سنان محمد رضا الشبيبي -
تعيش السوق النقدية العراقية في الوقت الحاضر حالة من عدم الاستقرار تمثلت في انهيار سعر السوق للدينار والذي بلغ 1340 دينارا للدولار الاميركي بينما السعر الرسمي يبلغ حوالي 1190 دينارا للدولار، بالرغم من ان حجم الاحتياطي لازال كبيرا الأمر الذي يعتبر عاملا اساسيا في استقرار العملة.
يعود السبب في هذا الفرق بين السعرين الى تدخل الوزارات (المالية) والجهات الاخرى (مجلس النواب) واملائهم سياسات وشروط لا تمت الى السياسة النقدية بصلة، بالاضافة الى عدم قدرة البنك المركزي ومستشاريه على الدفاع عن البنك حسب قانونه.
ان المشكلة في الوقت الحاضر هي ان طالب التحويل عليه ان يدفع أمانة تعادل نسبة معينة من الضرائب والكمارك عندما يشتري الدولار وذلك بناء على طلب من وزارة المالية، وهذا الامر يعتبر عاملا مهما في ارتفاع سعر الدولار. هذه الشروط خدمت وزارة المالية، لكن المبدأ ان شراء العملة الاجنبية وبيعها يجب ان يتم بشكل سريع وسلس وبدون اي معوقات (عدا الشروط المصرفية والالتزام برأس المال) ذلك لأن حركة النقود سريعة، واذا كانت هناك حاجة لدى البنك المركزي لاستغلال بيع العملة الاجنبية من اجل التطوير فكان من الافضل ان يستخدم ذلك في تطوير عملية الائتمان المصرفي، كأن تعطى افضلية في المزاد للمصرف الذي يتقدم في ائتمانه المصرفي.
إذن هناك تدخل من وزارة المالية في عمل البنك المركزي. ان هذا التدخل يهدف الى تحصيل موارد لوزارة المالية ولا علاقة له بالسياسة النقدية بالرغم ان البنك المركزي هو الذي يقوم بتحصيل هذه الموارد. بعبارة اخرى ان البنك المركزي هو الذي يقوم بجباية هذه الموارد لحساب وزارة المالية. كما تضمنت الميزانية قيام البنك المركزي بشراء سندات وحوالات الخزينة ب 6 مليارات دولار وتخفيض نسبة الاحتياطي القانوني الذي تحتفظ به المصارف لدى البنك المركزي الى النصف لتوفير موارد للميزانية. ان خطورة هذه الاجراءات تنصرف الى تخفيض فعالية السياسة النقدية في محاربة التضخم. لذلك فان على السلطات المالية والنقدية ان تقيّم ما تحصل عليه من موارد مقارنة بالتضخم وعدم الاستقرار الذي يمكن ان يكون سببا في الانهيار الحقيقي لسعر الدينار.
كما ان تقييد البيع من قبل مجلس النواب يعني تدخل البرلمان في عمل البنك المركزي. الشائع بين اوساط الاقتصاديين والبرلمانيين ان البنك المركزي تابع لمجلس النواب، وهذا خطأ كبير فالبنك المركزي مسؤول امام مجلس النواب وليس تابعا له، وهنا لا يختلف البنك المركزي عن بقية الوزارات، ولكن هذه المسؤولية (مسؤولية البنك المركزي) مذكورة صراحة في الدستور.
وهكذا فان البنك المركزي قد فقد استقلاليته واصبح يرضخ لقرارات الحكومة والبرلمان. ان الأسلوب الصحيح هو ان تطرح الأفكار كمقترحات في مجلس النواب ثم يتم التصويت عليها.
ان سياسات الحكومة والبرلمان، وخاصة تحديد البيع، ادت الى ازدواجية سعر الصرف فحصلت سوق سوداء اغتنى منها البعض واستخدمها البعض الآخر في تمويلات اخرى قد يكون الارهاب واحدا منها.
فقدان الاستقلالية له محاذير عدة اهمها ان البنك المركزي سوف يخضع لتعليمات الحكومة التي ستنعكس في سياسات البنك وبالتالي فان البنك المركزي سوف لا يستطيع تبني هدف تخفيض التضخم بشكل جدي. ومما يزيد الأمر سوءا ان الانفاق الحكومي هو بطبيعته تضخمي نتيجة للتلكؤ في تنفيذ المشاريع.
وفقدان الاستقلالية سيؤدي بالدائنين الى ان ينظروا الى اموال البنك المركزي على انها اموال حكومية، فتصبح هدفا للدائنين، وهذه قضية مهمة يجب مناقشتها مع الدائنين ومحامي العراق.
ان فقدان الاستقلالية يعني ان يتبنى البنك المركزي سياسات نقدية تتماشى وسياسة الحكومة، ولكن سياسات الحكومة قد لا تتناسب مع قانون البنك المركزي. بعبارة اخرى انها لا تركز على محاربة التضخم ولا تعطي الاهمية اللازمة لهدف الاستقرار الاقتصادي.
ان فرض سياسات ذات طبيعة مالية على البنك المركزي يجب ان يكون موضع تنسيق ودراسة من قبل الجهات الحكومية والبرلمانية. البنك المركزي قد أُضعف اداريا من الحكومة، وكثيرا ما حاولت الحكومات فرض سياساتها على البنك المركزي، ومن ذلك ان رئيس الوزراء السابق حاول الاستدانة من البنك المركزي الامر الذي رفضه البنك لان القانون يمنعه من ذلك، وانتهى الامر بالهجوم على البنك المركزي واعتقال العديد من خيرة موظفيه.
ومن مظاهر التجاوز على الاستقلالية هو الامر المتعلق بالتجاوز على احتياطي البنك المركزي. ويردد البعض ان ذلك قد يكون مبررا لان الاحتياطي يتجاوز العملة في التداول وفي المصارف بمرة ونصف المرة. ان هذه تبريرات للحكومة كي تسيطر تدريجيا على موارد البنك المركزي. ان اقتصادا – مثل الاقتصاد العراقي – مفتوحا بشكل كبير على الخارج يحتاج الى موارد كبيرة لتعويض نتائج اي ازمة، واذا تم الاقتراض من البنك المركزي فمتى سترد هذه الاموال ؟ وما هي القدرة التي يملكها البنك تجاه الحكومة لاسترداد هذه الاموال ؟.
ان الفقاعة وارتفاع سعر الدولار هي نتيجة لسياسة الحكومة ومجلس النواب وعليه يجب ان يصار الى ازالة هذه المعوقات عن سوق الصرف حيث لا يجب ان تعطى اهمية اكبر للسياسة المالية، فالسياسة النقدية تحدد سعر الصرف وتساعد على ادارة النقود ووظائفها.
البنك المركزي لا يقرض الحكومة لكنه يساعد الاقتصاد ككل عن طريق استقرار الاسعار وتنظيم الائتمان والاشراف على القطاع المصرفي والمالي وتنظيم المدفوعات والحفاظ على احتياطي البلد. اما الكلام الكثير الذي رددته الحكومة واللجنة المالية في مجلس النواب حول “مزاد العملة الاجنبية” فان هذا المزاد هو سياسة نقدية تسحب بموجبها الدنانير من السوق وتشترى بها العملة الاجنبية وهنا ينتهي الموضوع بالنسبة للبنك المركزي، فنحن امام عملية تصريف نقدي مباشرة وبسيطة. واذا لم يكن هناك استيراد من “المزاد” فعلى البرلمانيين ان يستفسروا عن اسباب ذلك في الكمارك او وزارة التجارة فعملية الاستيراد لا تدخل ضمن العملية النقدية. ان البنك المركزي يجب ان يقابل كل الطلب على الدولار وهذا الامر هو من اساسيات استقرار الاسعار حيث ان الطلب الذي لم يشبع من قبل البنك سيذهب ويخلق سوقا آخرى واسعارا اخرى، الامر الذي يخالف قانون البنك المركزي ويخلق حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي.
لقد اختارت اللجنة المالية وضع حد اعلى لبيع العملة الاجنبية (75 مليون دولار يوميا) فساهم ذلك في عدم الاستقرار وخلق اسعارا متعددة للصرف نظرا لان الطلب الحقيقي كان اعلى. وعلى اية حال فان هذا الطلب لا يُسأل عنه البنك المركزي بل تُسأل عنه كل قطاعات الاقتصاد، فلماذا لا تتوجه اللجنة المالية في البرلمان والتي تمارس التشريع والرقابة بالسؤال الى قطاعات الاقتصاد التي تشرف عليها والى القطاع الخاص، خاصة وانها من المفترض ان تلتقي كل اركان الاقتصاد. لا نشك في ان هناك مخالفات ، الامر الذي يتطلب المتابعة مع المصارف التجارية ذات العلاقة ولكننا نؤكد ان البنك المركزي هو امام عملية تصريف نقدية ليس الاّ، اما جانب الاستيرادات فهو خارج نطاق عمل البنك المركزي.
من ناحية اخرى ان الاموال تذهب الى الخارج لان الدولة لم توفر الفرص المناسبة في الداخل لاستثمارها. كما ان قسما منها يعتبر نوعا من الادخار الخارجي (مفهوم ضمن الحسابات القومية لأي بلد) سيرجع الى العراق في الظروف المناسبة التي يجب ان توفرها الدولة. اما فيما يتعلق بالاموال الخارجة فلا بد من التأكد من مصادرها وشرعيتها من المصارف ودوائر مكافحة غسيل الاموال فيها التي يجب تقويتها، فقد تكون غالبية المصادر متأتية من عمليات غسل اموال او ان الموضوع ببساطة هو عمليات كبيرة لخروج رأس المال.
ويجب الا ننسى ان العراق يقع ضمن مجموعة الدول التي تمر في مرحلة انتقال من انظمة شمولية الى انظمة ديمقراطية منفتحة تؤمن بالاقتصاد الحر. هذه المجموعة من الدول تمر بتغيرات كثيرة ينفتح فيها الاقتصاد (كدول الاتحاد السوفييتي سابقا)، ولكن الكثير من هذه الدول اتسم اقتصادها بانتقال رأس المال الى الخارج. وفي حالة العراق تشجّع هذا الانتقال ايضا بسبب ظروف العنف وعدم الاستقرار التي يعيشها البلد. هذا الوضع قد يفسر المبالغ الكبيرة التي يجري تحويلها الى الخارج.انها تذهب لكي تُدّخر في الخارج، فنكون امام حالة هروب لرأس المال وليس تهريبه. الوضع في العراق في الوقت الحاضر يشجع على هروب رأس المال، واذا لم نسمح لرأس المال بان ينتقل فان سعر صرف الدولار في السوق سيرتفع بشكل كبير الأمر الذي يعيق اتخاذ القرارات الاقتصادية.
العراق لم يصبح حتى الان مكانا آمنا يجلب الاستثمار، ونحن بحاجة الى جهود وطنية كبيرة تضمن الاستقرار وتستقطب الاستثمار.
https://telegram.me/buratha