( بقلم : السيد حسن الهاشمي )
جذوة الجهاد بالمال والنفس والجهد والنصب في سبيل الله سبحانه تبقى مسيل لعاب المؤمنين أينما حلوا وارتحلوا وهي تبدو واضحة جلية بأمواج العشاق الوافدين لزيارة المولى أبي عبد الله الحسين عليه السلام في الزيارات المليونية، إذ نلمح تلك الأمواج تتدفق إلى ذلك الضريح المطهر للتزود من نفحاته المعنوية المباركة، وبعضهم قد طوى المسافات البعيدة مشياً على الأقدام للوصول إلى الدوحة الخالدة. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على الشوق والوجد الذي ينتاب المؤمنين في لقاء الحبيب.
لعل أهم ما يشد في عضدنا ويلهمنا السلوة والصبر على إضفاء هالة الأبهة والشموخ لكل مرافق العتبة الحسينية المطهرة، هي المنزلة الرفيعة التي تبوأها ذلك الإمام الشهيد بعد ملحمة الطف الخالدة، وتتضاعف المسؤولية أكثر في زماننا هذا حيث أن التشيع كان ولا يزال يتعرض لهجوم شرس من قبل الأعداء، وهو ما يتطلب منا بذل المزيد من الجهد والمثابرة وعلى كافة الأصعدة، لأنّ النجاح والموفقية في إنجاز هكذا مشاريع مهم جداً ومن شأنه حفظ الإسلام والمذهب. هذا ما يؤكد عليه المسؤولون دائما على ضرورة استحداث المرافق الحيوية في العتبة المطهرة منذ سقوط النظام البعثي البائد، وطالما لاقت الإهمال الشديد المتعمد نتيجة سياسة التمييز الطائفي المقيت الذي كان يتبعها ذلك النظام بشأن كل ما يمت بتراث أهل بيت النبوة، وبعد السقوط شهدت كل مرافق العتبات طفرة نوعية في الإعمار والصيانة، ومن ضمن تلك الفعاليات إنشاء الضريح الجديد، حيث أن الضريح الحالي يرجع تاريخ نصبه إلى أكثر من خمسين عاماً، علاوة على الأضرار الكبيرة التي لحقت به جرّاء الاعتداء البعثي على العتبات المقدسة بعيد الانتفاضة عام 1991 م.
وتأتي ضرورة استحداث الضريح المقدس للإمام الحسين (عليه السلام) بأن جميع الأضرحة المباركة سواء الموجودة منها في العراق أو إيران أو سائر مناطق العالم الإسلامي، وعلى أثر احتكاك الأيادي والخواتم والحلي بها ما يؤدي إلى تصدّعها بمرور الزمن. ومن هذا المنطلق وعلى أثر احتكاك تلك الأشياء بالضريح المقدس للإمام الحسين، فإنه قد أصبح رقيقاً وهشاً، علاوة على التصدعات والثقوب التي تعرض لها الضريح بعيد الانتفاضة عندما شّنت قوات النظام البعثي البائد هجومها على زوار حرم الإمام الحسين عليه السلام. وأهم من كل ما ذكر أن الوضع الحالي للضريح لا يناسب مقام الإمام وشيعته المنتشرين في شتى أصقاع العالم، حيث أنه لا يزال صرحه العظيم وسيبقى بيننا كوكباً لا تطاله كف الأفول. كل تلك الأسباب هي التي دفعت إدارة العتبة الحسينية المطهرة في استبدال ضريح قبر الإمام الحسين (عليه السلام) بآخر يليق بشأنه ومكانته الراقية بين الشعوب المتحررة، ولا أبالغ في القول حينما أؤكد أن كل ما يتم في هذا الشأن يعد مفخرة لمن يساهم ويسعى لإقامة واستدامة هذا الصرح المبارك- لا تضاهيها مفخرة، ووسام شرف لا يرقى إليه نائل ولا يصيبه طائر.
وكل عمل يصب في هذا الاتجاه، فانه بالإضافة إلى الأجر المعنوي الذي يلازمه، فهو مرآة عاكسة لإبداع مذهب أهل البيت في العالم. كما ذكرنا آنفا ونظراً للتصدعات التي تعرض لها الضريح الفعلي لأسباب متعددة، فإنه وبالتنسيق مع إدارة العتبات المطهرة في كربلاء المقدسة تقرر تخويل لجنة اعمار العتبات المقدسة في ايران فرع مدينة قم بهذا العمل المقدس، وهي لجنة شعبية تقوم بجمع التبرعات للقيام ببعض المشاريع في العتبات المقدسة ويتم التعامل حيالها كما يتم التعامل حيال جميع اللجان الإسلامية التي تعتني بالشأن نفسه. ومن الجدير بالذكر أن الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة قد أطلقت عنان التبرعات للمحسنين في داخل العراق وخارجه، لدعم المشاريع المزمع إقامتها في العتبة المطهرة وفقا للشروط والضوابط التي وضعتها خدمة للمصلحة العامة. وبلا أدنى شك أن المفاوضات التي أجريت وتكللت بإناطة إنشاء الضريح المقدس إلى اللجنة المذكورة هي من دواعي الفخر والاعتزاز والموفقية التي يرنو إزاءها كل من يرهف قلبه شوقا ووجدا لخدمة مخدوم الملائكة وريحانة الرسول، حيث أنه شرف ليس فوقه شرف لا يتلقاها إلا ذو حظ عظيم. والحقيقة التي لا غبار عليها أن استحداث الضريح المبارك للإمام الحسين يعد بحق عملاً جباراً عظيماً. وهذا العمل المضني بالرغم مما تعتريه بعض المشاكل والصعوبات، بيد أن نفحات الإمام الحسين (عليه السلام) تذلل كل تلك المشاكل وتخلد كل من شارك ويشارك فيها.
وقرار التخويل لم يتخذ اعتباطا وإنما اتخذ بعد المداولات المضنية التي عقدتها مع اللجان الشعبية بشأن الضريح الجديد، وبعد العروض المتعددة التي تقدمت بها الكثير من اللجان ومن كافة أنحاء العالم، وبعد متابعة استمرت لعدة أشهر للحصول على شرف استحداث الضريح المقدس من قبل اللجان المختلفة، فقد أبرمت الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة العقد مع اللجنة المذكورة، حيث أن المعايير الفنية المتخذة، قد رجحت كفة مدينة قم المقدسة، فتقلدت حينئذ شرف وفخر إنشاء الضريح المطهر والتي قامت بدورها بإجراء الاستطلاعات المختلفة داخل وخارج الحرم المطهر بالتنسيق الكامل مع لجنة الإعمار والصيانة التابعة للعتبة المقدسة، وبدأت بإنشاء الضريح المطهر وفقا للسياقات الفنية والمعمارية على أرض الواقع. وانتخاب اللجان المتبرعة إنما يكون على أساس أكاديمي تقني بحت بغض النظر عن الجهات الممولة شريطة أن يلتزم الجميع بمقررات أمانة العتبة المقدسة، التي تتوخى في عملها دائما وأبدا تقديم الأفضل والأحسن خدمة للإمام وزواره ورواده، فالحسين عليه السلام باب نجاة الأمة الإسلامية بل الإنسانية- نجاتها من التخلف والضياع إلى التقدم والكمال، لذلك كانت الدعوة تحمل في جنباتها إناطة ذلك العمل المهم إلى الخبراء المجربين والفنانين المبدعين في إنشاء ضريح يليق بصاحبه عليه السلام، فكانت الشروط المثالية في ظهور الضريح في حلته القشيبة تنطبق على تلك الشريحة أكثر من غيرها، لما قد تراكمت الخبرة لديهم في هذا الشأن لكثرة ما بحوزتهم من مراقد تابعة لأولياء الله المنتشرة في بلادهم. وبعد تكليفها بهذا العمل المقدس فقد بدأت اللجنة بالفعل عملها بتهيئة الخرائط والدراسات الأولية من خلال القيام بزيارة مصانع الأضرحة في مدينة أصفهان والروضة الرضوية في مدينة مشهد المقدسة والإطلاع الكامل على مراحل إنشاء الأضرحة من قبل المتخصصين في هذا الشأن، للحيلولة دون الوقوع في مشاكل ومطبات أثناء الشروع في هذا العمل المقدس.
هذا ما جاء في المطالعات المقدمة من قبل اللجنة المخولة التي أضافت أن مدة الانتهاء من إنشاء الضريح المقدس للإمام الحسين (عليه السلام) تستغرق عشرين شهراً، حيث أن القيمة الإجمالية للمشروع تبلغ حوالي 30 مليار ريال (حوالي خمسة مليار دينار عراقي) والمواد المستخدمة في صناعة الضريح هي: 3 طن فضة، و10 كيلو غرام ذهب، و2 طن خشب ساج أصلي، وأهابت تلك المطالعات أن هدايا المؤمنين من المفترض أن تكون على مستوى عظمة ومنزلة الإمام الحسين (عليه السلام).
وينبغي أن تكون التبرعات بعيدة كل البعد عن الرياء والسمعة وتكون خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى، هذا ما أشارت إليه الكثير من النصوص الإسلامية ويؤكد عليه دائما جميع المراجع الدينية من ضرورة التقرب إلى الله سبحانه في الإقدام على أي عمل ليضفي عليه هالة من القدسية والكمال.
بقلم : السيد حسن الهاشمي
https://telegram.me/buratha