يمكن القول ان عملية التدخل العسكري التركي الأخيرة في الأراضي السورية مساء 21/2/2015 قد أماطت اللثام عن جملة معطيات، منها؛ ان العسكرتاريا التركية، ومن خلفها أوهام "الخلافة" الأردوغانية، تتعامل مع ملفات المنطقة بردود الأفعال، وتتصيد دائماً في الماء العكر، مما يفضي بها الى انتهاج سياسات، يمكن وصفها بالمأزومة! ويعزز هذا التصور تهافت الذريعة التي استند اليها التدخل التركي السافر، بأن مشاركة قرابة 600 جندي تركي في العملية ونحو مئة دبابة وعربة مصفحة، هي (فقط) لنقل رفات وضريح "سليمان شاه" في عمق 35 كم من الحدود التركية، والنية بدفنه في موقع محاذٍ لتلك الحدود (داخل سوريا أيضاً)، مع ان الضريح لم يتعرض الى أي حادث منذ اندلاع الأزمة السورية، رغم سيطرة تنظيم داعش على المنطقة منذ مدة طويلة، في ظل وجود "تفاهم" مع السلطات التركية لضمان سلامة الموقع والجنود الأربعين الذي يحرسونه!
تعددت القراءات للعملية العسكرية، آخذة في الاعتبار التوقيت والجغرافيا، والمخاض العسير الذي تعيشه المنطقة بأحداثها الساخنة، وأقرب تلك القراءات للصواب هي تلك التي تمزج الاعتبارات السالفة مع طبيعة السياسة التركية المأزومة، فتخرج بعدة استنتاجات، أهمها؛
أولاً: لم تكتفِ الحكومة الأردوغانية بتورطها المفضوح في دعم الارهاب التكفيري منذ إشعال الحريق السوري، والذي مهّد للحريق العراقي؛ بل تحاول أن تكون محور الاهتمام في "أوراق الحلول" وأن لا تكون نسياً منسيا، أو منتهية الدور والصلاحية، خصوصاً في الشق السوري مؤخراً!
ثانياً: سقوط المشروع الأردوغاني المدوّي في المنطقة ورافعته "الإخوان المسلمون"، وبالذات في مصر وسوريا وليبيا، قد أسقط معه أوراق التوت التي كان يتستر بها نظام أردوغان لفترة زمنية معينة، ومن ثم احتضار هذا المشروع قد سلب "الأردوغانية" زخمها والكثير من الأوراق التي كانت تغذي أحلام الهيمنة، وجعلها تتوسل بكل ما من شأنه أن يحدث فرقعة صوتية ما (كالعملية الأخيرة)، لتنبيه الآخرين بأن الرقم التركي لا يمكن تغييبه في ملفات المنطقة رغم تورطه المزري، وبأنه ليس صفراً على الشمال!
ثالثاً: لا يمكن التغاضي البتة عن واقع ان العملية التركية تفصلها ستة أيام فقط عن الضربة العسكرية المصرية ضد مواقع وتجمعات داعش في العمق الليبي (رداً على ذبح داعش لـ 21 مصرياً)، حيث عززت الضربة من الدور المصري واسترداد مكانته في المنطقة، وكذلك زادت من رصيد الرئيس السيسي الطامح الى تثبيت ذلك الدور بعد غياب سببته أحداث "الربيع العربي" ووهن نظام مبارك في سنواته الأخيرة، مما سمح لتمدد الدور التركي على حساب المصري! ناهيك عن تورط نظام أردوغان في الدعم غير المحدود لـ"الإخوان" واختطافهم السلطة بعد الأحداث التي أسقطت مبارك، وما تبعه من إسقاطهم بضربة شعبية لتصحيح الأوضاع، والذي أسفر عن خلق حالة عداء متنامية بين النظامين التركي والمصري، وتصادم بين دوريهما في مجمل ملفات المنطقة الساخنة، وبالذات التقارب الخليجي (شهر العسل) مع نظام السيسي، الذي لم يرُق قطعاً لنظام أردوغان الذي يشهد خريفاً مع الأنظمة الخليجية (عدا قطر)، سلبه أي تأثير يطمح اليه! لذا جاء ت العملية التركية الأخيرة لترسل أشارة الى السيسي أولاً، والى المنطقة ثانياً، بأن اللاعب التركي موجود، وان "جرأة" التدخل في دول الجوار ليست حكراً على القوات المصرية، التي تستثمر عملية ليبيا في استعراض القوة، على حساب قوى أخرى كتلك التركية، التي لها اليد الطولى منذ البداية في المدّ التكفيري في ليبيا بالتنسيق مع قطر!
كما يمكن اعتبار التدخل التركي الأخير في سوريا رسالة موجّهة لدول الخليج المستقوية بالـ"الفتوة" المصري الذي تمده بالمليارات وترحب باستعراض قوته، وبالذات حينما يُطمئن السيسي الخليجيين بأنه سيكون حاضراً بقواته معهم في حال تعرضهم لأية تهديدات من أيّ كان (ودائماً المقصودة هنا إيران أولاً)، وبأن الأمر لا يأخذ منه وقتاً سوى "مسافة السكة" كما ردّد في أكثر من مناسبة! وهذا التمدد للعسكرتاريا المصرية في منطقة الخليج لا يروق بتاتاً لنظيرتها التركية ويقلقها ويكبح بشدة جماح أوهام الهيمنة الأردوغانية، المتوافقة مع نزعة المؤسسة العسكرية التركية في لعب دور إقليمي ينسجم مع ثقلها وحجمها، خصوصاً في ظل الانقلاب الحاصل في العلاقات السعودية- التركية، والتي تهدد بإعادة النظر (وربما التحول 180 درجة) في ملفات كانت محل توافق بين الطرفين!
رابعاً: تحمل العملية العسكرية التركية رسالة غير مشفرة لـ"حزب الله" اللبناني والحكومة السورية بأن تركيا ما زالت لاعباً رئيسياً في المعادلة السورية، رغم كل ما يقال عن ضمور الدور التركي!
خامساً: في الشق العراقي، تحمل العملية التركية رسالة (مشفرة) للعراقيين، بأن ترتيبات المعركة التي تّعد لتطهير الموصل من داعش وما ستتبعها من استحقاقات (ربما) سياسية وديموغرافية محتملة، كمصير كركوك (التي تشبح لها دوماً العين التركية) ومصادر الثروة النفطية وأبعاد جيوسياسية أخرى في الشمال العراقي، ينبغي حسب الرسالة التركية أن لا تغفل الرقم التركي وتلك "المصالح الحيوية" التي يسربها الأتراك علناً بين فترة وأخرى. وجاءت العملية للتذكير بأن الذراع العسكرية التركية جاهزة للتحرك رغم تشابك الملفات وحرائق المنطقة!
سادساً: تندرج العملية التركية في لعبة شدّ الداخل التركي للحكومة التي تعاني احتقاناً داخلياً واحتداماً بين المعارضة والسلطة، وهذه اللعبة هي وصفة عالمثالثية بامتياز، أي توجيه الأنظار الى "أخطار خارجية" وإن كانت وهمية!
* * *
لم يكن التدخل العسكري التركي في سوريا مؤخراً الأول من نوعه، اذ سبقه تدخلات تركية سابقة منذ اندلاع الأزمة السورية في 2011، كما ان لتركيا تاريخ طويل في تدخلاتها السافرة في الشمال العراقي في أوقات سابقة بذرائع واهية كثيرة، ولكن الملفت في العملية الأخيرة، والتي جاءت في وقت حساس وملتهب، بأنها جوبهت بصمت عربي ودولي مريب! مع ان هذا التدخل بمثابة اعتداء (أو عدوان كما وصفه بيان سوري رسمي) على دولة ذات سيادة (على الأقل وفق الأعراف الدولية)، كما لم يستند لأي قرار أو تخويل دولي (مثلما جرت العادة في أحداث مشابهة)!
أما ذريعة العملية تلك فهي واهية ومتهافتة، اذ ما معنى أن تجرد حملة عسكرية بهذا الاستعراض لـ"نقل رفات وضريح جدّ مؤسس الدولة العثمانية" أو إجلاء حرسه الأتراك الأربعين، مع ان هذا الموقع كان آمنا طيلة أحداث الحريق السوري منذ 2011؛ بل وأصبح أكثر أمناً في ظل توافقات غير خافية بين تنظيم داعش (المسيطر على تلك المنطقة) والجانب التركي؟! وما تفسير نقل "الرفات والضريح" الى منطقة (سورية) قريبة جداً من الحدود التركية، بينما يُفترض ان "الوازع الوطني" لعملية النقل، والمجوز الفقهي (إن وُجد أصلاً) يمكن العمل بهما ونقل الرفات -والى الأبد- الى منطقة تركية آمنة (هذه العملية الثانية لنقل الرفات من الموقع الأصلي منذ 1920)، فلماذا في سوريا مرة أخرى، أم ان "مسمار جحا" ينفع في أوقات قادمة؟!
حقاً لقد أضحت العملية العسكرية التركية الأخيرة في سوريا حدثاً كاريكاتورياً، واستعراضاً صبياناً للقوة، رغم كل "الاستنتاجات" التي سلف ذكرها، خصوصاً في ظل التصريح الذي أدلى به أحمد داوود أوغلو رئيس الوزراء التركي وهو يقف الى جانب رئيس هيئة أركان الجيش ليعلن بعنجهية "ان العملية تكللت بالنجاح، دون أن تشهد أي اشتباكات"! وكأنه قضى على جيش من الأعداء، وتحديداً حينما ينتقي عبارته التي جاء فيها؛ "وجهنا القوات المسلحة التركية لحماية قيمنا الروحية وسلامة جنودنا"!
فأية بطولة تلك التي يمكن أن يجيّرها نظام أردوغان وهو ينفذ "عملية عسكرية" في منطقة يسيطر عليها حلفاؤه (داعش)؟ ولم تُطلق رصاصة واحدة تجاه قواته و"دون أن تشهد أي اشتباكات" كما ذكر أوغلو، وحتى الجندي التركي الذي تم إعلان وفاته كان لحادث عرضي أثناء العملية التي دُبّرت بليل..! وبالطبع سيكون تبجحاً ذلك الذي مارسه داوود أوغلو بقوله في ذات التصريح؛ "أن قرار العملية صدر من أنقرة، ولم تطلب مساعدة أي جهة خلال العملية، أو أي إذن من أحد أو أي جهة"! وكأنه يغمز من طرف خفي ليبعد الشبهات عن التواطؤ مع داعش المسيطر على المنطقة هناك، حيث ان هذا التواطؤ أصبح أكبر من أن يحتويه النفي التركي المتكرر، وذلك لوسعة الأدلة والقرائن والإثباتات والتسريبات! واذا كان مقصوده من ذلك هو تحدي السلطات السورية، فهذه قرصنة مبتذلة بكل المعايير، ولا يمكن احتسابها بطولة، في ظل الأوضاع القتالية في سوريا!
اننا إزاء سياسة تركية (يقودها مهووسون بأحلام الهيمنة العثمانية) تكابد لإظهار قوتها كعملاق يبسط نفوذه في المنطقة، ولكنه يتصرف كقزم متسلل يسرق الرفات من المقابر!
https://telegram.me/buratha