د.أمل الأسدي ||
نعود هنا والعود أحمد ، نعود لإكمال ما تحدثنا عنه في المقال السابق، إذ تحدثنا عن تفاعل النفس البشرية مع التكنولوجيا وكيف صارت تؤثر التقنيات الحديثة في نفسياتنا ودواخلنا وأحلامنا، فرغم الصفاء الذي كان يغلف حياتنا نوعا ما،ويقلل الاضطراب والتوتر، ويمتص عذابات الحياة وظروفها القاسية التي كنا تعيشها في العراق،إلا أننا كنا في عزلة وغربة، عالمنا كان صغيرا جدا، وعيوننا كانت محدودة النظر، إذ كنا كالجالس في دار السينما، فحين يعرض فلم ما،رغم حكايته وأبطاله وأحداثه إلاّ أن طاقم العمل من الكاتب والسنياريست والمخرج قد قيدوا المتلقي، فرضوا عليه كل شيء، المكان والألوان والحركة والزمن، بخلاف حاله وهو يقرأ ويسرح مع خياله ويُفتِّح أبواب العوالم المختلفة!!
لقد وفرت لنا وسائل التواصل الاجتماعي والأجهزة التقنية الحديثة مساحة واسعة للتواصل، فلم يخطر في بالنا يوما من الأيام أن بإمكاننا التواصل مع كل هذا العدد من المعارف والأصدقاء، وبغض النظر عن تقييم هذه المعرفة وهذه الصداقة ومناقشة مدی واقعيتها من افتراضها، إلاّ أن أهميتها كبيرة جدا لما حققته من فعل تواصلي بين أبناء البشر.
وبالعودة الی فعل التلقي والقراءة كنا سابقا نتعرف علی الكُتاب الكبار والشخصيات المعروفة عن طريق نتاجاتهم المطبوعة، وإن كان ذلك ليس بالأمر اليسير والمتاح للجميع، إلا أن صعوبة الحصول علی المؤلفات وندرتها، جعل لقراءتها والاطلاع عليها لذة خاصة،ولو حاولنا الآن الإبحار في ذاكرتنا لوجدنا أسماء وشخصيات ومشاهد محفورة في داخلنا، عشنا معها عن طريق كلماتها وأفكارها، وربما لم نتخيل يوما أننا سنتحدث إليهم عبر وسيلة ما ، أو أننا سنشاهد صورهم اليومية، ونشاركهم ويشاركوننا تفاصيل الحياة العادية والخاصة، هنا أود أن أتحدث عن بعض الأخبار التي تُنشر في وسائل التواصل الاجتماعي، فعلی سبيل المثال في العام الماضي، استيقظنا علی خبر رحيل شخصية من الشخصيات الإسلامية المعروفة ألا وهو آية الله تسخيري، وظل خبر وفاته يتردد بين الصفحات الخاصة والعامة، فإشاعة أخبار الوفيات عبر وسائل التواصل له مساحة واسعة وترك ظلاله علی أرواحنا ، فقد نتفاعل وندعو لإنسان راحل ونحن لا نعرفه!! وقد نحزن ونظل معكري المزاج لمدة بسبب خبر وفاة شخص ما، وإن كُنّا لانعرفه معرفة خاصة!! وأحيانا أخری نحزن ونتألم لخبر وفاة إنسان نعرفه وسبق وإن تحدث إلينا كثيرا عن طريق أفكاره وكتبه كما هو الحال بالنسبة للشيخ التسخيري، وفي فوضی النشر والتأبين استوقفني منشور لأحد الأصدقاء، وهو من الكتاب المعروفين في الأوساط الأكاديمية، كان قد عبر عن حزنه بطريقة موجعة، وبكلمات مؤثرة جدا، إذ بقيت أتردد علی صفحته وأعيد قراءتها، تمنيت لو أنني أكلمه وأعزيه وأخفف عنه، ثم قلت أنا لا أعرفه، و غير مستلطف أن أجعل أول معرفتي به التعزية!! ثم قلت لأكتب له وأواسيه، فيبدو أن الحزن قد فتت مهجته، وكلما أردت الكتابة ترددت وتراجعت، الی أن حان وقت نومي ، فقرأت منشوره مرة أخری، وترددت للمرة العاشرة في قضية مواساته!
المهم...في هذه الليلة رأيت هذا الكاتب وقد أرسل لي رسالةً عبر الماسنجر يدعوني إلی حضور محفل مقام في الكوفة، فانتقلت مباشرة الی هذا المكان، فالمسافة والزمن في الأحلام والرؤی لاتشبه مسافاتنا الواقعية وزماننا الواقعي، وجدته ينتظر، قال لي من هنا، وقد أشار الی شارع عريض، دخلنا الشارع، وإذا به، جانبه الأيمن حديث جدا، بناء وتصميم وواجهات حديثة، وجانبه الأيسر قديم أثري، كبيوت الكوفة التي نراها في المسلسلات التأريخية، فبقيت متعجبة من هذا الأمر؟ ماهذا الشارع، جهة حديثة وأخری قديمة؟!!
وصلنا إلی منتصف الشارع، فجلس الكاتب وافترش الأرض، في الجهة اليسری القديمة، جلس يبكي،قلت له: أردت أن أواسيك منذ أمس ولكن ترددت!!
هون عليك، لكل أجل كتاب!!
قال: كان معلمي، لا أتصور كيف أني لن أسمع صوته بعد الآن!! في أثناء حديثه تدحرجت كرة عاجية نحوه، فقال لي: لقد تركها الشيخ لي، فأخذ يضرب الكرة الی الجهة المقابلة، فترتد إليه وحدها، وكلما رماها إلی جهة ما، ارتدت إليه، فهو يتحكم بها بشكل عجيب!!
وقد هدأ وزال حزنه وبدت عليه السكينة، وهب نسيم بارد في الشارع وانتشر ضباب أخضر في المكان!!
استيقظت وأنا مندهشة من غرابة هذه العوالم،كيف تلتقي الأرواح مع بعضها،وكيف يجمعها الله تعالی وهي لاتعرف بعضها في الواقع؟ وهل كانت متعارِفةً في عوالم قديمة ؟ وكيف صار الفيسبوك وغيره من البرامج وسيلة لتحريك مشاعرنا وأفكارنا؟ وكيف دخل بين طيات أرواحنا؟
ومن ينسج هذه المشاهد الغرائبية، ومن يجعلها محملة بالرموز والدلالات؟
من يؤلف هذه الرؤی وكيف نشعر بها وكأنها حقيقة؟
وكيف يصر بعض البشر ويعاند ولا تستيقن روحه بوجود الله تعالی؟
وهل ستتطور التكنولوجيا أكثر حتی تحول أحلامنا ورؤانا الی مشاهد مصورة؟ نستيقظ صباحا فنتفرج عليها كمشاهد خيالية غرائبية خلقتها يد عالية متحكمة!!
لننتظر ...
https://telegram.me/buratha