========
مدخل
========
ذكرنا في حلقات سابقة من هذه السلسلة , ان الاستخبارات تقسم وفق جغرافية عملها الى ثلاثة اقسام هي الوقائية والدفاعية والهجومية .
وسنتناول في هذه الحلقة اهم مصاديق الاستخبارات الوقائية , الا وهي الاستخبارات الجنائية , والتي تختلف تسميتها عالمياً فتسمى تارة بالجنائية او استخبارات الداخلية . وزارة الاستخبارات . السلامة الوطنية .الأمن الوطني . المراقبة الوطنية .استخبارات الشرطة وفي امريكا تتمثل بال اف بي آي , وكانت تتمثل في زمن نظام الطاغية بمديرية الامن العامة, ومن المفروض أن تمارس وكالة المعلومات في وزارة الداخلية هذا الدور الان ومعها جهاز الامن الوطني ويكون الإنتربول هو بمثابة المركز الدولي للاستخبارات الجنائية .
===================
نطاق واجبات الاستخبارات الجنائية
====================
تعتبر الاستخبارات الجنائية وكالة حكومية لفرض القانون و إنفاذه , تعمل على مجموعة أنشطة مترابطة تتعلق ببعضها البعض , حيث تعمل باستمرار لتجميع المعلومات وتحويل البيانات إلى منتجات استخبارية من خلال نشر المخبرين والبحث والتحري والاستجواب والمراقبة والتحليل والتدقيق وبناء مركز معلومات جنائي وأحصاء مستمر فهي عين المؤسسة القضائية والمفروض انها الجهة التي تستطيع إنفاذ القانون وتبنّي العلاقة المفقودة بين مسرح الجريمة والمجرم وتعالج الجريمة والجريمة المنظمة والارهاب السري, ونعني بدورها في معالجة الارهاب السري , ان الاستخبارات الجنائية هي المعنية بالخلايا النائمة للتنظيمات الارهابية , وبكشف الحلقات الارهابية ومنع اعمالها لاسيما في نطاق المدن التي يعمل بها الارهاب بسرية , اما في حالات سيطرة الارهاب على مدن ومجابهة الدولة له مجابهة عسكرية كما هو حاصل في مناطق الفلوجة والموصل , فهنا يكون العمل الاستخباري عملاً عسكرياً ميدانيا وليس جنائياً.
====================
الذكاء والدقة او التخبط والعنف
====================
هنالك ثلاث طرق توصف بها الاستخبارات الجنائية للدول وهي :
1-الذكاء 2-الدقة 3-العنف
ففي الذكاء , نرى ان الاستخبارات الجنائية كلما انتشرت بشكل واسع وكبير وحصلت على ثقة المواطن وكانت لديها شبكة كبيرة من المصادر والمحللين الأذكياء , وأعطت دوراً لدراسة علم النفس الجنائي واستثمرت رد فعل الجمهور على بشاعة الجريمة و تدربت بشكل جيد واجهدت رجالها بالتدريب المستمر وطبقت أخلاقيات حقوق الإنسان و تواجدت في البيئة والحواضن وإماكن الجريمة والارهاب , فهي تعتبر من الأجهزة الذكية , ومثاله ان يقوم جهاز استخباري باعتراض طائرة ركاب متجهة من دبي إلى الباكستان من خلال طائرات حربية , ثم يحدد الهدف مباشرة في المقعد الذي يجلس فيه المجرم ويتم اعتقاله , كما حصل عام 2010 في اعتقال المدعو عبد الملك ريغي من قبل الاستخبارات الإيرانية,هنا نحن نتحدث عن استخبارات ذكية .
اما في معيار الدقة , فيتم بارتقاء الاعتماد على التكنولوجيا , كالبصمات , ال دي أن أي , بصمة العين , الكاميرات , أنظمة المراقبة الإلكترونية , مراقبة الإشارة , أجهزة كشف الكذب , تطبيق مبادئ العلم الجنائي الفني , اجهزه السونار وغيرها , ففي عام 2013 حصل تفجير في مدينة بوسطن الأمريكية أثناء مسابقة ماراثون كان فيها 27 الف متسابق وحضور عشرات آلاف من المواطنين وحصل تفجير مزدوج, ولم يمض يومان حتى أعلنت الحكومة الأمريكية اسماء الفاعلين الأخوين (تامرلان تسارتاييف وشقيقه الأصغر جوهر)واعتقالهم في زمن قياسي , وهو مثال عن الدقة في العمل الاستخباري.
اما بالنسبة للعنف , فان بعض الاجهزة الاستخبارية تتبع اساليب فضّة بالعنف والقهر والتهديد لاستحصال المعلومة من المشتبه به أو المتهم وحتى من المصادر والمخبرين كبديل وحشي لتغطية اخفاقاتها , وكان هذا أسلوب الأجهزة القمعية للنظام السابق في العراق وايضا أسلوب أجهزة الاستخبارات السورية والعديد من أجهزة استخبارات الشرق الأوسط , وهكذا أسلوب ينهار بمجرد تباين ضعف السلطة , فالمصدر والمخبر يتحرران من عقدة الخوف, وسرعان ماتصاب تلك الاجهزة بالتخبط والبطش المصحوب بالفشل.
وبالطبع فان الاستخبارات الناجحة هي التي تجمع بين الدقة والذكاء والحزم , والحزم هنا ليس العنف.
===================
اخفاقات ثمنها الدماء
===================
هنالك قاعدة استخبارية ذهبية تقول , كلما اقتربت من العدو ترتفع استخباراتك وينخفض امنك , وكلما ابتعدت عن التماس مع العدو انخفضت استخباراتك وارتفع امنك .
فحين تكون بتماس مع العدو , حينها تتلمس خطواته وتسترق السمع الى انفاسه وسكناته وتتنبأ بخطواته لان قربك منه يرفع من منسوب قدرتك الاستخبارية على رصده , وفي ذات الوقت فان التماس مع العدو يهدد امنك لانه يستهدفك بكل اسلحته كونك بقربه , وعلى العكس , كلما زاد بعدك عن العدو ازداد شعورك بالامان وفي ذات الوقت قلت فرصك الاستخبارية في رصده , اذن كلما اقتربنا من العدو زاد اعتمادنا على الاستخبارات , فمابالك اذا كانت المسافة بيننا وبين العدو(بدرجة الصفر كالارهاب) معدومة ؟ حينها لابد من ان يكون العمود الفقري لعملنا هو الجهد الاستخباري .
ان احد أكبر اخفاقات المؤسسات الامنية والعسكرية لدينا هو اخفاقنا في الاستخبارات ولاسيما الاستخبارات الجنائية , فقد عملت تلك الاجهزة بسذاجة لاترتقي الى حجم الدماء التي كانت ولازالت تسيل .
فكان , ولازال , العمل الاستخباري الجنائي في مسرح الجريمة هو بحد ذاته جريمة لاتغتفر , فان تأتي الاطفائية وتغسل مكان التفجير وتعدم كل آثار الجريمة (من سيارة أو دراجة مفخخة أو نوع المتفجرات أو نوع العبوة أو نوع السلاح ) كارثي بكل المقاييس , اضافة الى عدم الاهتمام بالتوثيق الجنائي والبصمات والمعلومات عن المجرمين واعترافاتهم واختفاء التغذية العكسية للاعترافات واهمال السجل الجنائي ووصف الجريمة وسذاجة التقييم والارتجال في استنطاق الشهود وفقدان التكنلوجيا و الكاميرات وعدم وجود شبكة المخبرين المحليين وفقدان الإرادة وحس المسؤولية وعدم التخصص , كانت كلها بمثابة كوابيس واخفاقات مريعة.
وقد سعى المعنيون بالعمل الاستخباري على تعمية اخفاقاتهم عن رأس الدولة من خلال سلسلة من التقارير المزيفة والاكاذيب والتضليل المنمق والمحترف , فعند حدوث تفجير تسارع الأجهزة الامنيه إلى الإعلان عن كشف الخلية أو العصابة خلال يوم او يومين وسرعان ما تنسى ولا تسألهم الحكومة عن النتائج ولماذا لم يكشفوا الخلية قبل الحدث؟؟ , وحين تضرب بغداد بسبعة سيارات مفخخة تعمد الاجهزة الاستخبارية الى تغطية فشلها بالادعاء انها اكتشفت وابطلت عشرة سيارات مفخخة اخرى كي توحي بانها موجودة وتعمل.
وتعمد الاجهزة الاستخبارية لاخفاء وهنها وضعفها الى الاعتقال العشوائي المريع , وهو الامر الذي ادى الى اعتقال عشرات الالاف من الابرياء دون مسوغات قانونية وبمعلومات مضللة , الغرض منها اثبات جدية الاستخبارات لدينا .
وكان من نتيجة ذلك اضطرار الجهات القضائية الى اطلاق سراح عشرات الالوف ممن لم تثبت عليهم التهم , ولكن بعد ان تم تحطيم معنويات المعتقل وتحويله الى عدو محتمل وجاهز للانتقام من خلال التجنيد في صفوف الارهاب .
وقد كان لزاماً على الحكومة أن تعاقب وتحاسب قادة الأجهزة الاستخبارية بعد كل وجبة تطلقها السلطة القضائية من المتهمين المفرج عنهم لان برائتهم تعني زيف معلومات القبض عليهم.
============
تغطية الفشل
============
لعل اكبر جريمة ارتكبت بحق الشعب في الحكومات المتعاقبة هي عدم بناء اجهزة الاستخبارات والامعان في تعيين قادة فاشلين عليها مما ادى الى تضخم المؤسسات الاستخبارية وفشلها في ذات الوقت , وزاد الطين بلّة حكومياً في عدم محاسبة المسؤولين عن الفشل واقصاء ذوي الكفاءة عن ادارة تلك الاجهزة الحساسة متغافلين عن الثمن الغالي للفشل والذي لايحتمل التجريب لان الثمن هو الدماء الغالية , وصار القاء اللوم عقب كل تفجير يتم بسذاجة متناهية .
فعندما يحدث تفجير يحاسبون القوة الموجودة في المنطقه ويقولون لهم لماذا لم تمنعوا الانتحاري , او انهم يشيدون بقوة ما او فوج ما , لان في عهده لم تحدث تفجيرات؟!!!!, وكأن العمل الارهابي السري وخلاياه النائمة صار يعالج بالقوة العسكرية وليس بالكشف الاستخباري , وهو امر ينم عن سذاجة بالغة وتصفية حسابات على حساب الدماء التي تسيل .
ان الامر الجلي ان ضعف استخباراتنا الجنائية هو السبب الجوهري للانهيارات الامنية المتتالية , فقد تعودت استخباراتنا ان تطلق تحذيرات عامة لاقيمة لها ولاتتمكن معها القوات الامنية من الامساك بالمجرمين او منعهم , فحين يقول تقرير استخباري (توجد عجلات مفخخة سوف تفجّر في بغداد ) , دون تحديد نوعها وارقامها واين ستنفجر ومتى , فانه تقرير كاذب وادعاء لاقيمة له , وفي اقصى حالات حسن النية فانه ليس تحذيراً يليق بمؤسسة استخبارية ولايدل عن معرفة واختراق للعدو وكأنه تحذير من راعي غنم بدوي يرى رتلا لداعش متجه من الفلوجة الى اطراف بغداد !!!!! وهذا انتحار استخباري في الدول المحترمة يستدعي طرد صاحب هذا التقرير فورا.
ففي علم الاستخبارات تعتبر المعلومة العائمة مجرد اشارة استخبارية لاترفع بتقرير للمسؤولين وانما لابد من استكمالها , ولكن في العراق تنقل الاشاره الاولى بكتاب رسمي يعمم على الجميع , وكأنما تصبح الاجهزة الامنية هي من تعمل في مجال الاستخبارات , وتتحول الاستخبارات لمخبر لديه معلومة عائمة فقط.
================
استخبارات بلا مصادر
================
حدثني صديق يوما ان احد اصدقائه من ضباط الاستخبارات كان يقول له انا اصرف كثيرا من جيبي الخاص لتمويل المصادر.
وحين ابدي صديقي استفهامه لهذه الالتفاتة , جائته الاجابة الصاعقة : انا اصرف 500 الف دينار للمصدر وهو ياتيني بخبر مضبوط عن شخص فاعتقله وابتزه على الاقل ب 20 الف دولار مقابل اطلاق سراحه وهذا عمل مربح !!.
فلو جرب رئيس الوزراء (او وزيري الدفاع والداخلية) يوما ان يجتمع بقادة المجتمع الاستخباري ويطالبهم بالاطلاع على مصادرهم و مجنديهم بالاسماء واين تم زرعهم ومن الضباط المسؤولين عنهم والمبالغ التي تصرف لهم وتواقيعهم وصورهم ومواقعهم في التنظيمات الارهابية لصدم من هزال الاجابات لانها ستكون بكل بساطة لاشيء !!!!,رغم ان الاستخبارات قد اضاعت فرصاً لاحصر لها في تجنيد الكثير من المصادر من خلال المعتقلات ومساومتهم على الاحكام , وهو امر لم يغفل عنه الامريكان ولازالوا يجنون ثماره الى اليوم .
فعلى وجه التقريب , لايوجد ارهابي عراقي واحد الان في داعش لم يكن يوما في السجن او المعتقل وحتى كبيرهم البغدادي ,ولكن الاغلب الاعم خرج من السجن لعدم كفاءة الاستخبارات الجنائية من ضبط الادلة والمبرزات مما يضطر القضاء بعد فتره من اخلاء سبيلهم .
ولنا ان نتصور لو كان لدينا مصدر واحد مع والي بغداد واخر مع والي الانبار وديالى وكركوك وتكريت والموصل. واخر مع والي الجنوب واخر يجلس قرب الخليفه واخر في خلفيات التنظيم بتركيا وواحد في قياده التنظيم في الرقه, فان جهد 20 مصدر سيغنينا عن جهد 100000 مقاتل على الارض.
ان من اخطر ازمات اجهزتنا الاستخبارية المزمنة تتمثل في عدم وجود اكفاء ومخلصين على رأس هذه الدوائر, فقد عانت الاجهزة الاستخبارية من قيادات لاعلاقة لهابالعمل التخصصي وتم اعتماد الكثير منهم وفق نظرة ضيقة من الولاء المفرط والعلاقات العائلية وتبويس اللحى , دونما اعتبار للنتائج المريعة للاخفاقات , ودون شعور من الساسة المتنفذين بالذنب مما جنته ايديهم من اشتراك في قتل الابرياء بسبب امعانهم في اضعاف الاجهزة الاستخبارية لاسباب حزبية ومزاجية ضيقة.
=========
خلاصة
=========
الاستخبارات الجنائية هي المعنية برصد الجريمة وقطع دابرها , وفي العراق تكتسب تلك الاستخبارات اهمية قصوى كونه مرتع للتنظيمات الارهابية , وكان لابد من ان يكون لدينا جهاز استخباري متطور بقيادة كفوءة بعيدة عن الصراعات الوظيفية والنفوذ السياسي .
وللاسف فقد ساهم الفساد الاداري والسياسي في صنع اجهزة استخبارية ضخمة وهشة في ذات الوقت , لم تنجح في اي خرق لجدار الاعداء برغم موازناتها الضخمة وهو امر لابد من الوقوف امامه بحزم يتناسب مع شعارات الاصلاح , والله الموفق
https://telegram.me/buratha