لم يكن من قبيل المصادفة أن يَقرع بعد حرب تموز الإسرائيلية في 2006 "ولي نصر" أستاذ دراسات الشرق الأوسط في أميركا أجراس الخطر لـ"إيقاظ الأميركيين"، حينما كتب عن "الانبعاث الشيعي The Shia Revival" وتحذيره من "عودة لظهور الشيعة على المسرح السياسي بشكل لم يشهده التاريخ من قبل"! فلقد نشر بعد شهر واحد من الحرب وقبل أيام من انتهائها، مقالاً في مجلة "فورين أفيرز" تضمّن فحوى تحذيره الآنف حيث كتب بالنصّ مشيراً ضمن السياق الى الأوضاع العراقية آنذاك: "الغالبية الشيعية في العراق ساعدت على إطلاق نهضة شيعية واسعة النطاق من شأنها قلب التوازن الطائفي في العراق والشرق الأوسط لسنوات قادمة"، موضحاً بأن "الشيعة يمثلون الغالبية في إيران وأذربيجان والعراق ولبنان والبحرين، إضافة الى أقليات شيعية مؤثرة في السعودية والكويت وأفغانستان والهند وباكستان وسوريا وتركيا، هذا بالإضافة الى أن هناك شيعة في اليمن"!
مبعث القول بانتفاء المصادفة في توقيت "نصر" لقرعه جرس الإنذار هذا، هو الصمود البطولي لحزب الله اللبناني آنذاك، وخروجه بصيغة المنتصر في الحرب المذكورة، والتي كانت إسرائيل ومعها الداعم الأميركي يهدفان "القضاء" على القوة العسكرية للحزب، أو "تقزيمه" في أسوأ الاحتمالات، رغم تدمير البنية التحتية للبنان. وقد صُدم الطرفان الاسرائيلي والاميركي بحجم التأييد الذي حظي به "حزب الله" من المسلمين بمختلف تنوعاتهم، العرقية والمذهبية، رغم كل سياسات الشحن الطائفي التي كان يديرها الحلف الوهابي - الصهيوأميركي لمآرب سيتم ذكرها، ومحاولة تحجيم دور الحزب عبر الطَرق على "شيعيته" في كل المناسبات.
كما لم يكن من قبيل المصادفة أيضاً، أن ينبري "عبدالله الثاني" الملك الأردني بعد عدة شهور فقط من انتهاء حرب تموز السالفة، التي لم تدمر "حزب الله" كأحد أهداف الحرب، في مقابلة مع صحيفة "الشرق الأوسط"، وضمن معرض تأكيده على مصطلح "الهلال الشيعي" الذي أطلقه وتبناه سابقاً، قال؛ "المسألة ليست مجرد شعارات بقدر ما نركز اهتمامنا على واقع (وأخطار) وتحديات كبيرة وعديدة تعيشها منطقة الشرق الأوسط برمتها في اللحظة الراهنة"! علماً ان الملك الأردني كان قد أطلق مصطلح "الهلال الشيعي" أثناء زيارته للولايات المتحدة في ديسمبر 2004 وتناوله الملف العراقي آنذاك، وما انفك يحذّر من "أخطار" ذلك الهلال منذ ذلك التاريخ، خصوصاً بعد فشل العدوان الاسرائيلي المشار اليه!
بالطبع هناك العشرات؛ بل المئات من المواقف والتصريحات التي صدرت من أصحاب القرار الأميركيين والإسرائيليين وحلفائهم الغربيين والعرب، كانت قد "حذّرت" من "الخطر الشيعي" مدفوعة بالفزع الذي تملّكها من خروج "حزب الله" حاملاً راية المنتصر بعد حرب تموز الإسرائيلية في 2006، إضافة لتطورات التغيير الحاصل في العراق بعد سقوط نظام صدام، ولا يمكن بالتأكيد ذكر جميع هذه المواقف هنا لضيق المقام، وتم الاكتفاء بالعينتين الواردتين، بما توضحان مقدار "القلق والفزع" الذي يقف وراء إطلاق مثل هذه التصريحات المدروسة والمعبرة عن طيف واسع من الدوائر السياسية (إقليمية ودولية) لا تريد أن يكون الوئام الشيعي- السني في الساحة الاسلامية معرقلاً لحساباتها ومجهضاً لمشاريعها، مهما كان الثمن!
لن يحتاج المرء الى كثير عناء في تبيان ان ظاهرة الرِهاب والخوف من الشيعة والتشيع، والتي عُرفت فيما بعد بـ"الشيعة فوبيا"، قد تشكلّت بإطارها الحالي بُعيد التغيير في العراق عام 2003، أي حينما مسكت الغالبية الشيعية في العراق بزمام الأمور، بعدما كانت إرادتها ودورها في صنع القرار قد تمت مصادرتهما لعقود طويلة قسراً وتعسفاً! أما الأسباب التي وقفت وراء تشكّل هذه الظاهرة فهي أعمّ من كونها طائفية وسياسية ضيقة تغذيها سياسات إقليمية، أصبحت علنية بعد أن كانت تدار من وراء حجاب، فإن معظم هذه الأسباب تنسجم مع طبيعة المشروع الصهيوأميركي، لتكريس الهيمنة بأدوات وأساليب عديدة، ليس آخرها هذه الظاهرة المختلقة، التي تتوافق تماماً مع ظاهرة "الاسلاموفوبيا"؛ بل وتُكمّلها، والتي دأب القائمون على هذا المشروع على تخليقها منذ الثمانينات، أي بُعيد انتصار الثورة الاسلامية في إيران، وانبثاق الصحوة الاسلامية، التي أطلق عليها المناوئون الغربيون (من منظور تحريضي سلبي) برنامج "تصدير الثورة"، وقد بُذلت جهود جبارة منذ ذلك الحين لاحتواء هذه الصحوة (كجزء من احتواء إيران الدولة)، وتقليل مخاطرها على المشروع الصهيوأميركي، وكان التنسيق قائماً مع السعودية وحلفائها، إضافة الى حواضنها السلفية الوهابية، في رفد هذا المشروع ومفاصله، بأساليب وخطط شتى، أخطرها صناعة "السلفية الجهادية" بذريعة إيقاف "المدّ الشيوعي" في نهاية السبعينات، وتوظيفها فيما بعد لـ"الجهاد" ضد الجيش الأحمر و"تحرير" أفغانستان، ثم تلاه تشكّل تنظيم "القاعدة" السلفي الإرهابي، وكان "الأفغان العرب" العائدون من أفغانستان هم ذخيرته البشرية التي استثمرها، ولم يعد هذا الأمر سراً بعد الاعترافات التي أدلى بها قادة المخابرات السعودية الذين أشرفوا على تأسيس تلك الأنشطة، وكذلك اعترافات أصحاب القرار الأميركيين في مناسبات عديدة، ولاحقاً التسريبات الخطيرة عبر "ويكيليكس" ووسائل إعلامية ذات صدقية، ناهيك عن اعترافات "منشقين" من تلك التنظيمات فضحوا فيها الكثير من الأسرار التي تكشف التورط الأميركي والسعودي.
لقد شهدنا جميعا كيف ان هذا التنظيم (والتنظيمات المشابهة التي انشقت عنه) قد انخرطت في كل ثقلها بالتخادم مع المشروع الصهيوأميركي بسُبل متنوعة، وغذّت بصورة رئيسة ظاهرة "الاسلاموفوبيا" بوصفها تمثل "الخوف والكراهية الموجهة ضد الإسلام، كقوة سياسية تحديداً، والتحامل والتمييز ضد المسلمين" حسب تعريف "قاموس أكسفورد الإنجليزي". لقد كانت الظاهرة قائمة منذ مطلع الثمانينات، لكن المصطلح "Islamophobia" قد ظهر الى التداول إعلامياً وسياسياً عام 1997؛ بل وعدّه بعض الباحثين شكلاً من أشكال العنصرية! وبلغ أوج تعميمه وذروة تكريسه بعد أحداث سبتمبر 2001.
* * *
لو نظرنا اليوم الى المشهد الدولي فيما يخص احتكاكه بالبؤر الساخنة في منطقتنا والعالم الاسلامي، سنلمس بأن ظاهرتي الـ"اسلاموفوبيا" و"الشيعة فوبيا" لهما حصة كبيرة في ذلك المشهد، وكأنهما يسيران في خطة موضوعة بعناية، وبقليل من التمحيص يمكن التوصل الى أن القائمين على المشروع الصهيوأميركي (وحلفاءهم الإقليميين والدوليين) يحصدون ببراعة "ثمار ومكاسب" هاتين الظاهرتين المدمرتين، رغم انهما تهدّدان الأمن الدولي إضافة الى الإقليمي كما هو قائم!
فبـ"الاسلاموفوبيا" يصبح المجتمع الدولي مهيّئاً لتقبل أية كوارث وحروب يخططها ويقودها ويشعلها المشروع الصهيوأميركي، بذريعة انه يصب في "الحدّ من خطر الاسلام والمسلمين"، أو على أقل تقدير خطر "الإرهاب الاسلامي" الذي يتماهى أيضاً مع كل ما له صلة بالإسلام والمسلمين، حسب وصفة التعريف التي يروج لها ذات المشروع عبر ماكينته الإعلامية العولمية! ولضخ الوقود أكثر في جهد الارهاب السلفي الوهابي، فان ذات ظاهرة "الاسلاموفوبيا" ترتد انعكاساتها بحيث تتحول الى هذا الوقود، الذي يتغذى على الكراهية والأحقاد والتشاحن، ومن ثم نكون أمام ظاهرة تخدم الارهاب من جهة، وتخدم من لهم مصلحة في تأجيج "صراع الحضارات" من جهة أخرى، وهؤلاء تغطيهم قطعاً عباءة المشروع الصهيوأميركي!
أما ظاهرة "الشيعة فوبيا" فهي مكملة للظاهرة الأولى، بحيث تجعل الدائرة الداخلية للعالم الإسلامي مهيّأة هي الأخرى للانقضاض على نفسها، بمعنى أن يتم استخدام "الضدّ النوعي" في مهمة إضعاف المسلمين جميعاً، وإغراقهم بالحروب الأهلية والفتن الداخلية، وإقحام "المقدس" محرّكاً في المعادلة، بما يجعل تفجير المساجد والحسينيات والمراقد المقدسة (كتفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء عام 2006)، وقتل المسلمين بالأحزمة الناسفة والذبح والمفخخات والعمليات الانتحارية عملاً "تعبّديّاً" يقرّب فاعله الى الله تعالى، ويرجو من ارتكابها نيل الجنان! بينما تنعم إسرائيل بالأمان وسط محيط ملتهب (أو هكذا ظنها)، وتحيل "حزب الله" عدوها اللدود الى الانشغال بحروب "الأشقاء" بما يؤسس لحالة (قد وصلنا اليها)، بحيث يصبح حتى الدعاء لـ"حزب الله" في حربه ضد اسرائيل فعلاً محرّماً شرعاً!
ينبغي القول أن المؤسسة الوهابية بقيادة السعودية قد أخذت على عاتقها الجزء الأكبر من مهام تغذية واستفحال ظاهرة "الشيعة فوبيا" ضمن واقع الشراكة مع المشروع الصهيوأميركي، وهذا يسهل إدراكه طبعاً، باعتبار ان المشروع الوهابي بما يحمله من منهج تكفيري إقصائي يجاهر بإلغاء الآخر الى حدود الإبادة، توجس ذعراً بعد التغيير في العراق في 2003 وصعود الطبقة السياسية الشيعية كغالبية تمسك بزمام الأمور، مما استدعى تسخير المعسكر الوهابي للإمكانات المادية الكبيرة التي يحوزها، مستخدماً ظاهرة "الشيعة فوبيا" كسلاح نوعي؛ بل وعقيدة قتالية تستند عليها التنظيمات السلفية الارهابية التي تقود اليوم حروب العالم الاسلامي الداخلية، وعلى رأسها داعش ونظائره، مما أحالت بلداناً كالعراق وسوريا واليمن وليبيا الى حرائق مستعرة، تفتك بالبلاد والعباد، وهناك بلداناً أخرى مرشحة لذات المآل! ولن ينخدع عاقل بعد كل الذي جرى ويجري، فيتوهم ببراءة النظام السعودي وحلفائه الخليجيين في تورطهم المباشر في كل ما يجري في المنطقة، ووقوفهم وراء تنامي دور التنظيمات السلفية الارهابية بكافة مسمياتها.
لم يعد خافياً بأن استقطاب داعش ونظائره للمقاتلين العرب والأجانب من أكثر من 100 دولة في حروب العراق وسوريا واليمن، بقطعان كبيرة وبـ"حماس" يُبدونه، إنما هو استثمار عملي آخر لتوظيف ظاهرة "الشيعة فوبيا". ويجاهر زعماء التنظيم في أحاديثهم المنتشرة، بالإضافة الى إعلامهم المتعدد الوسائل، بالتركيز على البُعد الطائفي في حربهم ضد "الروافض ومن والاهم"! كما يستميلون الكثير ممن غرّر بهم عبر الإعلام الداعشي الموجّه والمباشر، أو الوهابي السلفي غير المباشر، والذي يتوافر على إمكانات كبيرة، تكشفها عشرات القنوات الفضائية ووسائل الإعلام الأخرى المسخرة لترويج "الشيعة فوبيا" جهاراً رغم الإسفاف والوضاعة والفبركة والتجني على الحقائق الذي يمدّ هذا الإعلام المسموم، فنرى قطاعات واسعة من الشعوب في مصر والمغرب العربي وأغلب البلدان الخليجية قد وقعت فريسة لهذا الإعلام المحرّض ضد الشيعة، وبات قتل الشيخ الشيعي "حسن شحاتة" ورفاقه البررة بالفؤوس والسكاكين جهاراً نهاراً في ضواحي القاهرة والتمثيل بجثثهم الطاهرة (23 حزيران 2013) حدثاً لا يثير أية مشاعر إنسانية لدى الجمهور المصري عموماً، هذا الجمهور الذي كان يُمثل في مرحلة من المراحل نموذج التسامح الديني و"الوسطية" التي يتبجح بها الأزهر! وهناك في مصر الكثير من مظاهر محاربة الشيعة والفكر الشيعي بما لا تجاريها حقاً سوى الإجراءات في أعتى الديكتاتوريات المعاصرة ضد الأقليات، بحيث وصل الأمر بفعل تورّم تأثيرات "الشيعة فوبيا" الى الحدّ الذي يتم تصوير الشيعة وكأنهم يطرقون أبواب قاهرة المعزّ بجحافل غازية، أولها تُرابط عند اهرامات الجيزة وآخرها عند بوابات سور الصين العظيم!
أليس هذا نموذجاً من حصاد خطاب شيوخ الفتنة من السلفيين والإخونجية الذين تزدحم بهم الفضائيات الطائفية المسمومة؟ أليس هذا ما يتقيأه علناً غالبية شيوخ الأزهر (المؤسسة التي صدّعتنا بوسطيتها) في مناسبة أو دونها؟ هل يختلف هؤلاء قيد أنملة عن دأب شيخ الفتنة القرضاوي في إشعال الساحة بحديث "الغزو الشيعي" لمصر وتشييع 90 مليون مصري، وكأنهم سيُجبرون على تعاطي عقار خفي أنتجه "الغزاة" يعمل على تشييع السنّي المصري في ساعات أو أيام؟! وقبال هذا "الغزو" المفترض والذي يتم التحذير منه (بكل جدّية)، ألا يصبح مباحاً أن يتم تجنيد "المجاهدين" والانتحاريين وإرسالهم الى عقر دار "الغزاة" الشيعة في العراق وسوريا واليمن (والمقصود هنا الحوثيون)، وربما إيران وأذربيجان وأينما وُجد الشيعة؟! أليس القرضاوي (وهو الأزهري الوسطي) من أدلى بآرائه التحريضية الخطيرة مبكراً حينما صرّح لصحيفة "المصري اليوم" في 9 أيلول 2008 قائلاً: "الشيعة مبتدعون وخطرهم يكمن في محاولتهم (غزو المجتمع السني)، وهم مهيأون لذلك بما لديهم من ثروات بالمليارات وكوادر مدربة على التبشير بالمنهج الشيعي في البلاد السنّية، وخصوصا أن المجتمع السني ليست لديه حصانة ثقافية ضد الغزو الشيعي، فنحن العلماء لم نحصن السنة ضد الغزو المذهبي الشيعي.. ويجب أن نقف ضده في هذه الفترة وأن نحمي المجتمعات السنية منه.. وأدعو علماء السنة للتكاتف ومواجهة هذا الغزو لأني وجدت أن كل البلاد العربية هزمت من الشيعة؛ مصر، السودان، المغرب، الجزائر وغيرها، فضلا عن ماليزيا وأندونيسيا ونيجيريا"؟! فهل من يقرأ هذه العبارات لا يخرج بانطباع انها تمثل أقصى درجات التحريض العلني ضد الشيعة، وتضخّ وقوداً فعالاً لظاهرة "الشيعة فوبيا".. ثم هل نستغرب بعدها أن يُقطّع الشيخ شحاتة وصحبه بالسكاكين في الطرقات بوضح النهار على يد أتباع القرضاوي و"صحبه" تقرباً الى الله؟!
ان كلام القرضاوي الآنف إعلان حرب على الشيعة والتشيع بكل معنى الكلمة، ولم يلقَ هذا الإعلان أي استهجان أو استنكار حتى من أصحاب القرار السني الذين يزعمون مناوأتهم لأفكار القرضاوي..! وفيم الاستغراب لو تلقف داعش والقاعدة ونظائرهما تحريضات القرضاوي (أو ما يشابهها) بأنه ضوءاً أخضر لاقتراف الفضائع ضد الشيعة في كل بقاع الأرض بذريعة "درء المفاسد والمخاطر" عن أهل السنّة؟!
لن نتعدى الإنصاف لو قلنا بأن هذا الشحن والتجييش وضخ الكراهية ضد شريحة كبيرة من الجسد الاسلامي يمثلها الشيعة، هو أكبر بأضعاف من مقدار الكراهية والشحن العنصري ضد عموم المسلمين جرّاء تفاقم ظاهرة "الاسلاموفوبيا"، أي تُمسي بها الأخيرة مجرد وصفة "انزعاج" لو قورنت بفظاعة وشناعة ما تخلفه ظاهرة "الشيعة فوبيا"! فلقد أنتجت هذه الظاهرة/ الرِهاب "فقهاً" مبتدعاً موازياً، قائم على تكفير الشيعي و"إخراجه من الملّة"، ثم إقامة حدّ الحرابة عليه أو القتل (تتعدد المصطلحات والمسميات)، والنتيجة واحدة؛ الاستئصال والإبادة! نعم، ربما هذا "الفقه" يطال في بعض مفاصله غير الشيعة؛ بل وربما حتى المناوئين للسلفية التكفيرية (من المذاهب الأربعة)، أو من غير المسلمين، ولكن وفقاً للوقائع ومجريات التطبيق لهذا "الفقه" فانه يولي مساحة أعظم في تناول الشيعة ومصائرهم بعلنية مفزعة!
لنعترف بصوتٍ عالٍ بأن تأجيج مفاعيل "الشيعة فوبيا" قد جعلت دماء الشيعة مستباحة في أكثر البلدان الاسلامية التي سلف ذكرها، وبات غير مستبشع أن يغدو الحافز الأبرز لالتحاق قطعان "المجاهدين" بداعش ونظائره اليوم هي "فريضة" القضاء على "الوحش" الشيعي الذي بدأ "يغزو" السنّة في بلدانهم (وفقاً لمزاعم القرضاوي وجمهور المشايخ ممن يعتنقون ذات المزاعم)! وللمرء أن يتخيل وطأة تداعيات مصطلح "الغزو" الذي يُشنّ ضد المسلمين في الذاكرة الاسلامية، وبما يتم استدعاءه من بشاعات السبي والاغتصاب والقتل المجاني للنساء والأطفال، اذ يتم استحضار كل ذلك حينما يتكلم المحرضون (القرضاوي مثالاً) حول "الغزو" الشيعي! علماً ان هذا مثل تلك البشاعات قد أُقترفت، ولا زالت مستمرة بحذافيرها على أيدي "المجاهدين" المنتمين لـ"السلفية الجهادية" التي يمثلها اليوم داعش والقاعدة والنصرة وجيش الاسلام ومن على شاكلتهم!
* * *
لم تعد ظاهرة "الشيعة فوبيا" مجرد مقولة تدعو للقلق فقط، كونها تسهم في هدر حقوق إنسانية مدنية، أو تهدّد مئات الملايين الشيعة بـ"التضييق" حصراً على عقائدهم؛ إنما تعدّت ذلك بكثير، وباتت تمثل ضوءاً أخضر لاقتراف المجازر جهاراً، والأفظع أن يُحرّض على ذلك عبر المنابر الدينية في بلدان تدّعي "سيادة القانون"، كمصر وتونس والجزائر والمغرب، هذا اذا استثنينا الحواضن الخليجية التي تعمل بكل حرية وبكامل "غطائها القانوني والفقهي" منذ عقود!
ثمة مئات من الأدلة بأن ظاهرة "الشيعة فوبيا" مسؤولة عن تجنيد آلاف الانتحاريين والإرهابيين، واستقدامهم الى ساحات ملتهبة في العراق وسوريا ليفتكوا بضحاياهم المحتملين من المسلمين الشيعة، اذ الكثير من اعترافات الارهابيين ممن وقعوا في قبضة السلطات، تُبيّن بأنهم قد غُرّر بهم واستقدموا في الأساس للفتك بالشيعة و"التقرب الى الله" بقتلهم وإبادتهم! ولا داعي هنا لعرض نماذج من الفتاوى السلفية التي تدعم ذلك، اذ باتت أشهر من نار على علم!
وما يدعو للاستغراب هو ان مؤسساتنا الرسمية العراقية المعنية (بواقع ان العراقيين أشد ضرراً حتى الآن) لم تتحرك حتى الساعة لتجريم هذه الدعوات والفتاوى الإجرامية التي تغذي "الشيعة فوبيا"، والتي تكتمل أركان الدعوى بخصوصها بوجود أدلة الإدانة بالتحريض على القتل والإبادة، وتمارسها مؤسسات إعلامية ودينية في بلدان عديدة معروفة بدون أي مسوّغ قانوني؟! والثابت ان التحريض المستمر من فضائيات الفتنة في عواصم المنطقة وفي الشمال الأفريقي تستهدف صراحة ملايين الشيعة في العراق بالقتل والإبادة بدوافع طائفية مقيتة، فأين إذاً دور المؤسسات القانونية (رسمية أو محسوبة على مؤسسات المجتمع المدني) في رفع الدعاوى الدولية ضد هذه الأنشطة التحريضية لتجريمها، أو محاصرتها على أقل تقدير، لا تركها هكذا تعمل بكل حرية؟!
بصراحة، ينتظر مئات ملايين الشيعة في العالم من الأجهزة المرجعية (كل المرجعيات)، باعتبارها ملاذهم الحصين لهم في الملمّات والشدائد، بأن تعير اهتماماً أكبر لظاهرة "الشيعة فوبيا" المدمرة، وما تخلفه من دمار ومجازر وتقطيع أوصال الجسد الاسلامي، وبأن تنهض هذه الأجهزة بمسؤولياتها بهذا الشأن، بعدما حصد الشيعة نتاج تلك الظاهرة قتلاً وتشريداً واضطهاداً وتعسفاً، وأن لا يتم الاكتفاء فقط بالإدانة والشجب على شاكلة البيانات الرسمية المعتادة. فالموضوع أخطر بكثير، حيث ظاهرة "الشيعة فوبيا" قد أضحت أخطر سلاح نوعي بيد داعش والقاعدة والارهاب التكفيري الوهابي، ويُعدّ أيضاً أرخص سلاح في ترسانة الارهاب يتم توظيفه في الحروب القذرة القائمة، اذ يكفي من يوظف هذا السلاح أن يُفعّل العقائد المنحرفة المنتجة لفقه الاستئصال والإبادة الذي شيّده ورعاه النهج الأموي، بالإضافة الى استثمار صمت الضحايا (الشيعة) مع مؤسساتهم حينما يكتفون بـ"الحوقلة والترجيع" أو التفرج على هذا السلاح النوعي الخطير يفتك بهم بلا هوادة! ولا يعني ذلك ان على الأجهزة المرجعية جعل جهودها وتدابيرها لمواجهة هذه الظاهرة موضع التداول العلني، بواقع خطورة مثل هذه المهام وحساسيتها وتربص الأعداء، كما لا يمكن أن يتم ذلك سوى بتبني المهام من قِبل أصحاب القرار على أعلى المستويات في الأجهزة المرجعية، وإعطاء الأنشطة الإعلامية وجهود إدارة الرأي العام دوراً أكبر على أسس علمية ومهنية حديثة تستقطب أهل الخبرة والاختصاص.
لقد آن الأوان أن يعلم الجميع، وعلى رأسهم الشيعة، بأن ظاهرة "الشيعة فوبيا" هي ظهير استراتيجي لـظاهرة شقيقة هي "الاسلاموفوبيا"، وتعملان معاً بمثابة كماشة ضد المسلمين عموماً، من المجال الخارجي والى الدائرة الداخلية، بجهود حثيثة يديرها الحلف الوهابي - الصهيوأميركي، الذي جعل المنطقة والعالم الاسلامي ساحة للحرائق والحروب والتوترات والأزمات! كما جعل الإسلام مرادفاً للإرهاب، رغم محاولات المسلمين دحض هذا المفهوم المحمّل على الواقع ظلماً وعدواناً!
https://telegram.me/buratha