علي أبو محمد - لبنان ||
تدرك الإدارة الأميركية فعلاً أن بقاءها في العراق يعني بقاء الاستنزاف البعيد المدى مع تعاظم التهديد في أماكن أخرى.
قدِمت الولايات المتحدة الأميركية إلى العراق حاملةً مشروع "تغيير النظام الدكتاتوري ونشر الديمقراطية فيه"، ثم تحول هذا المشروع إلى مكافحة الإرهاب حين غرق العراق في بحرٍ من الدم. بعد ذلك، أخذت استراتيجية مكافحة التمرد مكانها في مقاربة السياسة الأميركية في العراق. أما الآن، فإنها تضطلع بـ"مهمة محاربة تنظيم داعش" واحتواء إيران على السواء.
هذه المهمة بطبيعتها مفتوحة، ما أدى بطبيعة الأمر إلى أن تخوض الولايات المتحدة ما تسميه الأدبيات الأميركية بـ"الحروب الأبدية"، والتي أعلنت الإدارة الأميركية الجديدة أكثر من مرة على لسان مسؤوليها أنها تريد إنهاءها. هنا، لا بد من طرح السؤال الذي سنحاول الإجابة عنه في هذا المقال: ما مدى نجاعة السياسة الأميركية في العراق بالنسبة إلى التكاليف التي بذلتها وتبذلها؟ وهل تندرج هذه السياسة ضمن دائرة الممكن بحسب مسار المنطقة؟
في المشهد العراقي
يمكن القول إن إعادة التموضع الأميركي في الساحة العراقية بعد بلوغ التصعيد ذروته، باغتيال قائد "قوة القدس" قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، كان عند استلام الكاظمي الحكومة العراقية، إذ رأت الإدارة الأميركية فيه الشخص الذي يحقق الكثير من المصالح الأميركية في سياسته تجاه الحشد الشعبي وإيران.
هذا الأمر أدى إلى أن تدفع الولايات المتحدة الأميركية لاعبين آخرين إلى الواجهة في الساحة العراقية، إما لتنفيذ سياستها (زيادة عدد الناتو وتغيير بعض المهام لها)، وإما لتحقيق سياستها، ولو بطريقة غير مباشرة (الكرد، الكاظمي)، وتنفيس أي احتقان في الداخل العراقي عبر الحوار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن.
في المقلب الآخر، يظهر أنّ الفصائل المقاومة أدركت أن ما يقوم به الناتو عبر زيادة عديده من 500 جندي إلى 4 آلاف وتوسعة مهامه هما مناورة يمكن أن تستفيد منهما الولايات المتحدة الأميركية للبقاء في العراق والقيام بما تريده تحت غطاء الناتو واسمه.
نفى مستشار الأمن الوطني العراقي قاسم الأعرجي أن تكون بلاده قد اتفقت مع حلف شمال الأطلسي على زيادة أعداد مدربيه في العراق، وهو ما اعتبره بعض المراقبين تعبيراً عن وجهة نظر الحشد الشعبي والفصائل المقاومة، لكون الأعرجي محسوباً على منظمة "بدر"؛ إحدى القوى الأساسية في الحشد الشعبي وصوته في البرلمان العراقي.
في السياق نفسه، لم تتراجع العمليات العسكرية من قبل فصائل المقاومة العراقية، فقد تم استهداف الأرتال اللوجستية أكثر من 50 مرة بين شهر شباط/فبراير وآذار/مارس، واستهداف القوات الأميركية أكثر من 24 مرة، ما بين هجوم صاروخي وهجمات بالمسيّرات خلال الأشهر الخمسة الماضية.
الولايات المتّحدة بين الكلفة والمخاطر
في محاضرةٍ ألقاها قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكينزي لمركز الإمارات للدراسات والبحوث في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، أكَّد أن الضرورات التي توجب بقاء القوات الأميركية في العراق هي "الخطر الإيراني، والتهديدات الإرهابية، وحماية حركة النفط العالمية في منطقة المتوسّط".
لا شكّ في أنَّ هذه العناوين عامةٌ جداً، ويندرج تحتها الكثير من التفاصيل التي تهم الإدارة الأميركية، لكننا سنناقش مدى فعالية بقاء القوات الأميركية بالنسبة إلى الأسباب الّتي طرحها ماكينزي، إضافةً إلى بعض الإشارات حول الكلفة التي تتحملها الإدارة الأميركية.
"الخطر" الإيراني
في تثقيل النتائج التي يطرحها ماكينزي، نرى أن الهاجس الأساس الذي تراه الولايات المتحدة الأميركية الأخطر هو حركة التحرر العراقية التي تسمّيها الولايات المتحدة الأميركية "الامتداد الإيراني في العراق"، وتعاظم قوة الفصائل المقاومة ما بعد هزيمة "داعش"، وتموضع الحشد الشعبي كقوة رسمية تتبع القائد العام للقوات المسلحة وتأخذ ميزانيتها من الحكومة العراقية. في مناقشة هذا الطرح، يمكن القول إنَّ امتداد الجمهورية الإسلامية في العراق لا يمكن احتواؤه أو لا يمكن، كما عبّرت بعض الدراسات، "منع ملء الفراغ من قبل الإيرانيين"، ذلك أن مداخل التأثير الإيرانية في العراق متعددة، وهي:
1- العمق الديني بين البلدين والارتباط بينهما، وخصوصاً في المناسبات الدينية الكبرى. ويعمل مرشد الجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي على تأكيد التلاحم بين البلدين في أكثر من مناسبة.
2- تبلور دور فصائل المقاومة العراقية تجاه قضايا المنطقة، والتي تشكل حلقة وصل أساسية ضمن محور المقاومة، وهو ما يمكن ملاحظته في مؤشرات عديدة، مثل تصريح حركة "النجباء" بأن أفرادها "قادرون على الوصول إلى أبعد نقطة في فلسطين"، وإعلان "حزب الله" بأنه سيكون "جزءاً من المعادلة الإقليمية لحماية القدس والمسجد الأقصى".
3- المصالح المشتركة العميقة ما بين العراق وإيران، إن كان على المستوى الاقتصادي أو على المستوى السياسي، وعدم إمكانية فكّ الارتباط بينهما على المستوى الشعبي، وخصوصاً مع قدوم رئيسي. هذا الأمر اختصره عادل عبد المهدي في جملته المعهودة التي كان يرددها دائماً أمام ديفيد شينكر: "إيران جارتنا، وأنتم (أي الولايات المتحدة الأميركية) أصدقاؤنا".
إن إيران بالنسبة إلى العراق حالة يقينية وثابتة أكثر من الولايات المتحدة الأميركية القادمة من أقاصي الأرض إلى المنطقة. لذا، قد يرى المراقب أن مقدرة تمتين العلاقة، على المستوى الشعبي في العراق، ستكون من حظوظ إيران أكثر، وخصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مسار الولايات المتحدة الأميركيّة لتعويم بعض اللاعبين في منطقة الشرق الأوسط للاهتمام بقضايا المنطقة، بسبب التوجّه إلى الاهتمام بأولويات أخرى على مستوى الساحة الدولية. لذا، قد يرى العراق تمتين العلاقة مع إيران أجدى على المدى البعيد.
التهديدات الإرهابيّة
في العام 2018، أصدر التحالف الدولي لمحاربة تنظيم "داعش" بياناً جاء فيه: "التحالف الدولي لمحاربة داعش يعلن انتهاء مهام قيادة القوة البرية التابعة لقوة المهام المشتركة في العراق"، الأمر الذي يؤشر على انتهاء التهديد العسكري المباشر لتنظيم "داعش" في العراق.
ولم يبقَ من "داعش" إلا التهديد الأمني وبعض الخلايا المنتشرة في شمال العراق وغربه، والتي يُخشى بطبيعة الحال أن تعاود أيّ نشاط عسكري. طبعاً، يحرص القادة الأميركيون على التضخيم الإعلامي لتهديد "داعش" للأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية، حتى يحافظوا على مشروعية بقائهم في العراق وسوريا، رغم أنَّ المعلومات تفيد بتقديم المساعدات بشكل دائم من الولايات المتحدة الأميركية للتنظيم على مدار السنوات السابقة.
في المقابل، ترى فئةٌ واسعةٌ من الشعب العراقي أن ما تعلنه الولايات المتحدة الأميركية من "محاربة داعش" هو ذريعة تحاول تسويقها كي تحافظ على وجودها في العراق. وتعتبر هذه الفئة أن وجود الحشد الشعبي، وما راكمته القوات الأمنية والعسكرية خلال السنين الماضية، أكسبها تجربةً تستطيع أن تعالج التهديدات المتبقية من "داعش". وما الحملات العسكرية والأمنية التي شنتها القوات العسكرية والأمنية مع الحشد الشعبي سوى دليل على ما تراه هذه الشريحة، إذ تخطت هذه الحملات أكثر من 8 عمليات عسكرية كبرى منذ بداية العام 2020 لتمشيط الأراضي الواسعة وملاحقة فلول "داعش".
هذا الأمر أدى إلى اعتقاد بين فئات واسعة من الشعب العراقي بأن الوجود الأميركي ينتهك السيادة العراقية يومياً، أولاً لأنهم لا يلتزمون بالطلب الرسمي من الحكومة العراقية للمساعدة في محاربة "داعش"، بل ينفذون أهدافاً خاصة، ليس آخرها استهداف مواقع للحشد الشعبي على الحدود العراقية السورية.
ثانياً، تدرك هذه الفئة أن ما تنصّ عليه بيانات جلسات الحوار الاستراتيجي دائماً، من "ضرورة الانتقال إلى مرحلة جديدة تركّز على تدريب القوات العراقية وتجهيزها ودعم قدراتها القتالية"، مسبوقٌ بصرف مليارات الدولارات منذ العام 2003، ولم ينتج إلا انهيار القوات العراقية أمام "داعش" في العام 2014، الأمر الذي أفقد الثقة بالولايات المتحدة الأميركية في أنها تريد حقاً تدريب القوات الأمنية والعسكرية العراقية ودعمها. طبعاً، ليس ببعيد أن يكون هذا الدعم وهذه البيانات المؤيدة هدفها احتواء دعم إيران للحشد الشعبي خلال تأسيسه، ولإقليم كردستان العراق عند هجوم "داعش"، كما جاء على لسان الزعيم الكردي مسعود البرزاني أكثر من مرة.
لذا، أكدت الفصائل المقاومة أكثر من مرة ضرورة إنهاء التواجد الأجنبي في الأراضي العراقية، الأمر الذي لا بد لصانع القرار الأميركي من أن يلحظه ضمن سياق استنزاف الموارد اللوجستية والمالية والبشرية؛ فمن الاستهدافات المتكررة للقوافل اللوجستية، إلى الكلفة العالية في مواجهة المسيَّرات التي تطلقها فصائل المقاومة (مثلاً، تستطيع طائرة صغيرة لا يتعدى سعرها بضعة آلاف من الدولارات أن تكلف 3 ملايين دولار، وهو سعر صاروخ الباتريوت، أو 50 مليون دولار في حال استهدفت طائرة هيلكوبتر، أو 100 مليون دولار في حال تم استهداف طائرة نفاثة). لا بد من أن يتحول هذا الأمر على المدى البعيد إلى استنزاف مالي كبير، وخصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التوجه العام للإدارة الأميركية لإنهاء "الحروب الأبدية".
أخيراً، يمكن الإشارة إلى أن الفصائل المقاومة العراقية إنما تزداد قوةً وتصميماً على إخراج القوات الأجنبية من العراق مع كل استهداف أميركي لها، إذ إن القادة العسكريين في القيادة المركزية يعملون بالحدّ الأدنى من استراتيجية "مكافحة التمرد" عبر استهداف محدد للفصائل المقاومة في العراق، رغم إدراك القيادة الوسطى ردود الفعل الداخلية في العراق التي اعتبرت الهجوم الأخير قبل أيام انتهاكاً للسيادة العراقية، حتى إنّ 4 منظمات أميركيّة أصدرت بياناً مندّداً حول الضربة العسكرية التي استهدفت الحشد الشعبي، وأشارت إلى أن ما حصل مخالف للقانون.
حماية حركة النفط العالمية في منطقة المتوسط
يدرك الساسة الأميركيون أن حماية حركة النفط العالمية إنما تتأتى من القواعد العسكرية المتمركزة بشكل أساسي في دول الخليج، إضافةً إلى حاملات الطائرات الكبرى المتواجدة هناك، والتي تهدف إلى حماية الممرات الأساسية. لذا، إن عدم التواجد الأميركي في العراق لن يؤثر في هذا الهدف، وخصوصاً إذا ما لحظنا انتشار أكثر من 30 ألف جندي أميركي في دول الخليج، وامتلاك قواعد عسكرية كبرى، كما في قطر والكويت.
إضافةً إلى ذلك، إن انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من العراق في العام 2011 لم يؤثر في حركة الملاحة أو يهددها، كما أن مسار مفاوضات فيينا واللقاءات الخاطفة بين السعودية وإيران في العراق، يدلان على تراجع التهديد في بعض الملفات. من هنا، إن مناقشة هذه النقطة ستتركز على أولوية التهديدات الأخرى للولايات المتحدة على مستوى العالم.
أعلنت الإدارة الأميركية المنتخبة أكثر من مرة أن تهديدها الأكبر إنما يتأتى من الشرق الأقصى، أي من روسيا والصين، الأمر الذي سيفرض عليها التخفيف من حدّة بعض الساحات وسخونتها، وخصوصاً في الشرق الأوسط. لذا، من غير الواضح لدى الإدارة الأميركية إن كانت ستستطيع تحقيق هذا التحول الاستراتيجي مع بقاء الساحات الأخرى ملتهبة. إذاً، إنَّ منطقة الشرق الأوسط تتراجع أهميتها في حسابات الأمن القومي الأميركي لمصلحة التحدي الصيني والروسي.
هنا، لا بد من الإشارة إلى أن الصين وروسيا تحاولان أن تفرضا تحولاً على مستوى منطقة الشرق الأوسط، وهو ما تستجيب له الولايات المتحدة الأميركية لمصلحة ساحات دولية أخرى، أي من الممكن أن نشهد مسار المقايضات بين روسيا والصين من جهة، والولايات المتحدة الأميركية من جهةٍ أخرى، على مستوى الساحات في العالم. لذا، إن منطقة الشرق الأوسط لن تكون بعيدة عن مسار التوازنات بين هذه الدول.
إضافةً إلى ذلك، لا بدَّ من الأخذ بعين الاعتبار المسار الذي حاولت الإدارة السابقة تثبيته، وهو تعويم بعض اللاعبين الإقليميين والتشبيك بين مصالح الدول في المنطقة، بحيث يتمّ تأمين مصالح الولايات المتحدة من دون أن تكون الإدارة الأميركية فاعلاً مباشراً في المنطقة، ولا يمكن رؤية مسار التطبيع إلا ضمن هذا السياق.
تدرك الإدارة الأميركية فعلاً أن بقاءها في العراق يعني بقاء الاستنزاف البعيد المدى مع تعاظم التهديد في أماكن أخرى. لذا، من الضروري في مكانٍ ما أن يستلزم إعادة التموضع على المستوى الدولي تنفيس الساحات الصغيرة، حتى لا يتحول التأثير التكتيكي (استهدافات الفصائل المقاومة العراقية) إلى تأثير استراتيجي.
في الخلاصة
يظهر من خلال مناقشتنا الأسباب السابقة أن الاستراتيجية التي يؤمن بها ماكينزي هي "إثبات أن المصلحة الوطنية أكبر من تكلفة الحضور المباشر" في العراق لن تصمد، وأن المخاطر و"الكلفة العالية، والتهديد الدائم للجنود، وإغفال أولويات الساحات الأخرى" التي يريد تجنبها عبر الحفاظ على قواته الأميركية في العراق، ستظل ماثلةً، سواء بقيت القوات الأميركية أو انسحبت، غير أن الفارق الوحيد بينهما هو التهديد الدائم بأن يكون الجنود الأميركيون ضحايا الاستهداف الدائم، وازدياد الكلفة المالية أمام ما يمكن تحقيقه من مصالح، رغم وجود طرق ومسارات أخرى فعّالة أكثر في الساحة العراقية.
https://telegram.me/buratha