مدخل
--------------
تعد فترة الحرب الباردة الممتدة من 1945 لغاية سقوط الاتحاد السوفيتي مع مطلع العقد الاخير من القرن العشرين فترة اختلفت فيها مهام الاجهزة الاستخبارية الكبرى وغدت لها اهداف وعمليات وامكانات متضخمة مما ادى الى الكثير من الصراعات والحروب والمجاعات والفساد في العالم , وفي هذا المبحث سنتناول ابرز المتغيرات التي حصلت على طبيعة الاجهزة الاستخبارية خلال الحرب الباردة .
------------------------
تراجع الجنرالات
------------------------
يختلف المؤرخون في البداية التأريخية للحرب الباردة , فالبعض يجد انها انطلقت مع ضرب القنبلة الذرية على اليابان واختلال موازين القوى , والبعض يرى انها بدأت مع فصل المانيا الى شطرين
وكانت واجبات الاجهزة الاستخبارية قبل الحرب الباردة تتلخص بالعمل لصالح تحقيق الامن ومعرفة نوايا العدو وكانت معظمها منشغلة عن صراعاتها الجانبية بحكم مجريات تحالفات الحرب العالمية الثانية .
وما ان وضعت الحرب اوزارها , حان للدول الرابحة وقت قطاف النتائج واقتسام الغنائم والنفوذ , واختفت مشتركات جبهة الحلفاء لتبرز المميزات الايديولوجية التي تعيد تشكيل التحالفات , فالخاسرون في الحرب كإيطاليا واليابان كانوا مستسلمين لمصيرهم وبالنسبة اليهم كان العيش بصمت هو الافضل لهم , اما الفائزون فحان لديهم وقت التناحر والحرب من نوع آخر هي الحرب الباردة التي كانت اولى ملامحها شطر الالمانيتين بجدار برلين وبوابة نورمبرغ .
وما ان بدأت الحرب الباردة حتى اصبح الدور العسكري للدول في الخلف ليتقدم مدنيون يحلون تباعاً بدل الجنرالات ليتولوا ممارسة الاعيب لاتجيدها الجيوش ولا هيئات الاركان , فبرزت الى الواجهة الاجهزة الاستخبارية الكبيرة لتبدأ حقبة ناعمة المظهر لكنها قاسية في داخلها وهي حقبة الصراعات الاستخبارية .
-------------------------
حروب بلا قواعد
-------------------------
خلال عقود الحرب الباردة , اصبحت الاستخبارات الكبرى , عبارة عن جيوش سرية تعمل في الخفاء وتستبيح كل شيء وكانت سلطة داخل السلطة وتعمل خارجياً بالسيطرة والقتل والتخريب الاقتصادي والتجسس والحرب النفسية واسقاط الانظمة والاغتيالات والخطف والتفجيرات والمخدرات وسرقة الاسرار والحرب بالنيابة .
فكانت كل المؤامرات تدار في غرف الاستخبارات المحكمة , واخذت الاستخبارات دور الحلقة الضيقة التي تحيط بالقادة والزعماء بدل الجنرالات , واخذت تتحكم بالسلطة حتى وصل الحال انها كبرت لتتمكن من قتل زعامات بلادها اذا تطلب الامر .
فالاستخبارات التي كانت تتولى قبل الحرب الباردة حماية النظام , امست خلال الحرب الباردة هي النظام , حيث اخذت ادوار اكبر من الجيوش والدبلوماسية وصناع القرار واقنعت قيادات بلدانها ان بأيديها العصي السحرية للحلول.
فبسبب الامتيازات التي كانت تحصل عليها اجهزة الاستخبارات , اخذ الصراع يدب بين الجيوش والاجهزة الاستخبارية فترة الحرب الباردة , فاصبح داخل الدولة مساران متصارعان للتاثير على القرار السياسي هما , الجيش والاجهزة الاستخبارية .
وغدا الصراع السري وحرب الجواسيس على اشده , وتضخمت موازنات الاجهزة الاستخبارية وسمح لها بعمل اي شيء لتأمين الأموال لعملياتها , سواء بالمخدرات والتهريب والاختلاس وغسيل الاموال وتجارة الاسلحة .
تغولت الاجهزة الاستخبارية واصبحت ادوات قتل وجريمة وتآمر وكذب وخداع وتضليل وتلفيق , ولعل اشهر من تنطبق عليها تلك المواصفات خلال الحرب الباردة هي الاستخبارات الامريكية والسوفيتية .
-------------------------
خروقات وتطهير
-------------------------
امتازت فترة الحرب الباردة بالخروقات الكبيرة في اجهزة الاستخبارات من قبل الاجهزة المنافسة لدرجة اجبرت اجهزة الاستخبارات الغربية الى تبني عملية خفض العاملين الذين كانت الحرب تتطلبهم , مما جعل منها اجهزة رشيقة قادرة على مراقبة العاملين .
على العكس , ضلت الاستخبارات السوفيتية كبيرة الحجم والاعداد وتتزايد حتى وصل عدد مخبريها داخل الاتحاد السوفيتي الى ٩ مليون مخبر مما جعلها مترهلة ومثقله بالروتين الاداري رغم النجاحات .
كانت اشهر الخروقات تتمثل في الجاسوس كيم فيلبي القيادي في الاستخبارات البريطانية الذي كاد ان يصل الى ارفع منصب فيها ثم تبين انه جاسوس سوفيتي بإمتياز , وبالمثل نكبت الاستخبارات السوفيتية بفرار الضابط ايغور غوزينكوف من بناية السفارة السوفيتية في كندا ومعه وثائق استخبارية كشفت للامريكان معرفة السوفيت بتفاصيل البرنامج النووي الامريكي مع قائمة طويلة من الجواسيس في كندا وامريكا وكلهم من الموظفين , وكان من نتائج الخروقات الاستخبارية ان تمت حملات ضد الشيوعيين في امريكا فيما سمي بالحركة المكارثية وكذا بشكل اقل في بريطانيا , وجرى فيها خلال الفترة من 1947 لمدة عشرة سنوات حملة ضد الشيوعيين في كافة المجالات حتى الممثلين والفنانين باعتبارهم جواسيس محتملين للسوفيت .
---------------------
حروب بالنيابة
---------------------
بعد الضربة النووية الامريكية ضد اليابان وتصوير تدميرها الهائل , وبعد اصطياد العلماء الالمان في كافة الاختصاصات وتوصل الاتحاد السوفيتي الى قنبلته النووية حصل توازن الرعب بسلاح يكفي لتدمير عواصم العالم خلال ساعات , فكان لابد من تغيير لعبة الصراع الى صراع التجسس والتخريب والحروب بالنيابة , فأدركت كل الاطراف المتصارعة الكبرى ان السلاح النووي صنع للتوازن لاللإستخدام , ومن ثم استبعاد كل مامن شأنه الصدام المباشر , فجرى الاستقطاب الدولي والاحلاف المضادة كحلف الناتو وحلف وارشو , وتبنت الاستخبارات السوفيتية والامريكية بناء اجهزة استخبارات الدول الصديقة لها , ومثال ذلك اهتمام السوفيت ببناء استخبارات بولندا والمانيا الشرقية على مبدأ الولاء الى موسكو اولاً.
واندلعت حروب يقف خلفها الامريكان والروس دون خسائر بشرية منهم , فكانت الحرب الاهلية الصينية عام ١٩٤٩ وحرب الكوريتين عام ١٩٥٠ والحرب الاهلية في اليونان وصراع الالمانيتين واضطرابات شمال ايران والصراع العربي الاسرائيلي في الستينات والسبعينات , وصرت لاترى صراعاً في العالم الا وكان على كل طرف ان يختار بين الارتماء في احضان المعسكر الغربي او الاتحاد السوفيتي , الامر الذي دفع ببعض الدول بمحاولات لانجاح عدم الانحياز كالهند ويوغسلافيا , الا ان حركة التاريخ كانت قد حسمت لصالح الاستقطاب .
كانت الدول والانظمة تتغير برغبة الاجهزة الاستخبارية وكانت الانقلابات تقوم بدفع من اجهزة المخابرات وكان اغتيال الزعامات والرؤساء يتم بتخطيط من الاجهزة الاستخبارية المتناحرة , ولم تستطع – الا في حالات نادرة – القوى المعارضة للحكومات ان تخرج من ربقة التمويل الاستخباري للدول المتصارعة .
وكان كل من الامريكان والسوفيت يغرقون بعضهم البعض في صراعات عسكرية مع اطراف اخرى , فكان المستنقع الفيتنامي للامريكان الذي انسحبت ونجت منه بصعوبة , وكان مستنقع افغانستان في الغزو السوفيتي الذي اغرقت المخابرات الامريكية السوفيت فيه وكان من نتائجه سقوط الاتحاد السوفيتي واسدال الستار على مرحلة الصراع الاستخباري للحرب الباردة .
------------
خلاصة
------------
اثبتت احداث التاريخ المعاصر , ان اشد الحروب تأثيراً وسلبية هي حروب الاستخبارات وصراعاتها , وان مدافع القتال ماهي الا ترجمة لصراعات الثروة والسلطة والنفوذ , لقد نجحت الحرب الباردة كما نرى في منطقتنا الاسلامية والعربية في صنع قناعات وهمية لفصائل متصارعة لانستغرب ان تتولى احياناً جهة استخبارية واحدة تمويل طرفيها . ان الحرب الباردة هي حرب الكبار , والدور الوحيد للصغار وللدول المغلوبة على امرها هو ان تحمل السلاح وتتقاتل فيما بينها ولاينوبها الا الدمار والجوع والفساد وجنائز القتلى , فيما يقطف ثمار قتالها الاخرون الكبار المتصارعون, والله الموفق.
https://telegram.me/buratha