بغداد ـ عادل الجبوري
انها ليست المرة الاولى التي ينشب فيها اقتتالٌ مسلحٌ يسقط فيه عشرات القتلى والجرحى بين تشكيلات من قوات البيشمركه الكردية، وتشكيلات من قوات الحشد الشعبي المتشكل من أبناء القومية التركمانية في قضاء طوزخورماتو الواقع جنوب محافظة كركوك الغنية بالنفط والمتنازع عليها بين العرب والاكراد والتركمان.
في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي اندلعت اشتباكات مسلحة داخل طوزخورماتو بين عناصر تركمانية في الحشد الشعبي، وأخرى كردية تابعة لقوات البيشمركه، وقد أفلحت وساطات وجهود عدد من الشخصيات والأطراف السياسية والدينية في احتواء الأزمة بأقل قدر من الخسائر، لتستعيد المدينة هدوءها النسبي.
بيد أنه في هذه المرة بدت الأمور مختلفة نوعا ما عن سابقاتها، ويتضح أنها تفوق في حساسيتها وخطورتها كل ما تعرضت له طوزخورماتو من استهداف إرهابي ممنهج بعشرات السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة طيلة الأعوام الثلاثة عشر الماضية.
تكمن الخطورة بعدة عوامل وظروف، وجملة ملابسات وإشكاليات على ارض الواقع، من بينها:
- إن جهود ومساعي التهدئة واحتواء الموقف المأزوم لم تفلح حتى الآن، فبعد الاعلان عن التوصل الى اتفاق لايقاف الاقتتال في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، عاد التصعيد مجددا بعد اقل من يومين وعلى نطاق اوسع، ترافق مع موجة نزوح لعشرات العوائل، وبعضها هي بالاساس عوائل نازحة من الأنبار ونينوى هربا من إجرام "داعش".
[طوزخورماتو]
طوزخورماتو
- استخدمت هذه المرة في الاقتتال الداخلي بين الطرفين أسلحة متوسطة وثقيلة، ناهيك عن الاسلحة الخفيفة، مما ألحق قدرًا كبيرًا من الدمار بمنازل المواطنين وممتلكاتهم وبعض الدوائر والمؤسسات الحكومية، الى جانب الخسائر البشرية المتمثلة بسقوط اعداد لا يستهان بها من القتلى والجرحى.
-تزامن اندلاع الاقتتال في الثاني والعشرين من شهر نيسان/ابريل الماضي مع أزمة سياسية حرجة واجهتها البلاد، مترافقة مع ضغوط جماهيرية وغضب واحتقان شعبي. وكما يقول البعض "كان العراق يقف على كف عفريت".
ذلك التزامن، قرأته بعض الأوساط والمحافل السياسية على أنه لم يكن عفويًّا، وانما جاء بفعل تخطيط جهات معينة وتحريك ادوات قادرة على إحداث الفتنة في بيئة اجتماعية وسياسية وأمنية مهيأة الى حد كبير لإشعال نيران الفتنة.
- في ظل أزمات اقليم كردستان ذات الطابع السياسي والاقتصادي، بدا ان الاكراد غير راغبين اليوم في التهدئة وتطويق الأزمة بأقل قدر من الخسائر، والا لماذا يتفاعل الاكراد مع جهود التهدئة خلف الكواليس، ويصعِّدوا في الميدان؟.
- استمرار الاقتتال واستنزاف كل طرف للآخر من اجل تحقيق انتصار وهمي عليه، يعني تقديم مكاسب كبرى لتنظيم داعش على طبق من ذهب، وجعله يحقق انتصارات مهمة دون أي عناء.
فبينما لم يتبين حتى الآن السبب الحقيقي لنشوب الاقتتال العسكري المسلح بين البيشمركه والحشد التركماني، في ظل تعدد الروايات وتبادل الاتهامات التي تخلو من دلائل يعتدّ بها لتشخيص المتسبب والمسؤول عن ذلك التصعيد الخطير بين قوى مسلحة تتمثل مهمتها الاساسية في هذا الوقت تحديدا بمحاربة تنظيم داعش الارهابي، نرى أن اجواء التأزم والاحتقان تتسع رغم اظهار الطرفين رغبتهما واستعدادهما لعدم الذهاب بعيدا في المواجهة.
- لا شكَّ ان استمرار الاقتتال المسلح بين اطراف لها انتماءات قومية ومذهبية متعددة في المناطق المتنازع عليها، يقلص فرص توفير ظروف التعايش السلمي، ونزع بؤر التوتر، وازالة عوامل ومسببات اختلال او فقدان الثقة، ما ينعكس سلبا على المشهد السياسي العام في البلاد.
- تصاعد الازمة بدل تطويقها واحتوائها يعني امكانية دخول قوى خارجية فيها، اما بناء على دعوة هذا الطرف او ذاك، او انطلاقا من حسابات ومصالح خاصة، او شعورا وتقديرا من تلك القوى لوجود ما يهدد مصالحها ويؤثر على امنها.
ولعل الحلول الوقتية والتفاهمات الآنية السريعة قد تجدي نفعا بمقدار معين، بيد انها على المدى البعيد لا تشكل ضمانات حقيقية بعدم تجدد الاقتتال، في ظل عدم زوال أسبابه، سواء أكانت تلك الاسباب واقعية، او كانت عبارة عن هواجس ومخاوف وقلق متبادل يتراكم عبر عقود، حتى باتت لا تحتاج الى الكثير من الوقت والجهد حتى تتفجر بصراعات دموية مسلحة بين الاخوة الاعداء.
وقد يكون ظهور خطر تنظيم داعش، وانبثاق الحشد الشعبي كقوة فاعلة ومؤثرة ولا غنى عنها على الارض بفضل فتوى المرجع الديني اية الله العظمى السيد علي السيستاني بالجهاد الكفائي في منتصف شهر حزيران-يونيو 2014، قد عمَّق مخاوف وهواجس الاكراد، ومن يقف وراءهم، لذا راحوا يحاولون جاهدين التمدد والتوسع بكل الأشكال والصور، لا سيما في المناطق المتنازع عليها، التي يمتلكون فيها وجودا اجتماعيًّا وحضورا سياسيًّا وعسكريا معينا، والتي تمتاز بعدم استقرارها الامني الجيد وخضوعها للكثير من التجاذبات، مثل كركوك وخانقين وكالار وجلولاء والسعدية، وحتى محافظة نينوى قبل احتلالها من قبل تنظيم داعش.
وبات الأكراد لا ينظرون الى معارك الحشد الشعبي ضدَّ "داعش" في المناطق المتنازع عليها أو المتاخمة لها على أنها جزء من المواجهة الشامل ضد هذا التنظيم، التي تشارك فيها قوات البيشمركه وأبناء العشائر في المناطق الغربية، بل يعتبرونها تهديدا لوجودهم ونفوذهم، وتمددا على الاقليم، دون اغفال حقيقة ان المكونين العربي والتركماني في بعض او كل المناطق المتنازع عليها لديهم حساسيات حيال الاكراد.
وما حصل في طوزخورماتو قبل خمسة أشهر، وما يحصل الآن، هو انعكاس لواقع تلك المناخات والاجواء الملتهبة، ومحصلة منطقية ومتوقعة لغياب الثقة، ومن غير المستبعد ان نشهد صراعات مسلحة في اماكن اخرى، اذا لم يصار الى البحث عن جذور المشاكل والازمات، والعمل على استئصالها، والا فإن بعض المسارات والخيارات من قبيل المادة (140) من الدستور العراقي المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها، لن تأتي بأية نتيجة، وتجربة الاعوام العشرة الماضية أبلغ واوضح دليل، رغم ما أُنفق من مال وجهد ووقت.
https://telegram.me/buratha