كشف الانتهاك التركي الأخير لسيادة العراق يوم الثالث من كانون الأول الجاري عن جملة من المواقف والتداعيات، وأعقبته حزمة من "الارتدادات"، يندر أن تجتمع بهذا الزخم في حدث مشابه، أنذرت بدورها بأن دخول مئات من عناصر القوات التركية بدباباتهم ومعداتهم الثقيلة، واستقرارها في معسكر" بعشيقة" على بعد 30 كلم شمال شرق الموصل، لم يكن مجرد "بلطجة" معتادة من تركيا إزاء دول الجوار، وبالذات دولة جريحة في سيادتها كالعراق؛ بل أضحى صخرة كبيرة أُلقيت في الراهن العراقي والإقليمي، فحرّكت الكثير من الأوراق والمعادلات و"الترتيبات"، التي ظنّ البعض أنها استكانت أو عصيت على الزحزحة، أو أصبحت في حُكم المُلزمة لهذا أو ذاك، بقوة "الأمر الواقع" أو مفاعيل أخرى أشدّ وطأة!
بغضّ النظر عن التبريرات الواهية والهزلية من الجانب التركي عقب الانتهاك الأخير وخطورته، يمكن هنا رصد جملة من أهم تلك المواقف والتداعيات و"الارتدادات" التي أفرزها الحدث، وما تمثله من مدخلات لتغيير مرتقب في إيقاع المجريات؛ وفي رسم ملامح المرحلة المقبلة، الحبلى بالتغيرات والتطورات.
٭ ٭ ٭
- باتت الغطرسة التركية وأوهام السلطان أردوغان تحرّك السياسة التركية الخارجية، اذ تستمر في تأجيج الكثير من الأزمات، وصلت الى حدّ اللعب على المكشوف، والتهديد بتفجير برميل البارود في المنطقة. فالانتهاك التركي المتعجرف الأخير لسيادة العراق يندرج ضمن هذه السياسة، سبقه إسقاط الطائرة الروسية فوق الأراضي السورية مؤخراً!
٭ ٭ ٭
- إفصاح الأتراك عملياً بأنهم دشّنوا مرحلة جديدة من تأثيث "مجالهم الحيوي" في المنطقة، ليكسبوا المواقع في لعبة "تدافع المصالح" كما يقرأونها، حتى أن استدعى ذلك انتهاك سيادة دول الجوار، وخير ما أوجز هذا التوجه، ما جاء ضمن تحليل لمؤسسة "ترك برس" الإعلامية والمدعومة من الخارجية التركية؛ بأن "تركيا تهدف من خلال زيادة تواجدها العسكري في العراق، إلى إيجاد حالة من التوازن مع إيران، حيث أصبح العراق مركزاً للتنسيق بين محور إيران والأسد وروسيا، ولهذا تسعى أنقرة إلى إثبات وجودها في العراق"!
٭ ٭ ٭
- تفاجأت الأوساط السياسية الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها التركية، بردود الأفعال الشعبية والرسمية العراقية الغاضبة تجاه الانتهاك التركي الأخير. ويسود اعتقاد بأن قناعة تشكلت لدى تلك الأوساط على ضوء المجريات والتداعيات التي أعقبت الانتهاك؛ بأن شارعاً عراقياً "مغايراً" يغلي كالمرجل.. ولا يتحمل أية خطوة "صغرت أو عُظمت" تمسّ كرامة العراقيين أو سيادة بلدهم، بأية صورة جاءت، ومن أي طرف أجنبي صدرت! وعلى الجميع أن يقرن في حساباته هذا التطور والشاخص لاحقا!
٭ ٭ ٭
- الحشد الشعبي المبارك، قال كلمته الحاسمة بإيجاز وبضرس قاطع على لسان قادته منذ الساعات الأولى لحادثة الانتهاك التركي الأخيرة؛ "السيادة العراقية خط أحمر.. من يتجاوزه سيحترق".. قولاً فصلاً.. ولم يُعرف عن الحشد الشعبي أنه وَعَد فأخلف، حقيقة يقرّها العدو قبل الصديق! فالعراق بعد ولادة الحشد الشعبي، ليس كما كان قبله!
٭ ٭ ٭
- القوى السياسية العراقية (السنّية) المتلفعة بالمحاصصة اللعينة، عزفت لحنها المفضل.. محاباة أعداء العراق، أو انتقاء شديد الحساسية لمفردات من القاموس العربي، لمراعاة أن لا تخدش الكلمات مزاج "الأشقاء الأتراك" المرهفي الأحاسيس، فيما لو تم تناول "تواجدهم لتدريب العراقيين"!
الأنكى أن هذه القوى المحاصصية تدعو العراقيين (بل تقرّعهم) بأن عليهم السكوت هذه المرة، لأن "العراق أساساً منتهك السيادة منذ 2003"! وترفع عقيرتها فتصف هذه "الضجة" ضد تركيا بأنها "بداوفع طائفية"..! الانتهاك التركي كشف مجدّداً بأن أولئك المحاصصين دواعش بـ"باجات" رسمية ليس إلاّ!
٭ ٭ ٭
- تذرّع الأتراك (من جملة الذرائع) بأن انتهاكهم الأخير جاء بناءً على طلب "محافظ الموصل السابق" أثيل النجيفي.. وهذا ما يضحك الثكالى حقاً.. والأخير لم يكذّب الذريعة.. ويُستفاد هنا من الواقعة أن الخائن النجيفي سادر في مخطط الخيانة، فبالأمس استقدم الدواعش والنقشبندية وفلول البعث بتواطؤ تركي خليجي، وبعد أن نكث "الخليفة البغدادي" بالعهود المقطوعة لآل النجيفي، لا مناص لدى هؤلاء اليوم من الاستقواء بـ"الأشقاء الأتراك" أو بغيرهم.. وليذهب العراق "بسيادته" الى قعر جهنم.. منطق لا يحتاج الى كثير عناء لكشفه!
٭ ٭ ٭
- تعدّدت - كالعادة - المنابر والمرجعيات الرسمية العراقية في تبيان الموقف الرسمي وما يتمخض عنه من خطوات، بخصوص الانتهاك التركي الأخير. هذه التعددية ما زالت تسيء لصورة الحكومة العراقية، وتوحي بتشتت القرار وتداخل المسؤوليات، بما ينال من هيبة الدولة العراقية، في الوقت الذي يحتاج فيه العراق ومشهده الرسمي عكس ذلك تماماً!
٭ ٭ ٭
- خيّبت المرجعية العليا المباركة رهان الكثير من المفلسين سياسياً والمتربصين في أجواء الانتهاك التركي الأخير، وترويجهم بأن هذه المرجعية ستنأى بموقعها عمّا يحدق بالعراق من مخاطر ومنزلقات كارثية. فجاء موقفها المتأصل ليضع النقاط على الحروف؛ ويقطع الطريق مجددّا على المتربصين والمتصيدّين في الماء العكر، حيث أوصلت (المرجعية العليا) رسالتها الواضحة من منبر الجمعة الأخيرة، ودعت الحكومة العراقية "الى حماية سيادة العراق وعدم التسامح مع أي طرف يتجاوز عليها مهما كانت الدواعي والمبررات، وعلى الفعاليات السياسية ان توحّد مواقفها في هذا الأمر المهم وتراعي في ذلك مصلحة العراق وحفظ استقلاله وسيادته ووحدة أراضيه"..! وضوح وحزم، مع ثبات ومتابعة، وهذا ما يحتاجه العراق في محنته!
٭ ٭ ٭
- رأت عدّة أطراف سياسية عراقية (مهمشة) في الانتهاك التركي الأخير فرصة مناسبة يمكن انتهازها، بغية استعادة بريقها الى الواجهة بعد أن بَهِت، فأطلقت رشقات من التصريحات النارية، وكان واضحاً انها لن تكلفها شيئاً، ولا يلزمها بـ"تضحيات" ما، وهذا بدوره فتح لها المجال لتصعيد "استعراضها" المبالغ فيه، عبر إصدار البيانات، وتسويق المواقف المجانية أمام الكاميرات، بزخم يُثير الغثيان، ويزاحم حدث الانتهاك التركي في فجاجته!
٭ ٭ ٭
- مسعود البارزاني أفصح عملياً، دون أن يتجشم عناء التصريح، بأن مساعي إعلان الدولة الكردية وتتويجه "قائداً" لها جارية حتى لو كان الثمن رأس العراق! ويصبح بذلك مستساغاً الاستقواء بالعسكر التركي بمبررات "تدريب البيشمركة" أو غيرها من المبررات، فلسان حال مسعود هو؛ لتذهب سيادة العراق الى الجحيم!
٭ ٭ ٭
- عجّل الفصل الجديد من المخطط السعودي - التركي - القطري بتحقق الانتهاك التركي الأخير، بعد أن أدرك هؤلاء بأن نهاية ربيبهم داعش تلوح في الأفق، لهذا تكفل مسعود البارزاني بما عليه من "استضافة" القوات التركية ومرابطتها على مشارف الموصل لتنفيذ فصول المخطط المشؤوم المعد للعراق، حصل هذا فقط بعد يومين من اجتماع البارزاني مع الملك سلمان والقيادات العسكرية والأمنية السعودية (على أعلى المستويات) في قصر الملك بالرياض..! من يظن ان التوقيت صدفة، يُنصح بمراجعة أقرب مصحٍّ نفسي!
٭ ٭ ٭
- لا يوجد ما يُضاهي الانتهاك التركي الأخير في التردّي سوى "انتهاك" نبيل العربي لكل "القيم" التي قامت على أساسها الجامعة العربية التي يرأسها.. اذ اكتفى بعد الانتهاك التركي لبلدٍ عربي يعيش حرباً ضروس ضد الارهاب، وعضو مؤسس للجامعة، هو العراق (لمن لا يعلم)، اكتفى بالقول؛ "انه تدخل سافر، وكل ما نستطيع أن نقوم به هو إصدار بيان إدانة، وليس لدى الجامعة العربية قدرة على إيقاف هذا التدخل على أرض الواقع"! والمشين حقاً ان هذا "العربي" كان مستشرساً وحماسياً حينما تعلق الأمر بمحاربة الحوثيين (الشيعة)، حين ناشد الجيوش العربية بأن يلتحقوا بـ"عاصفة الحزم" السعودية لطحن اليمن، أرضاً وشعباً!
فهل نتوقع من باقي الدول العربية موقفاً أكثر حميّة وإقداماً من موقف جامعة نبيل "العربي" تجاه انتهاك سيادة العراق، التي يصبح وصف "المشين" متواضعاً ومؤدباً بحقها؟!
٭ ٭ ٭
- عراقياً، لم يُفاجئنا موقف الأميركيين والأوربيين حيال الانتهاك التركي الأخير، حينما اتسّم بالثعلبية والمراوغة، وكان له طعم الخذلان، وألوان الحرباء، ورائحة الشواء المعدة لمصير العراق.. ولم تخدّر العراقيين هذه المرة "شوية" عبارات الإدانة والاستنكار المشلولة، والمنطوقة بحروق مقطعة لا تعطي أي معنى حقيقي يدين المنتهك والمعتدي أو يستنكر جريمته.. هي عبارات جوفاء بلغة منقرضة تُردّد في مراسيم ذبح الأوطان.. فأردوغان يلعب لعبته القذرة في سوريا والعراق بضوء أخضر أميركي - أوروبي، ولم نكن نحتاج طبعاً الى انتهاك سيادة العراق بأقدام العسكر التركي لندرك هذه الحقيقة! ولكن كان لا بُدّ أن يستحضرها العراقيون في هذه الأوقات أيضاً.. فسيادة العراق لا تهم الأميركيين منذ أن داسوا على كل بنود "المعاهدة الأمنية" مع العراق، حينما طالب الأخير بتفعيلها بُعيد نكبة الموصل، فأدار الأميركي ظهره، وأوقف تسليم الأسلحة المتعاقد عليها، وذرف دموع التماسيح (على الضحايا) كالعادة!
٭ ٭ ٭
- لقد شحن الانتهاك التركي الأخير أجواء الشارع العراقي بقناعة كبيرة؛ انه حان الوقت (وبلا تباطؤ) أن تقدم الحكومة العراقية على تفعيل المرحلة الحاسمة في القضاء على الارهاب الداعشي في العراق، وضبط المعادلة القتالية القائمة، بإعطاء الضوء الأخضر للمساهمة الروسية العسكرية في جهود دحر الارهاب على أرض العراق..
فهل تصيخ هذه الحكومة السمع بشدة لهذا المطلب من العراقيين؛ المشحون بالغضب أكثر من أي وقت آخر، وعدم الالتفات لـ"الفيتو" الأميركي، الذي ذبحنا في كل المواسم؟!
https://telegram.me/buratha