صناعة التوابيت، الدفانة، الخط، تأجير الخيم المقوسة، تجارة الاكفان والاقمشة السوداء وغيرها من بعض المهن الاخرى كانت في طريقها الى الانقراض لولا عمليات القتل اليومي التي تشهدها مدننا المبتلاة بالارهاب الذين أعادوا الحياة لها وأنعشوها مرة اخرى، وجعلوها من المهن الرائجة ايضا.
صناعة التوابيت وبعد انتهاء (قادسية صدام) عام 1988 كادت تمحو حتى من ذاكرة النجارين، الا ان احتلال الكويت وما اعقبتها من ويلات اعادت الحياة لها مؤقتا، لكن العنف السائد في مدننا والذي يزيد معدل ضحاياه اليومية على 50 شخصا، ادى الى تناقص اعداد التوابيت الموجودة في المساجد والحسينيات، فضلا عن تكسرها وقدمها، سبب في اعادة الحياة لهذه المهنة بكل قوة، وظهر نجارون اختصاصهم صناعة التوابيت فقط.
يقول النجار جبار حسن الباوي: ان مهنة النجارة اليوم مهنة لا تدر الارباح بسبب نسيان العراقين للفرح، وبالتالي صناعة الاثاث ومستلزماتها متوقفة، الا ان التوسع في بناء الحسينيات والقتل اليومي أنعش مهنتنا، وأخذنا نصنع المنابر الخشبية والتوابيت، وطبعا هذا امر غير مفرح ولكن هو واقع مفروض وعلينا التكيف مع الظروف المحيطة بنا.
أما مهنة الدفانة، فالعراقيون ولوقت قريب كانوا يعرفون بأن مجاميع صغيرة تمتهنها بالقرب من المقابر العامة في المدن المقدسة ككربلاء والنجف، إلا أن الامر ومنذ شهر آذار الماضي اختلف تماما، فلم يعد بالامكان نقل جثامين شهداء العمليات الارهابية المتزايدة الى مقبرة وادي السلام في النجف، لوجود عصابات القاعدة في مثلث الموت في اللطيفية وماجاورها التي تتحكم في الطريق العام اليها، فاضطر الكثير من ذوي الشهداء اللجوء الى الدفن المؤقت في مناطقها لحين توفر الظروف المناسبة لنقل رفات الشهداء الى مثواها الاخير في تلك المقابر المعروفة، وهذا ما استدعى وجود دفانين وفق الطريقة الاسلامية في مناطقهم التي تشهد مثل هذه العمليات، والكثير من مدننا وقرانا في محافظة ديالى منها، والشاب محمد سعيد هو أحد الشباب الجدد الذين ولجوا هذه المهنة يقول: أنا من عشيرة فقدت المئات من ابنائها بسبب ولائها لآل البيت (ص) و تأييدها للتغيير الحاصل في العراق، وكنت أذهب الى مقبرة وادي السلام لتشييع شهدائنا باستمرار، وتعلمت هذه المهنة مكرها، ولأن الوصول الى النجف الآن محفوف بالمخاطر فقد آثرنا ممارسة (حفظ الميت بالأمانة) في قبر مؤقت لحين انفراج الازمة واعادة نقل رفاته الى مقبرة وادي السلام.
اما الخطاطون، فقد ساد الكساد مهنتهم ايضا بعد الانتهاء من مواسم الاحتفالات اليومية التي دأب النظام السابق اختلاقها، وظهور الحاسوب الذي اخذ يتنافس معهم بضراوة.
شرار جواد البياتي رسام وخطاط لم تسنح له الفرصة في التعيين بعد في دوائر الحكومة، فلجأ الى فتح محل للرسم والخط على الاقمشة يقول: بعد ان لمست ان المهنة التي اجيدها قد دبت الحياة فيها، تركت عملي السابق كسائق تكسي وافتتحت محلا للخط وسط هذا الحي الشعبي الذي اسكنه، فهو يبعد عن مخاطر العبوات الناسفة والسيارات المفخخة والاغتيالات على الهوية السائدة في البلد هذه الايام، فضلا عن مواسم الانتخابات والاحتفالات الدينية، آخذة في التصاعد، ولاسيما في المحلات والاحياء الفقيرة والشعبية. فيما يضيف جاره احمد حسن الشمري بائع الاقمشة: إنا لله وإنا اليه راجعون، مع ادراكي التام بان بيع الاكفان عمل غير محبب، الا ان تزايد نشاط الارهابيين القتلة الذين يضيفون يوميا ارقاما متزايدة من اليتامى والثكالى، فان اسرهم بالتاكيد يتوجهون الينا للتوشح بالسواد هم واقرباؤهم، فضلا عن كتابة نعي للشهيد على اقمشة سوداء واحيانا كثيرة يكتبون اكثر من واحدة تتوزع على ساحات مدننا، مما تسبب في اعادة الحياة لعمل الخطاطين وباعة الاقمشة السوداء والبيضاء بقوة، ورب ضارة نافعة.
الخاتمة كانت عند أبي سجا وهو صاحب محل لتأجير الخيم المقوسة ومستلزمات الطبخ: عملنا مشترك سواء في الافراح او الاتراح، فعند ايام العرس وفصول العشائر يأتون الينا ايضا، وطبعا هناك طاقم من الطباخين يرافقون عملنا حسب رغبة الزبائن، الا ان زيادة عدد الشهداء وطبقا للعادات الاجتماعية لاهلنا في اقامة مراسم العزاء لمدد تتراوح من 3 الى 7 ايام وفي بعض الاحيان 10 ايام حسب المستوى المالي لكل اسرة منكوبة، وبعد الـ40 يوما، وإحياء الذكرى السنوية للشهيد والميت، فان الطلب ازداد على الخيم المقوسة، وهي بالتأكيد تساهم في انتشار العشرات من المحلات التي تتعاطى هذه المهنة المستحدثة.
https://telegram.me/buratha