين لصالح الخميني الدجال (بحسب تعبيرهم) !
ورغم أني أنكرت هذه الإتهامات وأبديت إستغرابي منها إلا أن ذلك جعل هؤلاء المحققون ينقلبون بسرعة إلى هيأة وحوش حيث تغيرت وجوههم وأصواتهم وهُم يصيحون عليّ ويُسمعونني أقذع الشتائم ويطلبون مني الإعتراف ثم لم يستمر الأمر سوى لحظات لينقضّوا عليّ جميعهم بالضرب من كل الجهات بقبضات أيديهم والركلات على جميع أنحاء جسمي وكان أقساهم ذاك الذي كان يحمل عصا (صوندة) بلاستيك ثقيلة الوزن مُخصصة لأغراض التعذيب فأخذ يضربني بها على ظهري ومن شدة الآلام وضعت يدي اليمنى على مكان الألم في ظهري فإذا باللعين يضربني ضربة شديدة على أصابع يدي اليمنى أدت إلى كسر دائم (إلى اليوم) في الإصبع الخنصر والبنصر عجز معه الأطباء لاحقاً عن إصلاح آثاره وبقيت أتلوّى بشدة من ألمها وآلام ظهري مُتناسياً بقية آلام الأنحاء الأخرى من جسدي .
وهكذا إستمروا بالتناوب في ضربي وتعذيبي مع سيل هائل من الشتائم البذيئة العجيبة ولمدة طويلة .
وعندما يأسوا من الحصول مني على إعتراف بإتهاماتهم الباطلة قرروا لاحقاً أن يُجربوا نوع آخر من الأساليب النفسية عندما سألني أحدهم ماذا لو واجهناك بأدلة دامغة تثبت تورطك وبخط يدك ؟
لم أفكر طويلاً وأنا أجيبهم بأن ذلك مُستحيل . وفوراً أخرج هذا المجرم أوراق قصاصات إنتبهت إلى أنها بخط يدي فعلاً وهي قصاصات أحد الإجتماعات التي كُنت أشرح فيها آلية العمل الهندسي في المعمل للمهندسين والفنيين فقلت له فوراً : إنها لي وبخطي ..
فقال هذا المُحقق المُجرم مُستغرباً : وها أنت ذا تعترف بكُل صلافة بأنها لك !! .. هيا أكمل يا....
قلت له : إنها قصاصات وَرَق كتبت فيها شروحات هندسية لمُهندسي المعمل عن آلية عمل المعمل بيّنت فيها أن الطاقة الإنتاجية للمعمل لا تتحمل إنتاج أكثر من الكميات التي صُنعت على أساسها مكائن وآليات المعمل، وكُنت قد رَسَمت رسومات توضيحية لتبسيط الفكرة إلى المهندسين والفنيين قليلي الخبرة أو الفهم وَشَبّهت لهُم الطاقة الإنتاجية للمَعمل بأنها مثل قدر طعام يكفي لطبخ ثلاثة قطع من أكلة (الكُبة) لا أكثر، ويبدو أن هذا الأمر قد حاول البعثيين في المعمل إستخدامه ضدي بكتابة تقرير مُدعم بهذه القصاصات والرسومات مع إتهام بأني أحاول عرقلة مسيرة الحزب والثورة برفضي زيادة الطاقة الإنتاجية للمعمل !!!
وإستمررت بالشرح للمُحقق المجرم بإسهاب إلى درجة نَسيت فيها آلامي الشّديدة والدماء التي كانت تنزف من فمي وَوَجهي وظهري وَيَدي .. إلى الحد الذي أحسَستُ فيه أن المُحقق رَغم وَحشيته قد إقتنع بصدق كلامي ودقة شرحي للحالة وأحسّ بأن الأمر لا يتجاوز أكثر من مكيدة من رفاقه البعثيين الأرجاس في المعمل لإزاحتي من منصبي لتخلو لهُم الساحة لتنفيذ نواياهم الفاسدة .
حينها بدأت اللهجة الوحشية لهذا المحقق الرئيسي المجرم بالتبدل فقدم لي كأس من الماء ولكني لم أشرب منه رغم عَطشي الشديد خشية أن يكونوا قد دَسّوا فيه السم لقتلي كما فعلوا مع المئات من العراقيين، حينها أحس المحقق بخشيتي هذه فقام بشرب القليل منه وهو يقول : لا تخف، ليس مسموماً، فشربته .
ثم سألني عن تهمة مُحاولة تجنيدي لإبني ليكون عميلاً للسيّد الخميني وإلباسه عمامة الخميني (الدجال بإصطلاحهم) مُستدلاً بتسجيل صوتي لي قام جواسيس الأمن بتسجيله لي، فقلت له : كيف تعقل ذلك وإبني لم يتجاوز الثلاث سنوات والثاني لا يتجاوز الشهرين ! الموضوع ليس أكثر من مُزحة . فشعرت بأستغرابه عندما قلت لهُ بأن ولدي لا يتجاوز عمره ثلاث سنوات .
(5)
شيئاً فشيئاً بدأ إسلوبهم في التحقيق يتغير حتى وصلت اللحظة التي قرروا فيها الإفراج عني، ومن شدة فرحتي لم أبالي ولم أنتبه لما أنا عليه من دماء التعذيب والملابس الممزقة فقررت الخروج فوراً، فما كان من هذا المحقق المجرم إلا أن يضحك مُستهزءً بحالي قائلاً : (إنته من كُل عقلك تريد تطلع وترجع وإنته هيج حالك) ؟؟!
ثم أردف قائلاً : هل لديك أحد من أقرباءك في بغداد ؟
أجبته : نعم في الوزيرية، ولم أخبره أنهُ شقيقي المرحوم (علي) خوفاً عليه من أن يصلوا إليه خصوصاً وأنهُ كان يشغل أيضاً وظيفة مُهمة وحساسة في البنك المركزي العراقي آنذاك .
قال : سنوصلك إلى قريبك، بعدها نأخذ لك إجازة من محافظ النجف لمدة لحين شفاءك مما أنت فيه الآن، وإذا علمنا بأنك تحدثت مع أي أحد بما جرى لك فستكون نهايتك .. مفهوم ؟
وفعلاً قاموا بإيصالي إلى الوزيرية ولكني نزلت في فرع بعيد عن سكن أخي خشية أن يكونوا يراقبوني ويورطوا أخي معي . وَوَصلت بعدها إلى بيته ليُعيدني إلى النجف وَهُناك إتصلت بأطباء صينيين كانوا يعملون كفنيين في المعمل جاؤوا لي إلى البيت وأجروا لي علاجات مؤقتة لأصابع يدي المكسورة وللكدمات المتورّمة على ظهري بأساليب الطب الصيني التي نَفَعتني كثيراً خصوصاً وأنني لم أستطع الذهاب لأي عيادة طبية أو طبيب خشية أن ينكشف ما جرى لي وهو ما تم تحذيري منهُ بشدة عقب إنتهاء حفلة التعذيب .
إنتقلت للعيش مؤقتاً بعدها مع المرحومين والدي ووالدتي في بيتهم في مركز النجف بمحلة البراق لحين إختفاء آثار التعذيب، ويوم دخلت على أهلي لفت إنتباهي بكاءهم فرحاً لمُعجزة نجاتي من مخالب وحوش صدام إلا أن والدتي رحمها الله كانت رابطة الجأش ولاحقاً أخبرتني أنها كانت مُطمئنة تماماً من نجاتي وخروجي لأن الإمام مُحمّد الباقر "عليه السلام" كان قد جاءها في عالم الرؤيا وأخبرها بأن ولدك سينجو ويعود .
https://telegram.me/buratha