عباس سرحان ||
ليست المرة الأولى التي تجرى فيها انتخابات في العراق، إنما الانتخابات النيابية الاخيرة التي جرت قبل ايام تعد الخامسة في سلسلة الانتخابات العامة، لكنها الأكثر من حيث كمية التشكيك والطعون والاثارة.
ففي سنوات خلت وعلى الرغم من الظروف الامنية غير المواتية كانت نسبة المشاركة أكبر ومستويات القناعة بنزاهة الانتخابات أوسع ووتيرة التشكيك أقل، أللهم إلا في انتخابات 2018.
في انتخابات 2018 بدأت العملية السياسية في العراق وتحديدا الانتخابات تنحى منحى مختلفا، ففي تلك السنة تمكنت اطراف فاعلة من تدشين أول عملية تزوير تم رصدها رقابيا واعلاميا وسياسيا، وعلى دوي صوت الفضيحة لجأت الجهة المزورة الى احراق صناديق الانتخابات لمحو آثار الجريمة.
لم تكن أوضاع العراق الداخلية وقتها تسمح بالمضي في عملية التصعيد ضد تزوير الانتخابات من قبل الجهات المتضررة، فقد كانت البلاد تخوض حربا ضروسا ضد تنظيم داعش، فغض الجميع الطرف عن تلك الفضيحة، بينما فرك الطرف المزور كفّيه فرحا وصفّق واستدار بمرح وهو يجني ثمار عملية التزوير التي قام بها.
نجحت عملية التزوير في ايصال جهات تمكنت لاحقا من التحكم بالمشهد السياسي العراقي، ومنذ 2018 ولغاية 2021 حدثت سيناريوهات معدّة بعناية فائقة لابتلاع الدولة العراقية بشكل تدريجي وحملت تلك السيناريوهات ملامح مخططات خارجية واضحة.
لكن الانتخابات النيابية الاخيرة تختلف عن كل ما سبقها من حيث كونها الأكثر إثارة لكم هائل من التساؤلات والتشكيك، فقبيل الانتخابات تداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي تسجيلا صوتيا مسربا قيل انه لأحد مستشاري رئيس الوزارء مصطفى الكاظمي تحدث فيه عن مخطط لتفتيت الكتل السياسية الكبيرة.
ثم جاءت نتائج الانتخابات لتؤكد ما ذهب اليه صاحب التسجيل، وكأنه تحدث عن خطة موضوعة بعناية لتوجيه النتائج بشكل مغاير للمسار الحقيقي لاصوات الناخبين، والمفارقة أن صاحب التسجيل شغل لسنوات شبكة معنية بمراقبة الانتخابات ورصد عمليات التزوير.
المشكلة ان نتائج الانتخابات خالفت كل تقارير رصد اتجاهات الرأي العام العراقي والتي اجريت من مراكز محايدة، كما انها خالفت بشكل واضح المزاج السياسي للشارع الذي كشف عن نفسه بوضوح من خلال موجة امتعاض واضحة من الكتل السياسية التي حكمت العراق بعد 2014.
ومع ذلك جاءت نتائج الانتخابات لتمنح الاطراف التي كانت مثار انتقاد الشارع نسبة اعلى من المقاعد، بينما خسرت كتل مهمة كامل مقاعدها وكأنها لا تملك جمهورا، مع أن لديها تنظيمات سياسية واضحة.
هذه المفارقة الغريبة جعلت الانتخابات والمفوضية وكل الجهات ذات العلاقة أمام تحد كبير، كما وضعت العملية السياسية في العراق في مهبّ الريح، فإذا لم تتمكن المفوضية والحكومة والقضاء والمحكمة الاتحادية من اتخاذ موقف يبدد الشكوك لدى آلاف المعتصمين ومن خلفهم من الجمهور، فإن آخر ما تبقى من رصيد الثقة بالعملية السياسية قد تلاشى الى غير رجعة.
ولعل أهم خطوة يمكن أن تقوم بها المفوضية هي إعادة العد والفرز يدويا وبحضور مراقبي الكيانات وممثلي وسائل الاعلام، هذا اذا افترضنا ان صناديق الانتخابات ما زالت الى الان في أماكن بعيدة عن العبث ولم تطرأ عليها عملية تغيير.
وبخلاف ذلك فإن الامور تسير كما هو واضح نحو التصعيد، فجمهور الكتل السياسية "المستبعدة" من المشهد السياسي مصر على إعادة العد والفرز اليدوي، وقد يطالب لاحقاً بإلغاء نتائج الانتخابات وإعادة إجرائها في ظروف مختلفة.
ولتجنيب البلاد مخاطر الانزلاق نحو الفوضى يتعين على المفوضية اتخاذ موقف عاجل بالقبول بإعادة الفرز والعد اليدوي، ودون مناكفات، لأن القضية ليست شخصية ولا هي عابرة، بل تمس صميم العملية السياسية برمتها.
فإذا لم تتمكن المفوضية من إقناع هذا الجمهور الواسع المعترض على نتائج الانتخابات والمشكك بنزاهتها، فإن المضي بإقرار هذه النتائج سيطيح بالعملية السياسية في العراق بشكل تام، ويجد المبررات المقنعة لدى شريحة واسعة من المواطنين لمقاطعتها مستقبلا.
هذا فضلا عما تنطوي عليه هذه اللحظة الحساسة من مخاطر قد تصيب السلم المجتمعي بمقتل وتزيد من الانقسامات داخل المجتمع. لكل هذه الاسباب يتعين على المفوضية اتخاذ قرار شجاع مسؤول وان تقبل بمطالب المحتجين.
ـــــ
https://telegram.me/buratha