أشكال مخيفة، بملابس رثة، أحدهم يشبه كيساً متنقلاً لمادة “الاستمبر” الصفراء التي يطلى بها الخشب، يسير بين السيارات في منطقة النهضة ،يرعب النساء بمظهره الذي لا يشبه سكان الأرض، عادة ما يكون من دون ملابس ما يحرج الكثيرين عندما يقترب منهم ويتحدث بلغة “مريخية” وتركض بعض النسوة هرباً منه ومن كلماته النابية.
انه متشرد من ضمن العشرات ممن يجوبون شوارع بغداد وتحوم حولهم مجموعة من القصص الغامضة التي غالبا ما يكون فيها جزء من الخيال والملاحم الأسطورية.. أصوات شخير تعلو من بعيد، عتمة الطريق منعتني من مشاهدة الشخص الذي يطلق هذا الصوت، اقتربت أكثر، الصوت يزداد شدة، حتى اصطدمت قدمي بشيء على الأرض، سحبتها مفزوعا، لأني فوجئت بأن ما صدمته كان طريا، وحين رجعت خطوتين إلى الوراء وتحققت بصعوبة في شدة الظلام الحالك ،اكتشفت أني قد صدمت رجلا متمددا في وسط الرصيف.
ماذا بعد الغروب؟ العودة من سهرة مع الأصدقاء في احد مقاهي السعدون ، تجعلك تمر بـ”درابين” ضيقة وشوارع منطقة البتاوين الفرعية التي ما ان تخترقها حتى تصل إلى شارع النضال وبها تكون قد اختصرت مسافة وزمنا، أنت في أمس الحاجة إليهما مع تسارع الوقت وازدياد الظلام. عادة ما تكون هذه الأزقة او البعض منها خالية من مصباح كهرباء ، وتضطر إلى أن تسير على ضوء القمر او أنوار خجولة كسرت حاجز الستارة العتيقة من احد المنازل المتهالكة.
وقد توحي هذه الصورة باستعادة أبيات شعرية عن الليل (…) غير أن الحفر والمياه الآسنة التي تملأ هذه الشوارع تجعلك تخرج من جو الغناء والشعر إلى السؤال عن متى تنتهي مشكلتنا مع النفايات والمجاري؟ ومع المطبات والمياه الآسنة.. لا تستغرب إذا تفاجأت بأحدهم وقد افترش الأرض، وغط في نوم عميق.
يفزعك المنظر وأنت تشاهده مع بزوغ الفجر وهو ممدد على الأرض بملابس رثة وقذرة وشعر طويل وذقن أطول، ويحوم حوله الذباب وكأنه صيد ثمين، وبارتفاع أصوات حركة الناس في الشارع وتزايد السيارات ومنبهاتها التي توقظ القتيل، لا يصحو إلا بعد أن يتلقى عدداً من الركلات من قبل “أبو حسن” الرجل الضخم صاحب الدشداشة الرمادية والصوت الأجش، حين يصرخ به “كووم.. خلصت فلوسك”.
أبو حسن، رجل في الخمسينيات من عمره، يملك بسطية في بداية شارع السعدون، يضع فوقها أشياء مختلفة كلها تباع بـ(ربع ) 250 دينار، ما يعكر مزاجه صباح كل يوم بالإضافة إلى الزحامات وأصوات صفير سيارات الشرطة، إصرار (خضير) الرجل المتشرد على اتخاذ مكان بسطيته فراشاً له بعد أن يجمع البائع أغراضه من على (الجنبر) ويغادر بها إلى المنزل، يجعل صاحب البسطية مضطرا لأن يصرخ به كل يوم لكي يتحرك بعيدا عن مكانه الذي انتزعه من بين أسنان منافسيه في العمل، وان لم يستجب “المجنون” للنداءات العالية، تبدأ الخطوة الثانية، بتوجيه ركلات متتالية على ظهره. حين تقترب… من خضير.
في محاولة للتحدث معه، تجبرك رائحته الكريهة على إعادة التفكير في مدى نجاح هذه المحاولة، ولكن البحث عن أسباب لجوء هذا الشخص إلى الشارع ومبيته هناك لن يدعك تفكر بالتردد وإنما تندفع لتبحث عن قصته. خضير لا يعرف لون بشرته الحقيقية وكذا الناظر إليه لا يمكنه التمييز بينها الا بعد تمعن فهل هو اسود البشرة أم ابيض ، ربما اكتسب هذا السواد من خلال العيش بين الازبال وبقايا الطعام التي يتغذى عليه.
غير أن الغريب سماعك الكلمات البليغة وقصائد الشعر تنساب بيسر وطلاقة من بين شفتيه المزرقتين بشكل عذب، فتسمعه ينشد أبياتا من شعر الرصافي والسياب والجواهري وأغاني عبد الحليم ويعلق ساخرًا ببعض كلمات الأغاني العراقية الجديدة “الدفان ، واللوكلوك”، ثم تفلت الأمور من زمامها ويبدأ بسرد كلام غير مترابط وغير مفهوم ينطوي على الكثير من الشتائم إلى شخصيات من أزلام النظام السابق.
وبالحديث مع أصحاب البسطيات التي يجلس خضير بالقرب منهم، يتحدث أبو حسن، مشيرًا إلى أن المتشرد نراه منذ أربع سنوات في المكان نفسه لا يبارحه إلا قليلا، حيث يختفي أحيانًا ليأتي محملا بأغراض غريبة، معظمها يلتقطها من الأزبال ويضعها في كيس قذر.
ويؤكد أبو حسن نسمع أحيانا من أشخاص يدعون بأنهم يعرفونه بأنه كان مدرساً للغة العربية في إحدى المحافظات الجنوبية، وسلاطة لسانه جلبت عليه الويلات، حيث يعتقد أبو حسن وحسب كلام أشخاص لهم معرفة بالمتشرد “انه كان ينتقد النظام السابق ويتحدث بين الأساتذة والطلاب من دون تردد، والنتيجة كانت معروفة! حيث تبرع أحدهم من المولعين بالتزلف والنفاق إلى البعثيين بكتابة تقرير مفصل عن انتقادات “ناهي” وكيف يشتم ويسب النظام الدكتاتوري وكيف تجرأ على شتم وسب “القائد” ، حينها وكما هو معروف جاء عناصر الأمن الصدامية واقتادوه إلى احد معتقلاتهم ليخرج بعد أكثر من سنتين على هذه الصورة والحالة المزرية التي نشاهده فيها وبالتأكيد أن ما حصل له كان من جراء التعذيب!.
فيما يؤكد آخر لا نعلم إن كان “خضير” اسمه الحقيقي أم هو اسم اكتسبه في ما بعد، يشير راضي – بائع الشاي القريب من مكان جلوس المتشرد – إلى أن خضير ربما اكتسب هذا الاسم من أحد الأشخاص الذي أطلقه عليه لأسباب يجهلها كما يوضح أنه لا يتحدث بصورة طبيعية ولا تستطيع أن تفهم منه في أحيان كثيرة ماذا يريد، وبالطبع لا يمكنك أن تعرف اسمه الحقيقي. الكل يتفق على أن خضير كان مدرسًا للغة العربية ورجال الأمن الصداميون افقدوه عقله، بوسائل عدة، اختلفوا عليها، فالبعض يقول إنهم حقنوه بأدوية خاصة.
وهناك من يشير إلى وسائل تعذيب كان قد سمع عنها تجعل الإنسان يفقد عقله، والكثير منا كان قد شاهد أقراصاً ليزرية تروي ما كان يحدث في معتقلات النظام السابق من أعمال مروعة، وعدد آخر كانت له تجارب شخصية باختبار وسائل التعذيب التي تفقد الإنسان حياته وليس عقله فقط! .
أموات بأغلفة أحياء قصة خضير أو أياً كان اسمه وكثيرين غيره ممن لم يموتوا، ولكنهم ظلوا أحياءً يعانون شتى أنواع الأمراض ومن بينها فقدان العقل جراء حملات التعذيب الوحشية، تدعونا لمناشدة المنظمات المعنية بحقوق الإنسان لتوثيقها كدليل إدانة أولاً وإنشاء مجمع خاص بمثل هؤلاء لرعايتهم رعاية خاصة يستحقونها.. المهم أن قضية خضير حفزتني للمضي في بحثي عما أسميتهم بـ”سكان الشارع”، فكان الشخص الثاني الذي تعرفت على قصته هو هادي “المخبل” كما يدعونه أصحاب السوق في منطقة الباب الشرقي.
هادي يبدو غريبًا في ملابسه حيث إنه دومًا يرتدي ملابس طبية، الصدرية البيضاء، ويحمل السماعة، وأحيانًا يضع المحرار في فمه، أو يحاول أن يضعه في أفواه الآخرين.. البعض من أصحاب المحال في السوق يسمحون له بأن يمارس دور الطبيب، ويزرقهم بإبر مزيفة، عبارة عن أقلام أو شيء شبيه بالحقنة الطبية، وآخرون يسخرون منه ولا يدعونه يقترب منهم لأنه مريض أو لأنه قذر. الحديث عن قصة هادي كانت تضم أكثر من رواية شأنها شأن كل حكايات المشردين، حيث يشير فلاح صاحب محل الموبايلات إلى أن المتشرد كان طبيبًا لكنه أصيب بصدمة نفسية جعلته يفقد عقله بعد أن مات أحد مرضاه.
بالمقابل يؤكد أبو كمال صاحب بسطية الأقراص الليزرية أنه كان يريد الدخول إلى كلية الطب ولم يستطع فأصيب بصدمة عصبية وهرب من البيت الذي كان يسكن فيه مع أهله في منطقة الفضل ولجأ إلى الشارع كملاذ أخير.
هادي وهو بعيد تمامًا عن معنى اسمه لأنه دائم الصراخ، يتخذ من “كارتونة” يضعها على الأرض سريرًا له، ويعطف أصحاب المحال على حاله ويعطونه أكلاً وملابس، لكننا لم نستطع أن نتحدث معه لأنه دائماً يعيش في عالمه الخاص.
الجدير بالذكر، أن أطباء النفس في العراق يقولون: إن الحرب والعنف وازدياد عدد القتلى اثرت بشكل كبير على الصحة النفسية بأكملها ، وأن عددًا من الاضطرابات العقلية آخذة في الارتفاع في جميع أنحاء البلاد. مؤكدين أن الطلب على العلاج النفسي سوف يرتفع بسبب ما حدث على مدى السنوات الماضية.
وتسعى وزارة الصحة إلى إعداد برنامج جديد، يهدف إلى إنشاء مراكز الرعاية النفسية في المستشفيات في أنحاء البلاد ، ولكن وحسب وصف الأطباء فإن هذا قد يستغرق سنوات في بلد يبلغ عدد سكانه ما يقرب من 30 مليون نسمة ،بوجود 70 طبيبًا نفسيًّا فقط ، وكان قد أشار تقرير سابق صادر عن منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة العراقية إلى أنه بعد سنوات من الحرب والعنف يوجد في البلاد واحد من كل ستة عراقيين يعاني مرضًا عقليًّا ولكنه يرفض العلاج الطبي بسبب المحرمات.
39/5/141117
https://telegram.me/buratha