د.محمد العبادي ||
يتميز العمل الإسلامي بالصدق والوضوح والاستقامة والاعتدال ، ويكفينا فخراً اننا قدمنا منطقنا في الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وبأساليب سلمية في حين كان اعدائنا من أزلام النظام السابق يفتقرون إلى الحد الأدنى من الأخلاق ؛ بل هم بلا أخلاق وقد نزلوا بوحشيتهم وجرائمهم إلى القاع التي ليس تحتها تحت .
لا حاجة إلى استعراض ما كنا نعانيه في سجون النظام السابق وقد أغنى غير واحد ذلك بالوصف الدقيق في مذكراتهم .
من الملاحظات ان جلاوزة النظام السابق كانوا يتعاملون مع أبناء شعبهم على الظن والتهمة(الشك والتهمة أولاً )، على عكس الإسلام الذي يتعامل على أساس حسن الظن بالناس والصحة والسلامة أولاً :
وحسبنا هذا التفاوت بيننا **
وكل إناء بالذي فيه ينضح
انّ الاسلام في جوهره وفي كثير من تعاليمه هو دين بلاغ ودعوة وتربية وتعليم ( ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ).
واسجل ملاحظة أن العمل الإسلامي في زمن المحنة كان اقوى منه في زمن الرخاء والنعمة بحيث انه لا يكاد يذكر ، وان الدعاة كانوا في زمن النظام السابق أقرب إلى الناس منهم في هذا الزمن الذي فتحت لهم الإماكانيات ابوابها .
ربما يكون توقيت هذا الكلام في عقد مقارنة للعمل بين زمانين غير موفق ، لكن ما الحيلة وقد نجحنا في الضراء وفشلنا في السراء غير الاعتراف بالخطأ ،ونعرف ان الاعتراف بالخطأ فضيلة تدعو إلى مراجعة نقدية جدية .
يحسب للدعاة ذلك التاريخ الصافي الأصيل في العمل بلا كلل حتى وهم في قعر السجون ، ويحسب للدعاة تلك التضحية والصلابة والعطاء والإيثار ، بل وقيمومة السلوك وتأثيره على الناس .
لقد كان أولئك القادة والدعاة يتحدثون عن عناصر الشخصية الإسلامية ويجسدون ذلك فكراً وسلوكاً وعملاً ، وكانوا يتحدثون عن منهج العمل والتغيير في توصيف الواقع وتأشير الأهداف وتهيئة المستلزمات ونشاهد ذلك بوضوح في تفصيلات تصرفاتهم .
لقد كان منهجهم في العمل اليومي لا ينقطع مهما تغيرت الظروف ، ويتضمن مفاهيم مختلفة مثل الدراسات والتحليلات للمفاهيم القرآنية ، والموضوعات الأخلاقية، والموضوعات الحديثية والعقائدية، وتوضيح آليات واساليب العمل وتقييمه ، تقييم الأفراد وتحديد هوياتهم وتوجهاتهم ، مراجعات نقدية للعمل ، التشجيع على أداء المسؤولية ، ومتابعة السلوك والانضباط وأذكر أننا تعرضنا إلى النقد الشديد لمرات عديدة على سلوكنا او على طريقة العمل من أجل تقويمنا و..و..الخ .
تلك المفاهيم والموضوعات تدور في جلساتهم الثنائية بشكل يومي ، ويتم اعادتها واستذكارها ولو بعد حين .
لقد كانت هناك مفارقات عجيبة في أثناء العمل حيث تجد احدهم صغير السن مثل الاخ جاسم محمد ركبان (استشهد لاحقاً) معبأ بمختلف الموضوعات الاسلامية يتعهد بإلتزام من هو اكبر منه سناً وتحصيلاً ويتواضع له في الاستماع بصدق .
في مرّة جاء إلى غرفتنا (غرفة ١٩) عدد من السجناء سنة ١٩٨٥م، وكان الإخوة ينصحوننا ان نكون اول من يستقبلهم ويجلس معهم و( يحتك بهم) للتعرف عليهم، لأن ذلك ادعى إلى التأثير في تأسيس علاقة صداقة ، وقد كان من بين أولئك السجناء شخص غريب السلوك (فيه ضمور بالشخصية) عنده خجل مفرط ، ويتحرّج من الكلام مع الناس ، ولاتلتقي نظراته بنظرات احد ، ولا يستطيع تثبتها حتى مع مَن هو أدنى منه سناً، وقد ادرك الجميع أنه يحتاج الى علاج ، ونصحنا الاخ احمد عبد الرضا ابو زهراء وعبدالجبار سعدون ابو هدى بالتقرب منه والتواصل معه ، وبالفعل فقد أخذ هذا الشخص المدعو (س ) بالتغير وعادت إليه بعض شخصيته المسلوبة بالتدريج ، وقد التزمه آنذاك الشهيد جاسم محمد ركبان .
لقد كانت هناك بعض الشخصيات التي تركت بصماتها في سجن (أبو غريب) مثل احمد يونس ابو ابرار، والمرحوم عبدالرحيم احمد الحصيني السيد ابو مرتضى ، وكامل خلف الكناني ابو منتظر ، ورعد فارس الماس ابو ايمان الخالصي وعبدالجبار سعدون ابو هدى وأحمد عبد الرضا وسيد محمد عبداللطيف وسيد ابراهيم الخالصي وغيرهم .
هؤلاء واضرابهم كان يستذكرهم بعض السجناء بسيرتهم الحسنة ويتشوق إليهم ، وقد شاهدت كيف ان الأخ سالم سلطان موزان ابو اسلام الكاظمي ، يصف بحنين الاخ ابو ابرار الناصري، وشاهدت كيف يتشوق سعد جبار حسين إلى الأخ ابو منتظر الكناني ( ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا).
نعم أنه الود والمحبة والألفة في الله قد ألقاها الله في النفوس وشاهدناها بأم أعيننا.
لقد كان هؤلاء وغيرهم يعملون بشكل متواصل داخل سجن ابو غريب ، ولعل بعض الناس شاهد تلك الجلسات الطويلة المتواصلة الى طلوع الفجر بين كامل ابو منتظر والسيد ابو مرتضى .
في إحدى المرات وفي لحظة غضب وشى ( ج) من أهالي ديالى بأبي منتظر الكناني وقال لنقيب الامن (غالب الدوري) بأن ابو منتظر الكناني ومعه جماعة لديهم تنظيم داخل الغرف المغلقة ، وتم استدعاء الأخ كامل ، لكنه كان يمتاز بسرعة البديهة وحسن التصرف والثبات فقال ( هذا الشخص يكرهني وكذب علي و...و) ، لكن ذلك لم يشفع له وأخذت تنهال عليه الضربات بالعصي والكيبلات ، واظن ان السيد المرحوم ابو مرتضى هو الآخر قد أخذ نصيبه وضربوه ضرباً مبرحاً حتى سالت منه الدماء وبقيت آثارها على إحدى يديه .
ان النظام السابق كان يعتقد أن الحل الاستئصالي ، واللجوء إلى أساليب القمع والقتل والترهيب هو السبيل الوحيد في التخلص من المعارضين ، لكنه كان كعادته في جمع الخطأ على الخطأ لم يكن يدرك يوماً ان القمع تنبثق منه الحرية ، وأن السجن لن يمنع عن العمل ( ضربنا بحجاره وطلعت باقلاوه ).
https://telegram.me/buratha