العقل من اعظم النعم ، مَنَّ الباري بها على البشر ، ليميّزوا به بين الحق والباطل في الاقوال ، والخير والشر في الافعال ، هو الحاكم في مملكة الانسانِ ، واول من لبى نداء الملِكِ الديانِ ، فاقبلَ على طاعتهِ حينَ دعاه ، وأدبر عن معصيته حين نهاه .
و قرأتُ مع السمع انَّ العقل محدودً ، قد حدَّ نفسَهُ بنفسهِ، وعندما سالتهُ كيف ترى وتصورُ ربّي؟!
قال : لا يدرك محدودٌ غيرَ محدودٍ ، فلا زمان يُحدَّهُ ولا مكان ، وهو يحدُّ كلَّ محدودٍ دون ان يحدَّهُ احدٌّ ..الا انّه بكلِّ شيءٍ محيط 2 .
فالعقل يسيرُ معك في الدربِ ، ولكن قد لا يوصلُك الى آخرهِ ، فيحتاجُ الى غيره 3 .
فسكتّ وقلت في داخلي : سبحان ربّي ....
وفي يوم قررت ان اكتب عن الشهيد الذي ضَحّى بنفسهِ لاجل نفسي وبلدي لَعَلّي اردُّ شيئاً من فضلهِ ، فأخذتُ القلمَ وقلت له : هَلمَّ بنا نكتب عن عزيزٍ رحلَ عنّا ، فجئنا الى القرطاسِ نطلبُ منه ان يسمح لنا بتسطير ما اتفقنا عليه .
فقال القرطاسُ : سطّروا عليَّ حروف العزِّ والفخر والكرامة بحبرِكم ، فقد سطّرها شهيدكم من قبل بدمهِ .
عندها سرحَ القلم واندكّ في عالم العقلِ ، يبحث عن مادةٍ توصلُ الى نتيجةٍ ، هي بعينها للشهيدِ لا تنفك ولا تسلبُ عنهُ ابدَ الدهري .
بعدها سَكَنَ القلم عن حركتهِ دون شيءٍ يُذكر..! حتى مملتُ الانتظار ، وقلتُ له : ما بكَ ايّها القلمُ فقد طال عليك صبري ؟!
قال : انّي لعاجزٌ ان اصوغَ عبارةً علميةً كانت او رياضية ، فلسفية او منطقية اعبّرُ بها عن الشهيدِ ؛ لاني اكتشفتُ ان حديثَهُ ليس بعقلي ، فلا وسط يربط بين صغرى وكبرى حتى اصل به الى نتيجةِ الوصفِ ..! ، ان حديثه صرفُ حديثَ روحٍ ، وليس بمقدوري ان اُحللّهُ ، انّهُ حقيقة بسيطة ، فلا جنس له و لا فصلُ ، حتى اُدرِكَ معناه .! انّه خارجُ حريمِ عقلِ القلمِ.!
اقرُّ واعترفُ لكَ يا صديقي بعجزي وضُعفي ....
فقلت له : لا تَتَرُكني وحيداً مع مشاعري اريدُ ان اسطّرها حتى انعمَ بالليلِ وتقر عيني ؟!
فقال لي : اذهب واقرأ في كتابِ الوحيِّ لعلّهُ اوحى لحبيبهِ عنهُ .
عندها رجعتُ خَجِلاً من ابن الشهيدِ ماذا يقولُ غداً عنّي .
ذهبت ابحثُ في كتابِ ربّي اتصفحُهُ لعلّي ارجعُ بنبأٍ لقلمي ، يسطّرُهُ في صفحاتِ القلوبِ والورقِ ، فوجدتُ ربّي قد وصف الشهيد بانه ليس بميتٍ انّه حيّ يرزقُ عندَهُ ..
فسألتُ نفسي أيُّ حياةٍ عنها يتكلم ربّي ... ؟
فأجابتْ نفسي : ان الشهيدَ قد انتهتْ حياتُهُ بالقتلِ ، ماتَ موتَ تقيًّ عاشقٍ لحياةٍ لا فناءَ فيها ، فهو حيٌّ عند ربِّهِ ، و في ضميرِ امتِهِ ..
الم تقرأ قد مات قوم وهم في الناس احياء .
الم تقرأْ ان جميعَ الانبياءِ يقبضونَ من مَلِكِ الموتِ ، والشهيدُ يقبضهُ ربّي كيفَ يشاءُ و لا يُسلطُ على روحِهِ غيرَهَ .
الم تقرأْ ان جميعَ الانبياءِ قد غُسّلوا ، والشهيد لا يغسّل ولا حاجةَ له بماءِ الوردِ .
الم تقرأْ ان جميعَ الانبياءِ قد كُفّنوا ، والشهيدُ اغناه اللهُ عن الكفنِ .
إعلمْ ايّها السائلُ : يقالُ : عن الانبياءِ اذا ماتُوا موتىَ ، و قال ربّي : عن الشهيدِ لا تقولُوا عنه ميتٌ انّه في جنّةِ الخُلدِ 4.
فتأملتُ قليلاً ، وقلتُ : إنَّ الشهيدَ قد احرقَ نفسَهُ كالشمعةِ من اجل أنْ يضيءَ لنا الدربَ .
الشهيدُ ماتَ موتَ الواعي من اجلِ تحقيقِ هدفٍ مقدسٍ انسانيٍّ ، من اجل ردِّ فساد في الارضِ ، وردِّ اعتداءٍ على العرض ِ ، وسلبِ امولٍ بغيرِ وجهِ حقٍ . إنّهُ اجتازَ امتحانَ ربّهِ تحتَ رمي الرصاصِ واثبت اخلاصَهُ ، وصدقَه ، وبانتْ حقيقتُهُ حينَ اختارَ الشهادةَ ، فليس من اللازمِ ان يؤديَ امتحاناً آخرَ في عالمِ البرزخِ...
ثم خرجَ قلبي من صمتِهِ ، ونادى باعلى صوتِهِ ، لولا دمُ الشهيدِ والشهادةِ ، لاعتلا الغريبُ عرشَ بلدي ، و سار به عكساً فلا تعليمَ و لا تعلُمَ ، و لا طبَّ و لا طبيبَ ، ولا اختراعَ ولا مخترعَ يذكر ، بحجّةِ انّها من صناعةِ الغربي ، او لم تكن في عهد النبيّ الامّي (ص) .
بعدَها عَرَفْتُ انْ نفسي صادقةٌ بما قالتْ حينَ فَسَرتْ قَولَ رَبّي ، إنَّ الموتَ على مسرحِ الشهادةِ فوزٌ للشَهيدِ لا فوزٌ من بعدِهِ يأتي ، فهو هاجَرَ لانقاذِ ايمانهِ ، وجَاهَدَ من اجلِ انقاذِ ايمانِ مجتمعِهِ. ايّها الناسُ اينَ منطقُنا من منطقِ الشهيدِ ، انّهُ منطقُ مصلحٍ يتضور قلبه الماً لاهلهِ ، ومنطقُ العاشقِ للقاءِ ربِّهِ ، تحررتْ روحُه من قيودِ شهواتٍ هابطةٍ ، فاضحى منطقُهُ منطقَ غريبٍ لا نفهمُهُ ، والفاظاً تحكي عن شهيدٍ وشهادةٍ لا يفهمُا الا مَنْ سارَ على خطِها ، ولا يتذوقُها الا من سما وتحررَ من ربقةِ البطنِ والفرجِ .
. عندها عذرتُ صديقيَ القلمَ ، و قررتُ انْ لا حزنَ على الشهيدِ بعدَ اليومِ .
اهدي كلمتي هذه الى شهداءِ الحشدِ ، و منهم ابو كوثر ؛ فهو صديقي وقريب لنفسي ، وإلى من وصفه قائدي بالشهيدِ الحيِّ 5.
1- هذه كلمة عبارة عن مقايسة بين حد العقل وعدم إطلاقه ، وبين عجز القلم ، وعدم استطاعته ان يصف كل شيء ، وهنا في المقام يعجز القلم عن وصف الشهيد
2 - سورة فصلت آية 54
3 - يستعين بالادوات المعرفية الاخرى من حسّ ، او تجربة ، او وحي ّ .
4 - هذا مضمون رواية ذكره القرطبي في تفسيره / ج4
5 - انه الحاج سليماني ، يذكر ان السيد القائد قد اطلق عليه وصف الشهيد الحي
https://telegram.me/buratha