المقالات

أي مستقبل؟!


 

محمد عبد الجبار الشبوط||

 

الصورة المستقبلية التي يؤمن بها الفرد والمجتمع تلعب دورا كبيرا في الحركة التاريخية لهما. هذه الرؤية، ضمن عوامل اخرى، تؤلف منظومة القوى المؤثرة في حركة التاريخ. وهذا يعني ان الفرد او المجتمع الذي يفتقد الى هذه الرؤية عبارة عن وجود خارج حركة التاريخ، وهو كيان محنط للماضي فيما نسميه، مجازا، الحاضر. لان الحاضر، بالتحليل الدقيق جدا، لا وجود له، فالزمن اما ماضي واما مستقبل، واما الخط الرفيع الفاصل بينهما فهو الحاضر. واذا لم يكن للمجتمع رؤية مستقبلية، فهو يعيش اذاً ضمن رؤية ماضوية. فهما حالتان: اما ماضٍ يكبل "الحاضر" ويشده اليه ويمنعه من التطور والتقدم، او "حاضر" يحركه المستقبل باتجاه التقدم نحو الصورة المستقبلية الموجودة في الذهن.

الطاقة الحركية التي تختزنها الصورة المستقبلية تعتمد من حيث كميتها وقوتها وزخمها على كمية الزمن المستقبلي الذي تغطيه وتستوعبه. وتكون الطاقة الحركية للفرد والمجتمع بقدر الكمية الزمنية التي تستوعبها الرؤية المستقبلية. والعلاقة بينهما طردية وليست عكسية.

للناس في رؤيتهم المستقبلية مشارب متعددة. فهناك من ينظر الى المستقبل بكمية محدودة وضئيلة (مثل الحصول على وظيفة حكومية). وهناك من ينظر الى المستقبل بكمية اكبر قليلا (مثل الفوز بمقعد نيابي او حقيبة وزارية). وهناك من ينظر الى المستقبل بكمية كبيرة جدا، مثل اقامة الدولة الشيوعية بالنسبة لماركس واتباعه. لكن حتى هذه النظرة على الرغم من بعدها المستقبلي الا انها ايضا كانت محدودة في ذهن ماركس وانجلز الامر الذي دفعهم الى القول بانحلال الدولة في المستقبل وانتفاء الحاجة اليها. وهناك ما هو ابعد من هذه النظرة الماركسية المحدودة رغم بعدها الزمني، وهو الدولة الحضارية الحديثة. وهنا يكون البعد الزمني غير محدود الا بالحدود المتضمنة في القدرة البشرية ذاتها. فالحد الزمني المستقبلي الاقصى للدولة الحضارية الحديثة هو القدرة الكامنة في الانسان على التطور والتكامل والتقدم. لا ينتهي البعد المستقبلي للدولة الحضارية الحديثة الا باستنفاد او استهلاك هذه القدرة. وهي قدرة عظيمة كما يخبرنا التاريخ. ومن هنا يأتي الخطا الذي وقع فيه فوكوياما حين تحدث عن "نهاية التاريخ" مأخوذا ومشدوها من لحظة انتصار في مقطع زمني محدد، غافلا عن حقيقة كمية الطاقة الكبيرة المختزنة في الانسان والتي تمكنه من قطع المزيد من الخطوات في طريق التقدم والتكامل.

لا اخفي سرا انني توصلت الى القناعة بهذه الفكرة من خلال دراستي لكتاب "الميزان في تفسير القران" للعلامة المرحوم محمد حسين الطباطبائي  (1904- 1981)، والسيد محمد باقر الصدر (١٩٣٥-١٩٨٠)، واحسب انهما كلاهما متأثران بنظرية "الحركة الجوهرية"، لصدر الدين الشيرازي (١٥٧٢-١٦٤٠) صاحب كتاب "الاسفار الاربعة". ولا يخفى ان القران الكريم هو مرجعية هؤلاء المفكرين العظام. فقد انتبه محمد باقر الصدر مثلا الى بعض ايات القران الكريم التي لا يمكن فهمها وتفسيرها الا انطلاقا من فكرة التكامل المستمر للانسان قياسا الى معايير مطلقة، مثل قوله تعالى:"يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ". فاللقاء هنا هو عبارة رمزية مكثفة عن تجسيد القيم الحضارية العليا المنتزعة المشتقة من الصفات التي يؤمن الانسان بتوحدها بالله مثل العلم والرحمة والعفو والتسامح والعدل الخ.

والدولة الحضارية الحديثة هي التجسيد السياسي للقيم العليا التي يجعلها الانسان هدفا لحركته التاريخية ومؤشرات للسلوك.

وهذا من الاسباب التي تجعلني اركز كثيرا على الدولة الحضارية الحديثة لجعلها هدفا اعلى بعيدا للمجتمع العراق لانها قادرة على استيعاب كل كمية الزمن المتصورة الامر الكفيل بمنح الانسان في العراق طاقة هائلة على التحرك الحضاري التاريخي.

ـــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك