===========
نبذة تاريخية
===========
لقد تنامى الفكر المتطرف وبرز في المجتمعات العربية والاوروبية في العصر الحديث في الثلث الاخير من القرن الماضي بلباس يساري تمثل في التنظيمات اليسارية ذات النزعة التحررية العنيفة شرعنت لاعمال التفجيرات والخطف وخطف الطائرات واحتجاز الرهائن والتنظيمات الميليشياوية .
وكانت المجتمعات تنظر لتلك الاعمال تحت بند البطولات والاعجاب بالعمليات الجريئة لاسيما وان فكرة اصطلاح الارهاب لم تكن قد تبلورت بشكلها البشع , ولان طبيعة العمليات كانت تستهدف فئات محددة غير عشوائية ترتكز على فكرة المظلومية والتحرير , فتشكلت تنظيمات حركات التحرر الفلسطينية في البلدان العربية التي قامت باعمال كان ينظر لها بالبطولية كخطف الطائرات وتفجير المستوطنات الاسرائيلية وضرب مصالحها في العالم , وبرزت تنظيمات اوروبية مشابهة كثوار الباسك وبادر ماينهوف والالوية الحمراء والجيش الايرلندي السري
وكان التعاون بين الجميع يجري على قدم وساق , بمشاركة حكومات كانت ترعى تلك الاعمال تحت مختلف اليافطات والواجهات كما هو حال ليبيا في حادثة لوكربي وسواها , وساعدت الحرب الباردة بين امريكا والاتحاد السوفيتي في تنامي تلك الحركات وشرعنة اعمالها وتقديم التسهيلات لها في كل انحاء العالم وبمختلف اشكال الدعم .وما ان تهشم الاتحاد السوفيتي ترنح المد اليساري المتطرف وتوحدت الالمانيتين بتحطيم جدار برلين, فطغى نزوع اوروبا الى التوحيد , وتمكنت من حلحلة ازماتها مع تلك التنظيمات المتطرفة سلمياً , فانحسرت التنظيمات المتطرفة لديها وتفتتت, وجنحت الكثير منها الى التحول الى العملية السلمية كما في الجيش الايرلندي السري مع بريطانيا وثوار الباسيك مع اسبانيا .
وجرى ذات الشيء عربياً , فبعد انحسار الحرب الباردة اصبح هنالك مزاج عالمي لنبذ اي شكل من اشكال التطرف العسكري ونتج عنه النزوع الى الحلول القانونية السلمية توجت باتفاق اوسلو وماتبعه من انطواء موجات العنف التحرري الفلسطيني , لم تجد معه التنظيمات الفلسطينية من طريق للاعتراف بها الا بان تنبذ العنف واقامة الدولة الفلسطنية.
وبرغم انطواء صفحة العنف الثوري اليساري في المنطقة العربية , الا ان شحنات العنف لم تخبو جذوتها في المنطقة العربية فبرزت حركات تنادي بتحرير القدس بشعارات متطرفة بصبغة اسلامية , تخوّن اي اتفاق اممي لحل القضية الفلسطينية , وصاغت تلك الحركات شعارات براقة بغلاف اسلامي قومي .
وكانت بداية النهاية لتفتت الاتحاد السوفيتي تتمثل في التدخل في افغانستان والذي لم يكن ممكناً ان تسكت عنه امريكا لاسيما اثر خسارتها لاهم قاعدة مخابراتية لها في ايران اثر الثورة الايرانية وهروب الشاه . فكان من المنطقي ان تسعى امريكا للتعويض عن خساراتها المتلاحقة في ردم الجدار الذي اخترقه السوفيات للوصول الى الخليج (المياه الدافئة) , ولم تجد بدّاً من ان تقوم من خلف الستار باستدعاء العدو التقليدي للشيوعية , فكان ان تلقفت النزعة الاسلامية (المؤمنة) للوقوف ضد الشيوعيين (الكفار).
فبدأت صفحة التنظيمات السلفية المتطرفة بتمويل مالي سعودي وبشري مصري , وتم تجييش تنظيمات من (المجاهدين) وارسالهم لافغانستان , لتبدأ قصة التنظيمات الارهابية الاسلامية التي تخرجت منها القاعدة وداعش وسواها .
فانتقل شكل التنظيمات المتطرفة في العالم من تنظيمات اليسار المتطرف المتشكل على الارضية الثورية في ستينات وسبعينات القرن الماضي مدعوم (او مسكوت عنه ) سوفياتياً , الى تنظيمات متطرفة يمينية متشكلة على اسس سلفية اسلامية مشوهة مدعوم (او مسكوت عنها) امريكياً .
ولكن علينا هنا ان نلتفت الى نقطة جوهرية هامة , وهي ان بذور التطرف الاسلامي التي سهل معها تشكيل التنظيمات الاسلامية المتطرفة , لم تكن صناعة امريكية او روسية وانما كانت للاسف صناعة مجتمعية عربية دينية خالصة نابعة من تشوهات فكرية وتاريخية اسلامية خالصة ضاربة في الجذور .وقد ساعدت جلافة البداوة والصراع المذهبي وتحول الاسلام من دين الى دنيا وملك عضوض على ايدي ملوك وسلاطين كان كل همهم السبي والجواري وجبي الاموال وقمع الانتفاضات بالحديد والنار فبرزت طبقة وعاظ السلاطين التي افسدت دين الناس وحرفت الاحاديث ولوت عنق الايات بتفسيرات ترسخ للقتل والذبح والتخلف وبكل مايدعِّم حكم السلاطين حتى لو كان الامر يصل الى قتل الاولياء الصالحين اياً كانت مكانتهم ,بل حتى لو وصل الامر بضرب الكعبة بالمنجنيق .
وكان لابد من ان يتم اضفاء القدسية على كل الافعال الشنيعة والتفسيرات المشوهة للاسلام , لايقاف اية امكانية للاصلاح , فلم يعد القران هو الكتاب المقدس الوحيد في الاسلام , وانما اصبحت مكانة الحاكم مقدسة والصحابة مقدسون جميعا , والتفسيرات وكتب الاحاديث مقدسة حتى لو احتوت على مالايحتمله عقل او منطق , ووصل الامر عبر قرون حتى سقوط الدولة العثمانية , فاذا نحن امام انواع لاتحصى من اشكال النظم الاسلامية , بل الى اشكال من الاسلام تمزق المجتمع معها الى فرق وطوائف ونزعات خطيرة من التطرف , وصار لكل مجتمع مجموعة من الوعاظ الذين بيدهم وحدهم احتكار كلمة السر الى الجنة والايمان لاسيما مع انقطاع شبه تام عن حركة الامم في التقدم والتطور والمزاج والفكر التربوي.
===========
عوامل تربوية
===========
ان هنالك خمسة عوامل رئيسية في البناء التربوي لأي مجتمع تلعب دوراً محورياً في بناء الانسان وتحدد نظرته للعالم والمجتمع , منها ماهو فردي كالعائلة , ومنها ماهو جمعي وهي القوانين والضوابط الحكومية والاعلام والعملية التربوية والمؤسسات الدينية , ولم يعد ممكنا ان نلتفت الى بناء مجتمع سوي ينبذ العنف والتطرف ويجنح للسلم مالم نهتم بتلك العوامل الخمس .
لقد عانى العراقيون طيلة العقود الاربع من القرن الماضي من ابشع انواع الانحدار في عوامل بناء المجتمع السوي آنفة الذكر , فكان كل مايحيط بالعراقيين جمعياً بيد السلطة الغاشمة .
فكان الاعلام الحكومي هو السائد والمتسيد الوحيد الذي كان يعبث بالبناء المجتمعي ويشوهه بالتوجهات الثورية الزائفة , ويرسخ فيه التملق والرهبة والصراخ ليل نهار بالتغني للقائد الذي جرى تصويره بالضرورة التاريخية التي لافكاك منها .
وكانت المدرسة والجامعة هي الوجه البشع الثاني في تلويث الطفولة وتجييشها بالزي العسكري(طلائع وفتوة ومهمات خاصة وجيش شعبي) وبترسيخ الاغاني الثورية والسلاح والعقلية الحربية والاناشيد الحماسية التي لامجال فيها للسلم , فكانت مصطلحات الفدائي والدم والقتال والبندقية و التهليل للمعارك والصنمية , حاضرة في المفردات التي جرى ترسيخها في اذهان الطفولة البريئة بالتوازي مع فكرة نظرية المؤامرة الكونية ضد العراق والعروبة , ووصل الامر في توريط الاطفال ليكونوا جواسيس على احاديث اهاليهم , فكان دور العائلة ينحسر بالاستسلام امام التشويه التعليمي المتعمد .
وكان دور الدولة والحكومة يتلخصان بالعائلة المالكة للسلطة , فكان القانون العوبة بيد الحزب الحاكم , والحزب الحاكم العوبة بيد العائلة الحاكمة , وزاد الطين بلة التوجه القومي الشوفيني للدولة ومغامراتها الحربية التي جرى وفقها تحويل العراقيين من سجناء في بلدهم الى ضحايا حروب ومغامرات طائشة مزقت المجتمع وافقدته صفة المدنية والتحضر .
واوصلت الدولة الهشة العراقيين الى سنوات الحصار والتشرذم والتشتت وتشوه المجتمع وصولاً الى جرعة التخلص من النظام الدكتاتوري المريرة بالاحتلال الامريكي , وماتبعه من انهيار للدولة ومؤسساتها وترسيخ للفكر الطائفي في بنية الدولة والمجتمع المشوّهين بالاساس.
ولم تسعى احزاب مابعد السقوط خلال 13 عام الفائتة الى الالتفات الى اصلاح التشوهات المجتمعية, بل ان تلك الاحزاب قد ساهمت في اضافة عبء تناقضاتها وتشوهاتها وعراكها وفسادها وصراعها على السلطة , الى عمق المجتمع العراقي الذي صار مصداقاً لقول الشاعر :كالمستجير من الرمضاء بالنار!!!!!!.
فاذا بتلك الاحزاب تفتح دكاكينها الاعلامية وتنشر من خلالها خطابات تزيد من العنف الطائفي وتزيد الهوة بين مكونات المجتمع العراقي وتسعى هي الاخرى الى فكرة التجييش والعبث بالنسيج المجتمعي .
وسهل تناحر الاحزاب فيما بينها الى مزيد من العنف , بل والعبث بالمؤسسات الامنية الحكومية , ونتج عن ذلك فتح الطريق على مصراعيه الى تدفق التنظيمات الارهابية واستقرارها في الحواضن التي رحبت بها كرد فعل على التجييش الطائفي في وضع اتاح لاستباحة العراق من قبل دول الجوار.
===========
دواليب الدم
===========
ان الوضع التربوي السوداوي في ظل كل ماسبق من احداث ومتغيرات في بنية المجتمع العراقي يتطلب وقفة جادة في كل المجالات المجتمعية والتربوية ابتداءاً من المدارس والجامعات ودور العبادة ومنظمات المجتمع المدني والاعلام والانشطة الثقافية وصولا الى دور الدولة الهام في نزع فتيل العنف المجتمعي .
فلابد ان تتم مراجعة شاملة للمناهج الدراسية لالغاء كل مامن شأنه بث البغضاء واية عبارات خلافية , والابتعاد عن كل مايثير مكامن غريزة العنف وابدالها بتشجيع تقبل الاخر اياً كان بغض النظر عن الدين والمذهب والعرق .
كما يجب ان تعمد الدولة الى ابعاد المظاهر المسلحة عن الاطفال والمدنيين , ومنع تداول الاصطلاحات العسكرية والمظاهر المسلحة من الشارع العراقي , فلايمكن ان نسعى لمدنية المواطن والدولة وسط تعبير سائد لاستخدام السلاح في الفواتح والافراح وحتى في فوز المنتخب الوطني لكرة القدم ناهيك عن استيراد الالعاب الحربية كالدبابة والرشاشة والمسدس والعاب الفيديو الدموية التي تشجع على السرقة والعنف والقتل , ولابد من منع تداول الصور الوحشية للمعارك والذبح وتعليق الرؤوس والاعدامات في كافة المواقع الاعلامية وحتى مواقع التواصل الاجتماعي , وسن القوانين والضوابط التي تجرم كل اشكال بث العنف والكراهية .
لقد تنبهت التنظيمات الارهابية الى اثر العنف على الاطفال فباتت تجندهم في الاماكن التي تسيطر عليها وتربيهم على مناظر الدماء لترسخ فيهم النزعة الارهابية كما حدث في الموصل والرقة المحتلتين .
ان انحسار الدور التربوي في ابعاد ايحاءات العنف عن شبابنا واطفالنا سينتج لنا جيلاً يرى رجولته ناقصة مالم يتمنطق ببندقية او مسدس او بزة عسكرية مرقطة , وهي فكرة بشعة سيكون من الصعب اقتلاعها والقضاء على اثارها , وسيكون لها اثراً سلبياً خطيرا على الامن والاستقرار .
وقد باتت اثار التشوه في افكار شبابنا واضحة في نزوعهم للعنف وللتناحر والتخاصم السريع في ابسط نقاش فيه اختلاف لوجهات النظر , وبانت عوامل الانهيار التربوي في عدم تقبل الاخر والاسراع في التخوين والمزايدة في الوطنية والتكفير وتحقير الانتماء المذهبي والعرقي , بل وحتى في ارتفاع جدار الموانع المذهبية في الزيجات وفي الصداقات , وهو منحدر خطير جدا.
لقد بات من الضرورات القصوى التنبه الى دور التربية الاسرية والمدرسية والاعلامية لترسيخ قيم المواطنة وجعلها الاساس في العلاقات الاجتماعية , فالاستقرار الامني هو انعكاس للامن المجتمعي , والامن المجتمعي لايتم الا بترسيخ القيم , وترسيخ القيم لاتتم الا من خلال ضوابط تربوية صارمة طاردة ونابذة لكل مامن شأنه تعكير صفو العلاقات الاجتماعية التي تعتمد في اساسها على الاسرة المتوازنة والمناهج المتوازنة والخطاب الديني والاعلامي المتوازن , وبدون ذلك سيبقى مجتمعنا غير متوازن وميال الى تقبل العنف الذي يستدعي العنف المقابل والى تفتت المجتمع , وحينها لاتنفع اية حلول عسكرية او قضائية او بوليسية لايقاف دواليب الدم.
https://telegram.me/buratha