محمد كاظم خضير *||
ما يتسرب من منازل كبار المسؤولين ومكاتبهم لا يبشر بالخير. النقاش حول الورقة الإصلاحية أمر، وطريقة تفكير المسؤولين وتخطيطهم أمر آخر. عملياً، ومن دون غش، وبكلام واضح ومباشر، ما يجري اليوم هو الآتي:
اتفق أركان السلطة على سلة خطوات يرمونها للناس للخروج من الشارع على أن يعودوا الى ألاعبيهم. لكنهم، يدرسون منذ الآن ــ وهذا كلام جدي جداً ــ كيفية الانتقام من الناس الذي خرجوا وندّدوا بهم وبحكمهم وفسادهم. وبحسب مقاصّة لجولة اتصالات مع غالبية القادة وحواشيهم، فإن هؤلاء، مثلما يلقون بالمسؤولية بعضهم على بعض ويستحضرون المؤامرة، يعتبرون أن انتقاد الناس لهم يعبّر عن فئة صغيرة من متضررين حاقدين ولا يمثل رأياً واسعاً في الشارع.
مصير هذه الملايين من المواطنين تحت خط الفقر في ظل الحديث عن الورقه الاقتصادية ؟رغم الحديث عن تعدد البرامج الاجتماعية لحكومات نصف قرن ولكنها لم تستطع أن تخفف من سلبيات السياسة الاقتصادية العراقي في تهميش قطاعات واسعة من السكان، وإذا كانت قد قامت بتمويل برامج أمن اجتماعي فإن هذه البرامج لم تقدم سوى الحد الأدنى من الدعم من خلال عنايتها بإبقاء المحرومين على قيد الحياة.فالرعاية الاجتماعية منذ إقرارها تمثل وسيلة لتخفيف المعاناة على الطبقات المحرومة خاصة في فترات التقلبات الاقتصادية والكوارث الطبيعية، وتكون في كثير من الأحيان مساعدات رمزية ضمن برامج مسقطة، بل إن الكثير من المتابعين ربطوا بين هذه المساعدات وخاصة منحة العائلات المعوزة والعلاج المجاني بالفساد والمحسوبية، وهو كلام منطقي، بل إن الكثير انتفع بالتشغيل عن طريق هذه المنظومة دون وجه حق.
ولكن رغم الجهد ومساعي الإصلاح من المتدخلين في القطاع لتكون البرامج موجهة بالأساس لمستحقيها ولكن تبقى دائمًا دون المأمول وهي برامج مفرغة حتى إن تغيرت مسمياتها أجزم أنها لن تستطيع مجابهة الإصلاحات الجديدة المفروضة من قبل وزارة المالية كشروط قاسية على العراقيين كما ستلزم هذه الإصلاحات بتقليص الإنفاق على القطاعات الخدماتية كالصحة والتعليم والسكن والضمان الاجتماعي وبالمقابل زيادة الضرائب على الخدمات اليومية كالكهرباء والمياه والنقل والاتصالات وما شابهها.صيحة الفزع التي أطلقها الاقتصادين اليوم من خلال تحركاتهم في أرجاء الوطن لا أعتقد أنها ستُفيق النظام الساقط من غيبوبته وهو الفاعل الذي تتنازعه قوى تتقارب أحيانًا وتتعاند أحيانًا أخرى، ولكنها في كل الأحوال تضع المواطن البسيط بين شقي رحى، فهي تطمع دومًا لتضحيات جسام من الطبقات الفقيرة والمتوسطة لعبًا على وتر "التضحية من أجل الوطن" وكأنها قدر من الإله.وفاتهم أن الوضع الاقتصادي الصعب الذي تمر به بلادنا وعلى عكس ما يروج له خطابهم الرسمي، ليس وليد الظرف الراهن فقط (الوضع الهش وعدم الاستقرار وطبيعة المرحلة الانتقالية…) بل نتيجة مباشرة لخيارات اقتصادية واجتماعية لم تقطع في جوهرها مع الخيارات النيوليبرالية ومنوال التنمية الفاشل ومع واقع الارتهان لمصالح الرأسمال الاستعماري العالمي والحفاظ على مصالح الطبقات المحلية المرتبطة
وذهب كثير من الساسة والخبراء الاقتصاديين إلى أن وزارة الماليه تحـاول فـرض برنـامج إصـلاح هـيكلي مدمر للاقتصـاد العراقي له تبعات اجتماعية خطيرة على مستوى عيش المواطنين.
· الدور الاجتماعي للدولة
.الدور الاجتماعي للدولةإن الحديث عن الدور الاجتماعي للدولة يأتي هنا باعتباره حديثًا عما "يجب أن تقوم به مؤسسات الدولة من تدخلات لحماية مواطنيها اقتصاديًا واجتماعيًا من خلال وضع السياسات وسنِ التشريعات اللازمة لتنظيم قوى السوق وإصلاح الاختلالات الناجمة عن عملها لتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان الاستقرار وذلك بتوفير شبكات الأمن الاجتماعي ضد المخاطر والأمراض كالفقر والتهميش والفوارق الجهوية وتوفير المواد المدعمة والخدمات العامة والحد من الآثار السلبية للعولمة والنيوليبرالية الموحشة على الفقراء".
إن الاقتصاد العراقي ليس في حالة جيدة، ولديه مجموعة من التحديات الرئيسية التي يحتاج إلى مواجهتها. فارتفاع معدلات البطالة وعدم تلبية مطالب العدالة الاجتماعية وتزايد الفساد والمسار غير المستدام للاقتصاد الكلي، كلها عوامل تهدد المكاسب السياسية التي حققها العراق منذ 2003.
تركزت الجهود العراقي خلال السنوات الأولى من مرحلة الانتقال إلى النظام الديمقراطي على التحديات السياسية بشكل أساسي. وكان أداء العراق في هذا الصدد إيجابياً في العموم، إذ تمكنت الدولة من تثبيت أركان المكتسبات الديمقراطية رغم التحديات المتصلة بالاستقطاب السياسي حول الهوية والقضايا الدينية، وصعود وتزايد انعدام الأمان جرّاء الهجمات التي شنتها جماعات متطرفة، وحتى خيبة الأمل العامة للناخبين من النخب السياسية القائمة. لكن المكتسبات على الصعيد السياسي جاءت على حساب انتكاسات اقتصادية. وبالتالي يعد الاقتصاد من التحديات الرئيسية في الفترة المقبلة. فارتفاع معدلات البطالة وعدم تلبية مطالب العدل الاجتماعي وتزايد الفساد، والمسار غير المستدام للاقتصاد الكلي – وهو العامل الأخطر على المدى القصير – هي جميعاً عوامل تهدد المكتسبات السياسية بالآونة الأخيرة. إذا لم تتصد لها الإدارة السياسية المقبلة، فسوف يؤدي السخط الاجتماعي إلى تعريض المكاسب الديمقراطية التي تحققت بمشقة، للخطر.
. وهناك دول كثيرة تتعرض لصدمات أثناء وفي الفترات الأولى من المرحلة الانتقالية، ينصب الاهتمام من حيث السياسات في العادة على الجانب السياسي، وهو الجانب الذي يكون في الغالب بمثابة القضية التي تقود السياسات. لكن توصل فرويند وجود إلى أن الدول التي تدهور الاقتصاد فيها كثيراً ولمدة طويلة، مثل الجمهوريات السوفيتية السابقة، أصبح التقدم السياسي فيها صعب التحقق، مع المخاطرة بسقوط هذه الدول في فخ مرحلة انتقالية مطولة لا فكاك منها.
اليوم يواجه العراق نفس الخطر. على الورق، لدى العراق كافة المكونات اللازمة لتطوير اقتصاد قادر على النمو بشكل صحي، كما فعلت النمو الأسيوية من قبل، فلدى العراق طبقة متوسطة متعلمة وهي قريبة من أسواق الاتحاد الأوروبي الكبيرة. لكن ضعف الأداء الاقتصادي استشرى في ظل نظام ما بعد 2003 ، مع عدم قدرة الدولة على تحقيق إمكاناتها التي أطلقتها . هذا الموقف لم يتحسن بعد السقوط ، إنما ظهرت أمراض جديدة. وعلى وجه التحديد،
رغم أن بعض تدابير وسياسات التوسع المالي والنقدي لمناوئة الصدمات السلبية الأولى كانت معقولة ومناسبة بعد 2003 ، فإن الوضع المالي في الدولة، لا سيما معدلات الإنفاق العام العالية، قد أصبح غير قابل للاستمرار.
من المهم ملاحظة أن الإصلاحات المفيدة تصبح قادرة على التحقق في ظل توفر ظروف معينة. في حين أن نفوذ الشركات الكبيرة والمجموعات التجارية مستمر، فقد أصبح بإمكان الفاعلين الآخرين الآن ممارسة ضغوط فعالة.
· أسئلة للمستقبل
إن مواطن الضعف الاقتصادية المذكورة أعلاه تُظهر وجود أجندة كبيرة على الإدارة التالية أن تتولى أمرها، وتشمل وضع الاقتصاد الكلي المتفجر، والتحديات الهيكلية الخاصة بالانتقال من إصلاح القطاع العام (بدءاً من الشركات المملوكة للدولة) إلى جعل الأسواق تعمل بشكل أفضل، إضافة إلى أجندة العدالة الاجتماعية التي تركز على تطوير وتنمية المناطق المهمشة.
وفي المستقبل القريب، لابد من توفر بعض التدابير الخاصة ببث الاستقرار المالي. وهذه عملية ستكون بلا شك صعبة على أية إدارة. سياسياً، فإن الأسئلة من قبيل كيفية تعديل السياسة المالية بحيث تحقق الاستدامة وفي الوقت نفسه تراعي العدالة الاجتماعية وترعاها، سوف تتطلب اهتمام التكنوقراط فضلاً عن المفاوضات الشاقة بين الساسة والجماعات الممثلة لمصالح المواطنين. فالمطالب الاجتماعية بوظائف أكثر وأفضل ستبقى كثيرة عالية المعدلات، ما يتطلب النقاش حول تقبل بعض التضحيات في الحاضر من أجل تحقيق مكتسبات في المستقبل. وفي هذا الصدد، فإن قضايا التنافس والابتكار ستبقى مهمة للغاية.
إن نتائج الانتخابات المبكرة المرتقبة سوف تحدد طبيعة ونطاق ما هو ممكن. هناك احتمال بأن يُنتخب رئيس ضعيف وبرلمان متشظي. في هذه الحالة، فإن أغلب تحديات المرحلة المقبلة سوف تقع على كاهل البرلمان، حيث سيتطلب البحث عن حلول بناء تحالفات معنية بالإصلاح، ممارسة الضغوط من قِبل سياسية بنّاءة.
لكن على كل حال من المُرجح أن يجعل الانتقال الديمقراطي العراق السياسات الاقتصادية أكثر فوضوية. فعلى نقيض نظم الحزب الواحد، حيث جميع المبادرات تأتي من الأعلى، فالقرارات الآن هي جميعاً محل تفاوض بين الكثير من الفاعلين وهناك مصالح كثيرة متنافسة. لكن كما حدث مع النظم الديمقراطية الشابة في شتى أنحاء العالم، فالوضع الديمقراطي "الفوضوي" ليس بالضرورة غير كفء عندما يتعلق الأمر بالتقدم الاقتصادي، فالديمقراطيات الحديثة كثيراً ما تنجح في تحسين الأداء الاقتصادي بينما هي جالسة "على شفى جرف الفوضى". إن ضغوط سياسة الانتخابات تدفع بالساسة غالباً إلى حل بعض التوترات الهامة التي تواجه الاقتصاد، ولو حتى جاءت الحلول في اللحظات الأخيرة. هذا يعني أنه من غير المرجح أن يأتي التقدم على يد جهود التنمية بقيادة الدولة، فقد يحدث مع الضغوط من القطاع الخاص والمجتمع المدني، وسوف يدفع الطرفان من أجل إنشاء دولة وأسواق أفضل أداء، رغم الفساد.
نتيجة لهذا، ومع بقاء التصدي لمواطن الضعف الهيكلية أولوية أساسية، فمن المرجح أكثر أن يتحقق التقدم مع تحسّن أداء وتفاعلات الديمقراطية. على الصعيد الإصلاحي، تشمل الأجندة إعادة التفكير في أدوار النظام الديمقراطي (تشارك السلطة بين الرئاسة والبرلمان، والمال السياسي، ووسائل تنفيذ الانتخابات المحلية.)، ومستوى تمكين وإشراك المجتمع المدني (لا سيما في نظم المحاسبة الأفقية)، وتعزيز استقلالية الهيئات التنظيمية. أوجه التحسن هذه سوف تقلل من تقلبات السوق والمخاطر السياسية، مع توليد مكتسبات تأتي من أسفل لأعلى في غياب السياسات الصناعية التي تقودها الدولة.
ويبقى سؤال: هل ينجح العراق في الخروج من أزمة الاقتصاد الكلي مطروحا إلى حد بعيد. فسواء حدثت أزمة أم لا، فإن العراق مُلزمة بتعلم كيفية "العيش على شفى جرف الفوضى" على مدار السنوات القليلة المقبلة، وسوف يكون المحدد الأهم على المدى الطويل للنجاح هو مدى قدرة العراق على مقاومة أمراض الديمقراطيات المعاصرة، الغارقة في محاباة المقربين والشعبوية المُدمرة. فهذه المشكلة وتلك تطل بوجهها القبيح الآن. إن إجراء الانتخابات في العراق ، وتنفيذها، هي علامة على التقدم الذي تحرزه البلاد. ويجب أن نحيي هذا التقدم ونشيد به، لكن مصاعب الحُكم نفسها ليست إلا في بدايتها.
*باحث ومحلل سياسي
https://telegram.me/buratha