مدخل
-------------
التحقيق عمل ينظمه القانون مع المتهم او حول جريمة ما وليس من اختصاص الاستخبارات , الا في نطاقات ضيقة كالتحقيق الداخلي داخل الدوائر الاستخبارية او التحقيق مع اسرى الحرب او التحقيق في التسريبات اومع المراد تجنيدهم .
الا ان الامر لايعني ان دوائر الاستخبارات بعيدة عن مجريات التحقيقات لاسيما في الجرائم المنوط بها كشفها وتشخيصها , ذلك ان التحقيق يتم غالباً بعد القاء القبض على المتهم من قبل الجهات الامنية اعتماداً على التقارير الاستخبارية التي تحدد الاهداف المطلوب القاء القبض عليها , وان كان الامر ليس حتميا , فقد يتم اعتقال احد ما بناءاً على حادث معين او تبليغ من مواطنين لجهة امنية معينة او بالجرم المشهود.
ولكن في كل الاحوال فانه لابد للاستخبارات ان تطلع على التحقيقات التي تدور حول جرائم من اختصاصها كالتجسس والارهاب والمخدرات والجرائم الاقتصادية كالتزييف والهكرز وغيرها .
فالاستخبارات هي خير عون لقاضي التحقيق في تلك الجرائم , فهي التي تمد قضاة التحقيق المختصين بالخريطة العامة لتلك الجرائم وبكافة المعلومات التي تفيدهم عن التنظيمات الارهابية او المعادية , مما يتيح للقاضي التحصن من ان يتلاعب به المتهم .
وبالتالي هي التي تكشف لقاضي التحقيق الاعيب المتهم وزيف اقواله , كما انها تساعد القاضي في صياغة الكثير من الاسئلة , سواء تلك التي تكشف كذبه او الاسئلة التي تحتاج الاستخبارات لاجابات عنها لاكمال قطع الاحجية لكل تنظيم او عصابة ما .
-------------------
اهمية التحقيق
-------------------
وفق المعايير المتداولة في العالم المتقدم , فإن المختصون بالتحقيق يستثمرون عصاره الجهد الاستخباري , فعندما يتم اعتقال شخص استخبارياً , فالمفروض ان كل مراحل الجهد الاستخباري والجهد المكافح قد تم اجرائها وصولا إلى التحقيق .
فأصل الاعتقال ان هنالك خطوات عدة قد قامت بها الاجهزة الاستخبارية منذ لحظة تسلمها للخبر الذي بنت عليه معلومة قامت بتدقيقها وتحليلها والتهديف عليها وابلغت الاجهزة المكافحة التي قامت بالرصد الاخير ثم الاعتقال لتبدأ مرحلة التحقيق .
فالتحقيق هو المرحلة الثامنة من مجموع الجهد الاستخباري والامني مجتمعين, وهوالمرحلة الثالثة في تسلسل الجهد المكافح.
وتعتبر مرحلة التحقيق مرحلة فاصلة ومهمة بعد مجهود كبير من العمل الاستخباري , ويجب أن يكون متقن باحترافية لكي ينتج الصحيح والأفضل.
وحين يبدأ التحقيق لابد ان يتم عبر محقق محترف ومتخصص بنوع الجريمة او التنظيم الارهابي او العصابي , ليكون التحقيق ثمرة كل الجهود المضنية السابقة.
---------------------------
التحقيق الاستخباري
--------------------------
ان الغاية من التحقيق الاستخباري ليست إنفاذ القانون بل لغرض معرفة التفاصيل والسعي للتجنيد المزدوج او قطع الارتباط او تزويد العدو بمعلومات كاذبة او مكافحة الخرق الحاصل, اما التحقيق القضائي او الجنائي فالغاية منهما إثبات الجريمة وانفاذ القانون.
فضابط الارتباط ايضا يقوم بعمل تحقيق يتمثل باستنطاق المصدر والمخبر وتحفيز ذاكرة المخبر على الكلام حول اولويات الاستخبارات, اما ضابط التحقيق فهو من يسعى الى الحصول على الاعتراف وتعاون المتهم او ارغامه على قول ما يعرف من معلومات حول التنظيم او ما قام به من اعمال او عن خليته او عن واجبه او عن العناصر العامله معه.
ورغم ان الأسلوب العنيف هو الأسهل والاقصر لكن بمرور الوقت سوف يؤدي إلى ضياع الجهد الاستخباري بسبب تركم الاعترافات الكاذبة التي تقلب الحقائق وتخلط الأمور , وقد يسجل المحقق نصرا سريعا بانتزاع اعترافات بالقوة ويظهر بمظهر المنتصر , لكن الاعترافات الخاطئة التي تعطى لتجنب التعذيب سوف تسري في الاستخبارات بشكل معكوس وباضرار كبيرة على جهاز جمع المعلومات لاحقا.
--------------------------------
الهيكلة وتقسيم الواجبات
--------------------------------
لقد نوهنا في مقالات سابقة ان من اولى مهمات الهيكلة في دوائر الاستخبارات ان يكون هنالك تقسيم للعمل الاستخباري بحسب الاهداف او بحسب الجرائم .
ونعني بحسب الاهداف ان يكون لكل جهاز واجب محدد وفق جهة محددة يتابعها , فيتخصص جهاز بداعش وآخر بجيش النقشبندية والبعث وهكذا .
اما التخصص بحسب الجرائم فنعني به ان يختص جهاز بالمخدرات واخر بالارهاب وثالث بالتجسس ورابع بالجريمة الاقتصادية ...الخ , ويمكن ان يتم احيانا الجمع بين تخصص جريمة ما وهدف ما او ان يكون لجهاز ما اكثر من هدف .
ويتبع هذه الهيكلية ان يكون لكل نوع من تلك الجرائم قاض او قضاة تحقيق وقضاة محاكم مختصون ايضاً وفق اهداف او جرائم محددة , فيكون هنالك مثلاً هيكل قضائي مختص بالمخدرات وعصاباتها وهيكليتها (وفق المعلومات المتاحة له من الجهاز الاستخباري المختص) وهكذا مع باقي الجرائم والاهداف او كليهما .
ان التخصص وفق تلك المهام سيجعل التحقيق مع المتهمين متقناً ولامجال فيه للتلاعب ويوفر دورة كاملة من المعلومات الدقيقة والمتقاطعة وتمنع المجرمين من الافلات من قبضة العدالة .
ولانعني بذلك ان نصنع تعدد سلطات قضائية وانما ان يتم ذلك وفق المعايير التي حددها القضاء والقوانين التي يعمل بها , ويكون القضاة منسبون من قبل اجهزتم القضائية العليا التي يتبعونها ادارياً.
كما اننا لانعني ان يجوز لهؤلاء القضاة مالايجوز لغيرهم , فهم يطبقون القانون ويحمون حقوق المتهمين , وكل مافي الامر انهم يتخصصون في نوع معين من القضايا مما يجعلهم ملمين بها ومنسجمين مع الاجهزة الاستخبارية المختصة في مجال تبادل المعلومات وتوثيق اسماء الاشخاص العاملين في اوساط المجرمين كعيون ومصادر للاجهزة الاستخبارية, ومن هنا فان بيئة التحقيق هي من الاهمية بمكان للاجهزة الاستخبارية.
وهو امر لايتم مالم يخضع المحقق وجهاز التحقيق لدورات تدريب بمستوى عالٍ من المعلومات عن اساليب التحقيق العلمية واساليب الضغط النفسي ومواجهة المتهم بالحقائق والاسئلة والترغيب والترهيب واعتماد افضل طرق التحقيق العلمي وتطوير قدرات المحققين وحمايتهم وتنظيم مؤسسة تحقيقية محترفة على اسس عالية من الخبرة بالقانون وعلم التحقيق وعلم النفس.
------------------------
نتائج الفوضى
------------------------
ان احد ابرز مشاكل مكافحة الارهاب في العراق هو الفساد المستشري في المؤسسة القضائية وعدم تخصيص جهاز قضائي ومحكمة مختصة لمكافحه الارهاب تواكب الجهد الامني والاستخباري.
فكما ان هنالك محقق مختص , يجب ان يكون قاضي مختص وسجن مختص وجهد حكومي مختص وجهد دبلوماسي مختص لمكافحة الارهاب , فمواجهة الجهد الارهابي السري يحتاج مؤسسة تحقيقية متخصصة ومحترفة مسؤولة عن اي ارهابي يعتقل , ومتمركزة في مكان واحد لاستيعاب الارهاب.
ولقد ادى اهمال علاقة الاجهزة الاستخبارية بالتحقيقات التي تمت مع الارهابيين طيلة الاعوام الماضية الى تمكن الكثير من الارهابيين المحترفين من التلاعب بالمحققين غير المتخصصين من خلال اجابات مفبركة ومعلومات زائفة اضاعت فرص كبرى للامساك باعوانهم وخلاياهم وتمكنوا من اضاعة الوقت الثمين الذي مكن خلاياهم من التخفي والهرب .
وادى فقدان الانسجام وعدم التكامل في العمل بين المحققين القضائيين والاجهزة الاستخبارية الى ضياع الكثير من الادلة والتحليلات والى افلات ارهابيين كثر من العقاب لأن جرائمهم وارتباطاتهم السرية بقيت طي صدورهم او داخل اضابير التحقيق.
وزاد الطين بلة تعدد الجهات التي كانت تعتقل وتحقق كالوحدات العسكرية والامنية والشرطوية وغيرها , فكانت النتيجة ان يصدر مجلس القضاء الاعلى بين الحين والاخر قوائم بمتهمين بالارهاب تم الافراج عنهم لعدم كفاية الادلة باعداد هائلة , اما بسبب قصور التحقيقات او ضياع الادلة , او لأن اعتقال الكثير منهم تم دون تدقيق كامل او بشكل عشوائي بسبب نقص المعلومات حيث تم بلا اعترافات او مصادر او مخبرين او شهود او بلاجرم مشهود , وعدم ضبط مسرح الجريمة وعدم وجود ادلة او خدمة جنائية وطب شرعي.
ان اخبار اطلاق سراح الالاف من المعتقلين دوما بسبب عدم كفاية الادلة يولد علامات استفهام كبيرة حول المطلق سراحهم ولماذا اعتقلوا؟ وكيف تم زجهم بالسجون ؟ومن وراء ذلك ؟هل هي عدم كفاءة الجهاز الاستخباري ؟ او عدم كفاءة جهاز المكافحة والتحقيق؟ او ان الاجهزة الامنية تبادر الى ردود فعل بعد كل حادث وتعتقل اناس ابرياء لا تستطيع اثبات تورطهم بالعمل او الحادث؟ او هي عدم كفاءة جمع الادلة؟ او فساد في المؤسسة القضائية؟ او اياد خفية تريد زيادة نقمة الناس على الحكومة بالاعتقالات العشوائية؟ ام ان هناك حالات ابتزاز اثناء الاعتقالات؟ او طمس للادلة في فترة التحقيق؟ وهي اسئلة مشروعة نتجت عن اهمال الاجابة عليها انهار من الدماء.
----------------------------------
فرص التحقيق الضائعة
----------------------------------
لقد اثبتت التجارب ان الارهابي سرعان ما يتهاوى امام التحقيق وبسرعة كبيرة , لكن فقدان روح الهمة والوطنية في التحقيق منعنا من استثمار هذا الانهيار, فالتحقيق كنز كبير لتجنيد عناصر الارهاب لوكانت هناك مؤسسة امنية قوية ومحترفة .
لقد كان يمكن تصوير اعترافات المتهمين (ممن لم يتورطوا بالدماء) واستغلالها عبر. ابتزاز الارهابيين والتهديد بفضحهم مالم يتعاونوا ويصبحوا عملاء لنا داخل تنظيماتهم الارهابية , حيث تقوم بعد ذلك الاستخبارات باطلاق سراحهم بالتنسيق مع القاضي المختص ليصبحوا مخبرين للاستخبارات عن طريق ابتزازهم بفضح اعترافاتهم .
ولو كان هكذا مشروع لدينا لاصبح الارهاب بعد سنوات في قبضتنا تماما من كثرة المخبرين الملزمين بالعمل معنا , ولكن ضياع فرص التجنيد اثر التحقيق ظل من الفرص التي لايمكن نسيان اثرها .
في الدول المتقدمة يتم تشكيل شرطة عسكرية مختصة ضمن وحدات الجيش تأخذ على عاتقها ادارة معتقلات الاسرى فيما تكون الاستخبارات العسكرية مسؤولة او مشرفة على التحقيق معهم بشكل مركزي وموحد .
ان الغاية من ذلك هي تحقيق المركزية ووحدة التحقيق ولكن للاسف في العراق هناك معتقلين بيد استخبارات الجيش واخرون بيد استخبارات الداخلية واخرون بيد استخبارات الحشد واستخبارات البيشمركة مما افقدنا المرجعية التحقيقية المركزية مع عناصر داعش المعتقلين , وقد اضعنا بتلك الفوضى الكثير من ربط المعلومات وفائدتها ونتائجها وتبعثرت الاوليات والسوابق .
لقد كان لابد من بناء جهة تحقيقية واحدة وقضاة محكمة واحدة وسجن واحد ونتائج موحدة وهو ماتنبهت له الدول المتقدمة , فهجوم ارهابي واحد في دولة اوربية تبعته حالة طواريء وقرارات طواريء ومحكمة طواريء و تحقيق واسع وشامل ومتمركز في ادارة واحدة, اما في العراق فلا توجد محكمة للارهاب ولا جهة مسؤولة عن مكافحة الارهاب , اي لايوجد تحقيق متمركز عن الارهاب.
ان احدى ابرز مشاكل التحقيق هي التوثيق الصحيح الاولي السريع الذي يجب ان يكون في فترة سريعة للحصول على معلومات حية وسريعة ومهمة عن العدو .
فيجب ان تكون لدينا مؤسسة تحقيقية قادرة على الشروع بالتحقيق الفوري مع المتهم , لا ان يترك في التوقيف لعده ايام يستغلها العدو فيقوم بتغيير كل ما يمكن ان يلحقة من ضرر من جراء اعتقال احد افراده, كـأن توارى عناصر الخلية واستبدال الوكر وغيرها من تحوطات.
ذلك ان التنظيمات الارهابية تشدد على منتسبيها على ان يصمدوا لفترة زمنية محددة (كيوم واحد مثلاً) قبل ان يدلوا بأية اعترافات , ليتسنى للتنظيم تقليل الضرر واخذ التحوطات .
كما اننا نفتقر الى نموذج معلومات موحد لدى كل مراكز التحقيق يتضمن كل المعلومات الواجب استحصالها عن شخصية المعتقل او المتهم بشكل دقيق وكل تفاصيله قبل شروع التحقيق, مما سيتيح لنا ان نبرمج معلوماتنا ونطابقها دون الضياع في التفاصيل .
------------
خلاصة
------------
ان احد اكبر مشاكل الجهد الاستخباري في العراق هو ضعف الجهاز التحقيقي وقله عناصره والضعف الهائل في الكفاءة وعدم وجود نوع من الاختصاص والدورات التدريبية اللازمة وعدم توافر الحماية الكافية للمستنطق والمحقق مما يجعله عرضة للانتقام لاسيما بعد اطلاق سراح الآلاف من الارهابيين بسبب عدم كفاية الادلة التي تعكس عدم كفاءة التحقيق والمحققين.
فالكثير من الجهد الاستخباري ضاع بسبب ضعف الجهاز التحقيقي او عدم الاعتناء به والركون الى فكرة واحدة تتمثل في ان التعذيب والضرب هما اقصر طريق لإنهاء ليلة التحقيق , وهذا خطأ فادح , والله الموفق.
https://telegram.me/buratha