◾محمّد صادق الهاشمي
رسالتي إلى كلّ الذين يتباكون على حقبة صدام حسين ، أكتبها على عجالة؛ لأنّ حقبته تحتاج إلى مصنّفاتٍ بعمر كلّ لحظة حكم بها العراق.
كنّا في السجون في أيّام حكم الطّاغية الذي كان مصداقا لقوله تعالى : {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] .
كانت الدنيا كلّها توحي بالخوف والهلع والقتل ، فالناس تموت في جبهات حرب خاسرة ، يساقون إليها سوقا ، وجنائز وافدة من تلك الحدود ، وجنائز أخرى من أتية من خلف تلك القضبان والمعتقلات الكئيبة التي تفوح منها رائحة الدم والجريمة .
نحن جيل منّا مَن استشهد رميا بالرصاص – الذي على أهلينا أنْ يدفعوا ثمن الرصاصة التي اخترقت قلبه ونزفت لها روحه إمعانا بالإذلال - ، ومِنّا مَنْ شُنق بالحبال ليبقى لساعات يتأرحج على المشانق ، ومِنّا من دُفن حيّا ، ومِنّا من ذاب في التيزاب، ومنّا من أُطعم للسباع وهو حيّ ، ومنّا ، ومنّا ...
لقد كانت أيّام(( قائد الضرورة وحزبه)) عبارة عن صفحاتٍ من الجرائم المتنوّعة بما تشهد عليه مقابرنا الجماعية ، وسوق وزجّ الشّباب في حروب خاسرة واعتقالات واسعة، و تهجير الآلاف من شرفاء المجتمع العراقي من شيعة آل محمّد (صَ)، وتجفيف الأهوار ، وحرق مدن بكاملها ، وتجريف البساتين على شيعة و(أهالي بلد)، وسوقهم إلى سجون «نكرة السلمان»، وإبادة مدن من إخوتنا الكرد بالكيمياوي ، والإعتداء عليهم بما يمثّل أكبر الجرائم في تاريخ الانسانية ، أعني ( الأنفال) ، ,اعتقد أنّ اللسان ليعجز أن يعدد جرائمهم فإنّها فاقت عن التعداد ، وما يكون لبشر لم يكن قد عاصر تلك الحقبة أن يصدّقها
ولكنّ كلّ هذه الجرئم التي لم يسلم منها البشر ولا الحجر ولا النبات نجد هناك من يمجّد هم في وسائل الإعلام ، والأقلام وبعض الشّعراء المأجورين ، فلا زلنا نسمع : «أنّه بطل العروبة» ، «بطل القادسية ».
وكانت الآلاف تقف مرحّبة به خشية الموت الأحمر الزؤام لمن تلحظه العيون لا يهتف: «
يبو رِجل الذهب ... يمحبوب الشّعب
يفنان العرب... مية هله بيك
هلا بيك هلا .....وبجيتك هلا
وكانت أجهزة القمع والموت تقف بالمرصاد لمن لم يخرجْ هاتفا بذلك ، فيكون الحكم عليه أنّه خائن للوطن خيانة كبرى ، ومطلوب للعدالة ، فكان يراد من هذا الشّعب المغلوب على أمره أن يعلن الولاء ويقول له المصفّقون :
العزيز أنت يشمعتنا واهلنا ...يا هيبة بيتنا وقائد وطنّا
وكان الطّاغية يريد أنْ يسمع مدحا ؛ لأنّه يعيش عقدة تاريخه الواهن وانحطاط أسرته وشرف أمّه ، ليصدق ما يقوله له المادحون .
كان صدام وحزبه يمارسون الجريمة بكلّ أعصاب باردة ، ففي الوقت الذي يساق الشّعب إلى الجبهات والسّجون وغيرهما تجد وسائل إعلامه تغطّي الحفلات الرّاقصة الصّاخبة في «قناة بابل» ، ويتعالى مدح الشّعراء له حينما يقوم بزياراته الاستهتارية للمدن أو يطلّ بوجهه القبيح عبر شاشات التلفاز، ففي اليوم الذي أعدم فيه المفكّر الاسلامي الكبير السيد الشّهيد محمّد باقرالصدر كان صدام يحضر مهرجان الرّبيع في الموصل ، وتغنّي له المومسات وترقص الرّاقصات (حياك يابو حلا) وهو يكشّر عن أنيابه ضاحكا بكلّ برود ساخرا من أمة بكاملها .
وفي اليوم الذي قتل في الأنفال (5) خمسة آلاف بريئاً كان الشّعراء يغنّون ويتغنّون بلا شرف بأمجاده وإنجازاته وبطولاته (... صدام يا عزّ العرب...).
وفي اليوم الذي أعدم فيه أسرة آل الحكيم كان الشّاعر يخاطبه :
سيّدي للكوت مامرّيت وأهل الكوت بجيتك تحلم.
نعم كانت تلك الأيام أيّام سوداء علينا ، عُدم فيها الأمن ، والأمان، على كلّ شريف ، فلا قيمة للحياة ، ولا خيار للشرفاء سوى الموت أو الذّل والتصفيق، كان الشّرفاء والعلماء والمؤمنون والذين يرفضون هذا العتلّ الزنيم هم المخرّبين ، والعملاء ، والخونة ، بحسب نظر هذا المجرم الذي لو أُريد للجريمة والانحطاط أن يتجسّد لكان صدام حسين وحزبه، وكان فينا كما كان فرعون في بني اسرائيل : {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4].
وأنا وأسرتي وأخوتي وأبناء عمومتي كنّا قد حُكم علينا بأننا من الخونة والجواسيس بعرف صدام وجريمتينا لأننا أناس لا نرضى بالباطل ولا نصفق لحفنة وحثالة مثّلت الجريمة وجثت على صدر الوطن بكل قيمه.
نعم كانت تلك الأيام أيّام خير لكلّ منحطّ ووضيع وساقط ، وقد قالها موسى (عَلَيهِ السّلامُ) : {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ!!} [الشعراء: 22] ،
أي هل أنّك تعتبر نفسك - يا فرعون - منعماً علينا أنْ جعلتنا عبيدا عندك !!! .
أقولها لكم أخوتي وأبنائي : لا تسمحوا لهم بالعودة.
3 / شهر رمضان المبارك 1441
ــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha